21 Dec 2006

الفلسطينيون أمام الحرب الأهلية والمصيدة الاسرائيلية



ينزلق العالم العربى الى آتون الحروب الأهلية فى كل مكان من السودان الى العراق ومن لبنان الى الاراضى الفلسطينية، ينفذون، دون وعى منهم، الخطة التى فشلت فى تحقيقها كل من إسرائيل والولايات المتحدة فى تفتيت الدول العربية الى دويلات مذهبية.
لقد أصبح الفلسطينيون قاب قوسين من الحرب الأهلية. الشعب الفلسطينى الذى حارب دائما من اجل قضية واحدة، يجد نفسه اليوم ممزقا منذ أن مارس حقه الدستورى فى اختيار حكامه فى انتخابات ديمقراطية حرة، فأختار حماس، التى يعتبرها الغرب من المنظمات الإرهابية. وكانت النتيجة أن قام العالم الغربى وإسرائيل بمعاقبة الشعب الفلسطينى على اختياره ذلك، وقرر وقف المساعدات عنه من أجل إحراج الحكومة التى اختارها والضغط عليها من خلال تجويع شعبا كاملا، وتحويل غزة الى سجنا كبيرا. ولقد كتب عنها مراسل صحيفة الإندبندنت فى سبتمبر الماضى يصف الوضع بقوله: أن "غزة تحتضر".
لقد قام الإسرائيليون بمحاصرة القطاع الى حد أن بات سكانه على شفا المجاعة، وحذر المراقبون من أن "على سواحل البحر المتوسط مأساة حقيقية تتبلور ولكن العالم يتجاهلها، فى الوقت الذى يهتم فيه بالأحداث فى لبنان والعراق". وذكرت التقارير أن مجتمعا كاملا يدمر، ويعيش مليون ونصف فلسطينيا سجينا فى أكثر المناطق كثافة فى العالم، فقد أوقفت إسرائيل كل تجارة معها ومنعت الصيادين من التوغل بعيدا عن الشواطئ بحثا عن الصيد. فى نفس الوقت يقتل الإسرائيليون المدنيين كل يوم من خلال عمليات قصف مستمر للمدينة سواء من السماء أو من الأرض. فامتلأت المستشفيات بالمصابين والمقابر بالقتلى، اغلبهم من الأطفال والنساء والشيوخ. ومنعت إسرائيل إسماعيل هنية من الدخول بالأموال التى تلقاها كمساعدات والتى اضطر أن يجمعها أموالا سائلة بعد أن منعت البنوك التداول والتعامل مع حكومة حماس.
وعندما وصل الشعب المقاوم الى أخر زاده، وقفت عجوز أمام مخيمها تواجه القوات الإسرائيلية الغازية، وقد حملت حول جسمها الذى أصابه الوهن، حزاما من المتفجرات لتفجير نفسها مع الإسرائيليين، انتقاما لحفيدها الذى قتلته القوات المغيرة، وحفيدها الأخر الذى سيعيش حياته على كرسى متحرك بعد أن فقد ساقه وهدم منزلها.
أخيرا عندما قرر الشعب الفلسطينى حماية زعماءه بأجسادهم تراجعت إسرائيل، وبدأت تدرك إن حربها تلك قد تثير ضدها العالم أجمع. فانسحبت، ولكنها لم تستسلم. بل غيرت تكتيكاتها، فبدلا من أن تقوم قواتها بمهمة إبادة الشعب الفلسطينى، وهى مهمة قد تثير ضدها عداء العالم أجمع، قررت أن توكل تلك المهمة الى آخرين. فبدأت تغذى مشاعر الكراهية بين أبناء الشعب الفلسطينى نفسه ضد حكامه، وتنمى الصراع بين الرئاسة التى تمثل فتح، والحكومة التى تمثل حماس.
وفى نفس الوقت، بدأت الولايات المتحدة تدرب قوات الرئاسة للدفاع عن الرئيس عباس، ثم قررت إسرائيل السماح بدخول قوات بدر التابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية المرابطة فى الأردن الى الأراضى الفلسطينية، وذكرت التقارير أن ذلك يعتبر خطوة لتعزيز وضع أبا مازن العسكرى فى حال وقوع أى مواجهة عسكرية مع حماس.
وكان أولمرت قد سمح بدخول بعض الأسلحة من الأردن لحرس الرئاسة الفلسطينية قبل شهور قليلة قيل وقتها بأنها نحو 950 قطعة سلاح. وزيادة فى الإغراءات أعرب أولمرت عن استعداده للتنازل عن أراضى من اجل دعم أبا مازن، إذ قال فى حديث للإذاعة البى بى سى أن إسرائيل مستعدة للانسحاب من العديد من المناطق، دون أن يحدد تلك المناطق أو مساحتها أو موعد الانسحاب.
فى نفس الوقت دعم الاتحاد الأوروبى موقف إسرائيل من خلال رفضه الخطة التى قدمتها فرنسا وأسبانيا وايطاليا، والتى تدعو الى عقد مؤتمر دولى للشرق الأوسط وهو المؤتمر الذى ترفضه إسرائيل دائما. ورفض الاتحاد الأوروبى الخطة على أساس إنها، كما قالت الدول الأعضاء: "موالية للعرب".

لقد نصبت إسرائيل فخا للشعوب العربية، تسقط فيه الواحدة بعد الآخرى. ولكن الشعب الفلسطينى الذى عاش ما يقرب من ستين عام يقاوم الاحتلال بجسده قبل سلاحه، هل يسقط فى المصيدة هو الأخر؟

تأكيد السلاح النووى الاسرائيلى.. غضب فى الداخل وإحراج فى الخارج


أثارت تصريحات أيهود اولمرت رئيس وزراء إسرائيل غير المقصودة، حول امتلاك إسرائيل للسلاح النووى موجة من الانتقادات فى الداخل، ودهشة وإحراج فى الخارج.
ففى حديث للتليفزيون الألمانى، "أخطأ" إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الإسرائيلي، وقال ردا على سؤال من الصحفى حول السلاح النووى الإيرانى: "أن إيران تهدد علنا وبوضوح وبلا مواربة، إزالة إسرائيل من على الخريطة. هل تقول أنهم عندما يأملون فى الحصول على السلاح النووى، يقع ذلك على نفس مستوى الدول الأخرى، مثل أمريكا وفرنسا وإسرائيل وروسيا؟" فعندما ذكر إسرائيل مع الدول النووية الكبرى الأخرى أكد أولمرت ضمنيا ولأول مرة منذ أكثر من خمسين عام، عن امتلاك إسرائيل للسلاح النووى. وفى نفس الوقت، ذكر روبرت جيتس، المرشح لتولى منصب وزير الدفاع خلفا لدونالد رامسفيلد، قبل أسبوع أن إسرائيل احدى القوى النووية فى المنطقة، مما أثار موجة من الغضب فى إسرائيل ضده.
قال البعض أن تلك العبارة هى زلة لسان من رئيس الوزراء، واعتبرها البعض الأخر تغييرا فى استراتيجية إسرائيل تجاه سلاحها النووى. ورأى البعض الثالث، أن على أولمرت الاستقالة من منصبه لأنه يضع أمن إسرائيل فى خطر، بينما يجد آخرون تصريحات المسئول الاسرائيلى هى من الأمور الطبيعية فى العصر الحالى..
فما هو تاريخ السلاح النووى الإسرائيلى؟ ولماذا لا تؤكد إسرائيل ولا تنفى امتلاكها للقنبلة النووية منذ أكثر من نصف قرن؟ ولماذا تهدد "زلة لسان" أولمرت اليوم أمن البلاد؟ ولماذا تغضب السياسيين فى الداخل؟ ولماذا تحرج بعض الدول فى الخارج؟
لقد أثارت تصريحات أولمرت غضب فى الداخل لأن امتلاك إسرائيل للقنبلة النووية، رغم انه لم يكن سرا لأحد، إلا أنه ظل منذ الخمسينات من القرن الماضى يتأرجح من السرية الى الإنكار الى الغموض ثم اللاشفافية. فمن خلال سياسة "لا إنكار ولا اعتراف" بملكيتها للسلاح النووى أرادت إسرائيل ان تؤثر فى سياسات الدول الأخرى، وخاصة الدول العربية، وفى نفس الوقت لا تتحمل المسئولية التى تقع على عاتق الدولة النووية التى تعلن عن نفسها، ومطالبة الدول لها بالانضمام الى اتفاقية حظر الانتشار النووى.
ولقد ظلت إسرائيل على تلك السياسة منذ أن بدأت الفكرة تراود ديفيد بن جوريون، الذى أصبح فيما بعد أول رئيس وزراء لإسرائيل، منذ عام 1947 حتى قبل إقامة الدولة الإسرائيلية. ولم تتحقق إلا فى الخمسينات عندما تجمعت العناصر الأساسية التى سمحت بتحقيقها، وهى: تحالف ثلاثة رجال هم بن جوريون، رئيس الوزراء الذى تصور ان القوة النووية هى التى ستحل للدولة الجديدة المشكلة الأمنية ووجد مبرر بناءها فى العداء الذى واجهه من الدول العربية، وارنست ديفيد برجمان العالم الكيميائى، الذى قام بوضع التفاصيل العملية للمشروع، ورأس لجنة الطاقة النووية الإسرائيلية التى نشأت فى عام 1952، وشيمون بيريز، الذى كان يتولى منصب مدير عام فى وزارة الدفاع الإسرائيلية، اكبر منصب مدنى فى الوزارة، والذى سعى الى إيجاد الدولة الأوروبية التى يمكن أن تساعدهم فى بناء السلاح النووى. وفى نهاية الخمسينات أصبحت إسرائيل سرا، القوة النووية الوحيدة فى الشرق الأوسط.
من جهة أخرى، أثارت تصريحات أولمرت، التى وصفها البعض بأنها "غير مسئولة" من رجل مسئول، الدهشة والحرج فى الخارج. ومن بين أكثر الدول التى قد تشعر بالحرج هى فرنسا التى أختارها شيمون بيريز فى الخمسينات لتكون الدولة التى تمدهم بالمفاعل والتسهيلات الآخرى التى تحتاجها الدولة العبرية، وذلك رغم ان فرنسا فى ذلك الوقت لم تكن تملك السلاح النووى بعد. وظل الأمر سرا فقد كانت المسألة غير مسبوقة، وتركزت مخاوف فرنسا من أن يؤدى انكشاف السر الى تدمير صورة فرنسا فى العالم، خاصة العالم العربى. ويقول الكاتب الاسرائيلى افنير كوهين فى كتابه "إسرائيل والقنبلة" الذى صدر قبل عدة سنوات، أن الجانب الفرنسى أصر على أن يوقع الجانب الاسرائيلى على وثيقة تنص على أن التعاون ينحصر فى مجال البحث العلمى، وعلى بقاء الوثائق بين البلدين سرا وهو ما حدث حتى الآن.
ولكن رغم أن الأحداث تغيرت، وأوقف الرئيس الأسبق شارل ديجول التعاون النووى مع إسرائيل فى الستينات، إلا ان الإحراج الفرنسى مستمر وهو ما يمنعها من الضغط على إسرائيل من اجل الإعلان صراحة بامتلاكها السلاح النووى، كما إنها لا تستطيع أن تزعم عدم المعرفة حيث إنها الدولة الوحيدة فى الغرب التى تعرف كل تفاصيل بناء المفاعلات. وذلك رغم تصريحات المتحدث الفرنسى باسم الخارجية فى الأسبوع الماضى، الذى أكد أن فرنسا تؤيد ابرام اتفاقية بين كل الدول تمنع تماما كل اختبارات نووية وتؤيد عدم الانتشار النووى، وأكد المتحدث أن ذلك يعنى كل الدول بما فيهم إسرائيل. واعلن المتحدث فى نفس الوقت أن فرنسا تؤيد الاقتراح المصرى بإعلان منطقة الشرق الأوسط خالية من السلاح النووى، وهو بالنسبة لفرنسا البديل المناسب لانضمام إسرائيل الى اتفاقية حظر الانتشار النووى.
أما الدولة الثانية التى تشعر بالحرج فهى الولايات المتحدة التى لم تشركها إسرائيل فى سرها فى ذلك الوقت، ولم تكشفه الا فى عام 1960 بالصدفة، عندما قام رجل مخابرات امريكى بالتقاط صور من الفضاء لموقع بير شيبا وهو الاسم الذى اعطى لمفاعل ديمونة، عندما كانت الولايات المتحدة تقوم بعملية مراقبة دورية لتدريب اسرائيلى فى صحراء النقب. ولم تفهم الولايات المتحدة فى البداية حسب قول الباحث افنير كوهين فى كتابه، حقيقة ديمونة، إلا بعد عامين. ويقول الباحث الاسرائيلى فى كتابه "إسرائيل والقنبلة" أن رغم علم إدارة ايزنهاور بالمشروع منذ نهاية الخمسينات إلا إنها صمتت ولم تواجهه بأى تصرف، مما يشير الى أن الولايات المتحدة أرادت أن يتم معاملة مفاعل إسرائيل كقضية خاصة وبالكثير من الحذر.
أما الرئيس الامريكى السابق جون كنيدى فكان قلقا من مخاطر الانتشار النووى التى قد تهدد الأمن الامريكى ومصالحه، كما أعرب عن مخاوفه من انتشار عدم الاستقرار فى المنطقة. وكان مصمما على أن تتخلى إسرائيل عن برنامجها النووى. وتوترت العلاقة بين كنيدى واسرائيل.
ويقول الكاتب الاسرائيلى فى كتابه: "في نوفمبر عام‏1963,‏ قتل جون كنيدي‏,‏ واستكمل بناء مفاعل ديمونه في عام‏1966‏ ليكون عاملا غير مباشر لشن الحرب ضد مصر في عام‏1967,‏ ولن يعرف احد أبدا كيف كان سيتغير التاريخ النووي الاسرائيلي ان كان قد عاش الرئيس كنيدي لفتره رئاسيه ثانيه"‏.‏
وأخيرا أدى الإعلان غير المقصود، إن كان بالفعل غير مقصود، الى إحراج العالم العربى الذى ظل يعرف عن يقين أن إسرائيل تملك السلاح النووى، ولكنه لم يواجه المسألة كواقع، ولكن اليوم يجب عليه أن يضع استراتيجية أخرى ويحدد أن كان يريد الضغط لفرض اتفاقية حظر الانتشار واخلاء المنطقة من السلاح النووى؟ أن أن نظل نتعامل مع الموضوع مثل إسرائيل بنوع من "اللا شفافية"؟

3 Dec 2006

اغتيال الجميل.. حلقة فى سلسلة من الاغتيالات

جاءت عملية اغتيال بيير الجميل حلقة فى سلسلة لن تنتهى الآن، من الاغتيالات السياسية فى الشرق الأوسط، سواء فى الاراضى الفلسطينية او فى لبنان التى شهدت على مدى السنوات الماضية خمس عمليات اغتيال لشخصيات سياسية وفكرية وصحفية، ومحاولات لم تنجح استهدفت البعض الأخر. وتوالت بسرعة الاتهامات ضد سوريا وحزب الله، كما حدث فى وقت اغتيال رفيق الحريرى رئيس الوزراء الأسبق، عندما وجهت إسرائيل والغرب المتمثل فى فرنسا والولايات المتحدة، إتهامات وإدانات الى سوريا بعد الاغتيال بساعات قليلة، وقبل أى تحقيق أو محاكمة.
ولكن المهم الآن وقبل التحقيق، ليس معرفة من الفاعل، ولكن من المستفيد؟ من المستفيد الأكبر فى إشعال الفتنة مرة أخرى فى دولة مثل لبنان، التى عرفت على مدى تاريخها بالتوازن والتعايش الثقافى والدينى، والتى طالما كانت نموذجا فى الشرق الأوسط للحوار بين الحضارات؟ ومن المستفيد فى هذا التوقيت بالذات أن تعود سوريا لتكون فى عين العاصفة بعد أن ألمحت واشنطن الى إمكانية إجراء حوار مع سوريا وإيران لحل أزمة العراق؟

تتراوح التحاليل السياسية فى الخارج ما بين إدانة سوريا وحزب الله، وبين إدانة إسرائيل وواشنطن. فيرى بعض المحللين السياسيين، أن سوريا هى أكثر الأطراف استفادة من عودة الإضطراب الى لبنان، لأنها تسعى للانتقام من إجبارها على الانسحاب منها بعد أكثر من 30 عام من الوجود العسكرى فيها. ورغم خروجها العسكرى من لبنان، إلا أن المصادر تؤكد أنه لازال لها وجود مخابراتى قوى فى لبنان، يقوم بمثل تلك المهام.
ولكن من ناحية أخرى يرى البعض الأخر أن عملية الاغتيال هى امتداد للحرب التى شنتها إسرائيل ضد الجنوب اللبنانى فى الصيف الماضى، والتى راح ضحيتها 1300 مواطن لبنانى، وهى محاولة جديدة للانتقام من حزب الله الذى أعلن انتصاره على الجيش الاسرائيلى الذى اعتبر نفسه لا يقهر؛ كما يرى المحللون أن الاغتيال هو محاولة أخرى لإضعاف البلد الذى يمثل الجناح الغربى لإيران.
يرى البعض الأخر من المحللين السياسيين، عملية الاغتيال كمحاولة تستهدف سوريا أيضا، حيث انه من المؤكد أن الأنظار ستتجه اليها وسوف تتهم فى تلك العملية، كما اتهمت فى عملية اغتيال الحريرى، كأمر مسلم به.
أن من الواضح أن اغتيال بيير الجميل جاء فى وقت بالغ الحساسية، فقد جاءت العملية وقت الاحتفال باستقلال لبنان، وقبل يوم من قرار تحويل جريمة مقتل الحريرى الى محكمة دولية، للتغطية على القرار ولفت الانتباه الى جريمة أخرى.
كما جاء فى وقت كانت العلاقات بين إسرائيل وفرنسا قد بدأت تشهد اضطرابا عنيفا بسبب استمرار قيام إسرائيل بعمليات تحليق جوى فوق لبنان وفوق القوات الفرنسية التابعة للقوات الدولية على الحدود، فى انتهاك واضح لقرارات وقف إطلاق النار، ورغم تحذير القوات الفرنسية التى أعلنت انه كادت أن تقع اشتباكات بين القوتين. فجاء الاغتيال ليعيد فرنسا الى مربع إسرائيل والولايات المتحدة الحلفاء الطبيعيين لديها ضد سوريا وحزب الله.
وأخيرا، جاءت العملية بعد يوم من عودة العلاقات بين العراق وسوريا، غداة زيارة وزير الخارجية السورى للعراق فى محاولة لرأب صدع العلاقات بعد 25 عاما من الاضطرابات المستمرة. وفى نفس الوقت دعت إيران كل من سوريا والعراق الى لقاء ثلاثى فى طهران، وهو تحالف جديد من شأنه أن يثير مخاوف عميقة من جانب الولايات المتحدة وإسرائيل.
فى تلك الظروف، لن تحاول سوريا إفشال خططها فى المنطقة بالقيام بعملية اغتيال يكون لها صدى "إعلامى" دولى، مثل اغتيال شخصية سياسية لبنانية مثل بيير الجميل الذى ارتبط اسمه بتاريخ البلاد، بدأ من جده بيير الجميل الذى اسس حزب الكتائب وعقد اتفاقا مع إسرائيل رغم انه تحالف "فرض عليه"، ثم عمه بشير الذى اغتيل بعد انتخابه رئيسا للبنان واتهامه بالتحالف مع إسرائيل، ثم والده أمين الذى تولى الرئاسة خلفا لشقيقه. كما لن يحاول حزب الله، الذى ارتبط اسمه بسوريا، والذى تحول الى بطل عسكرى وقوة سياسية بعد حربه ضد إسرائيل ومنعها من تنفيذ خطتها لاحتلال الجنوب اللبنانى والاستيلاء على مياه نهر الليطانى، أن يضيع انتصاره هذا فى عملية من شأنها أن تثير حربا أهلية جديدة يكون هو أول الخاسرين فيها.
أما بالنسبة للعراق، فان اتهام سوريا بالاغتيال سوف يفشل أية محاولة للتقارب بين الدولتين، والذى تم بهدف وقف حمامات الدم التى تشهدها العراق منذ انتهاء "المعارك" كما تطلق عليها امريكا. واستمرار الحرب فى العراق، وتحولها الى حرب أهلية دموية، هى أفضل سيناريو بالنسبة لإسرائيل التى قال رئيس وزراءها ايهود اولمرت فى زيارته الاخيرة للولايات المتحدة، غداة هزيمة الحزب الجمهورى فى انتخابات الكونجرس، انه يساند الرئيس بوش لأنه "يعلم أن العراق بدون صدام حسين أفضل كثيرا لأمن إسرائيل.." ويعمل أيضا على إفشال مبادرة جيمس بيكر وزير الخارجية الأسبق، الذى يسعى لإعطاء واشنطن فرصة لخروج كريم من العراق.
فى نفس الوقت، يعلم أولمرت أن استمرار عمليات الاغتيال فى لبنان سيبقى على خريطة الشرق الأوسط الجديد حية، وهى الخريطة الى تستهدف تفتيت الدول الكبرى فى المنطقة وتحويلها الى مناطق مذهبية ودينية، مثل قيام دولة شيعية واخرى سنية وثالثة كردية ورابعة قبطية وخامسة مسيحية وسادسة درزية وسادسة...، ووسط تلك الخريطة المذهبية سيكون من الطبيعى أن توجد دولة يهودية، ولكن هى التى سيكون لها اليد العليا اقتصاديا وعسكريا وسياسيا فى الشرق الأوسط الكبير. فترى من المستفيد الأكبر، وربما الوحيد، فى عملية اغتيال بيير الجميل؟

كتب: "60 عام من الصراع العربى الاسرائيلى"

الحوار اللبناني المتعدد الثقافات يجب أن يظل نموذجا يحتذى به العالم
لبنان يضم 18 طائفة مختلفة وشهد على 12 حضارة
بيريز: إسرائيل تصورت أن المسيحيين هم حلفاءها فى لبنان
ولكن بشير الجميل رفض هذا التحالف بعد انتخابه رئيسا فى عام 1982
شعار المجتمع اللبنانى: الوحدة فى الاختلاف، والاختلاف يؤدى الى التكامل

أغتيل بيير الجميل وزير الصناعة اللبنانى، يوم الثلاثاء الماضى، 21 نوفمبر، فى الساعة الثانية والربع ظهرا. وقبل اقل من ساعة كانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية، تسيبنى ليفنى، تتهم سوريا وتقول فى تصريحات لها: "أن الدور السلبى لسوريا فى لبنان، ليست مسألة جديدة أو غير متوقعة"، تماما مثلما حدث فى فبراير عام 2005 يوم مقتل رفيق الحريرى رئيس الوزراء اللبنانى السابق، فى عملية إغتيال بشعة، فى ذلك اليوم كان وزير الخارجية الاسرائيلى فى زيارة لفرنسا، وبعد ساعة من العملية وفى مؤتمر صحفى عقده مع نظيره الفرنسى فى مبنى الخارجية الفرنسية، فى ختام مباحثاتهما، أتهم مباشرة سوريا، وكأن إسرائيل كانت مستعدة للحدث، مثلما كانت مستعدة لحادث بيير الجميل.
هل لبنان باتت اليوم على شفا حربا أهلية، مثل تلك التى تتفجر فى العراق؟ ومثل تلك التى تفجرت فى منتصف السبعينات من القرن الماضى فى لبنان؟ هل التعدد الثقافى اللبنانى عامل من العوامل التى تعد دولة الى حرب أهلية؟ أم عامل يعدها للحوار الثقافى؟ وهل هناك علاقة بين إغتيال بيير الجميل واغتيال عمه بشير الجميل قبل 23 عاما، عقب انتخابه رئيسا للبنان، ورفضه التعاون مع إسرائيل، رغم اعتباره "مرشح إسرائيل"؟ وبين اغتياله وبين دور جده بيير الجميل وتحالفه مع الإسرائيليين فى السبعينات من القرن الماضى؟
كل تلك الأسئلة تدافعت بعد إغتيال بيير الجميل، وهو الاغتيال، مثل قبله، أدانته جميع الطوائف اللبنانية، من حزب الله الى المارونيين الى الحكومة التى انسحب منها وزراء حزب الله، كما أدانتها كل الدول المجاورة من سوريا الى إسرائيل، وكذلك الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. الجميع أدانها، بينما أتهم كل جانب الجانب الأخر، فى عملية الإغتيال، كما حدث فى مقتل بشير الجميل. لتعود لبنان مرة أخرى ساحة للمعارك الخارجية.
ولكن، فى عام 1982، وبعد مقتل بشير الجميل قرر جيش لبنان المسيحى، جيش الجنوب الموالى لإسرائيل بقيادة حبيقة الانتقام، فقام بارتكاب مذبحة صابرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين، حيث تم ذبح أكثر من 1200 فلسطينى تحت سمع وبصر الجيش الاسرائيلى الذى وقف خارج المعسكرين يحمى جيش الميليشيات اللبنانى. فهل مقتل بيير الجميل سيفجر مذبحة جديدة، هذه المرة بين المسيحيين وحزب الله؟

شرح شيمون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، واحد الشخصيات الإسرائيلية المؤثرة فى تاريخ الدولة العبرية، هذا الدور وهذه العلاقة بين إسرائيل وعائلة الجميل، فى كتاب "ستون عام من الصراع العربى الاسرائيلى" الذى قام فيه بحوارات متبادلة مع الدكتور بطرس بطرس-غالى حول تاريخ المنطقة خلال الستين عام الماضية من الصراع العربى الاسرائيلى، وصدر فى باريس فى الصيف الماضى.
بالنسبة لشيمون بيريز، كما كان الأمر بالنسبة لإسرائيل منذ نشأتها، لم تكن لبنان جزءا من الأمة العربية والإسلامية، لان غالبيتها كانت من المسيحيين الذين حسب قوله، يركزون على التجارة والاقتصاد، أكثر من تركيزهم على الخطاب العقائدى الراديكالى السائد حولهم. وأرجع بيريز هذا التقارب بين مسيحيى لبنان واسرائيل أنهم كانوا "أقلية فى عالم إسلامى، وانهم كانوا يشعرون بالخوف من المناطق الشيعية، ومن جارهم الكبير السورى الذى، حسب قول بيريز، كان يعتبر لبنان جزءا لا يتجزأ منه.
ولكن الدكتور بطرس غالى نفى تلك الفكرة وقال أن كل السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان قامت على سلسلة من الأخطاء فى الرؤية وفى التحليل. لأن حسب رأيه، كان المسيحيون اللبنانيون معادين لإسرائيل أكثر من العرب المسلمين، ويشعرون بالخوف من وجود دولة إسرائيلية على حدودهم، تعمل على ضم جنوب لبنان اليها. وذكر الدكتور بطرس غالى أن خريطة دولة إسرائيل التى قدمتها منظمة الصهيونية العالمية الى مؤتمر السلام الذى انعقد فى فيرساى عام 1919، كانت تضم جنوب لبنان حتى نهر الليطانى. وأكد الدكتور بطرس كيف أن المسيحيين فى لبنان، مثل هؤلاء فى سوريا، هم لاعبون أساسيون فى العروبة الشاملة، وان الأقلية سواء كانوا مارونيين أو أقباط أو دروز، أدركوا تماما أن التحالف مع محتل الساعة، سواء كانوا فرنسيين أو إنجليز أو إسرائيليين، لا يدوم، وان من مصلحتهم التعايش بأفضل ما يكون مع الأغلبية المسلمة. وفى رأى الدكتور بطرس أن تحالف البعض مع إسرائيل ليس معناه أنهم قبلوا الواقع الاسرائيلى، بل كانوا يبحثون فقط عن وسيلة لتقوية وضعهم فى الصراع الدائر داخل لبنان.


"نحتاج الى ضابط مارونى"
فى عام 1955 قال موشيه شاريت، رئيس الوزراء إسرائيل فى ذلك الحين، أن موشيه دايان صرح له قائلا: ""كل ما نحتاجه، هو أن نجد ضابطا، قد يكون مجرد برتبة كابتن، لنكسبه فى صفنا، أو أن نستأجره لكى يقدم نفسه على انه منقذ الشعب المارونى. فى هذه الحالة يمكن أن يدخل الجيش الاسرائيلى لبنان، ويصبح سيد الاراضى الضرورية ويقيم حكومة مسيحية تكون حليفا لإسرائيل. أما المنطقة التى تقع جنوبى نهر الليطانى فنضمها بالكامل إلى إسرائيل."
لم ينف بيريز تلك القصة، بل وأشار الى زيارة سرية من كل من بشير الجميل ودانى شمعون، فى عام 1974 الى شيمون بيريز وكان وزيرا للدفاع فى ذلك الوقت، وقال بيريز إنهما طلبا منه مساعدة إسرائيل، وأشارا له أنهم جميعا يحاربون نفس العدو. ولقد تعهد بيريز أن يقوم بمساعدتهما فى مجال تدريب قواتهما، وسوف يتدخل فقط أن كانا فى خطر يهدد بالموت. كانت إسرائيل على قناعة تامة من أنها تستطيع إقامة سلام مع لبنان فى حالة وجود رئيس مسيحى، وخاصة بشير الجميل رئيسا للبنان، وكان السلام مع لبنان مسألة مهمة لإسرائيل بسبب مياه نهر الليطانى فى الجنوب، والذى تحتاجه إسرائيل بشدة.
فى تلك الفترة كانت الساحة اللبنانية تعج بالكثير من الصراعات: فكانت القوات السورية قد دخلت بطلب من المسيحيين المارونيين، وكانت المعسكرات الفلسطينية مستقرة فى الجنوب وترسل فدائييها لضرب إسرائيل، وكانت قوات الأمم المتحدة عند السواحل. وكانت الحرب الاهلية مشتعلة فى البلاد. وفى يونية عام 1982، قررت حكومة بيجين المتطرفة، والتى كان يتولى آرييل شارون فيها منصب وزير الدفاع، أن تقود عملية واسعة النطاق فى الجنوب اللبنانى تهدف الى تدمير القواعد الفلسطينية فيها، وبالفعل بعد يومين من القصف الاسرائيلى احتلت القوات الإسرائيلية الجنوب وبدأت عملية "سلام فى الجليل". كان هدف شارون انهاء الوجود الفلسطينى فى لبنان فى ذلك الوقت، وبالفعل تمكن من طرد عرفات وقوات فتح من لبنان.
فى اليوم التالى لانسحاب مقاتلى فتح انتخب البرلمان اللبنانى بشير الجميل رئيسا. كان من الواضح انه "مرشح إسرائيل". زعم البعض أن الإسرائيليين كان لهم يد فى هذه الانتخابات. نفى بيريز ذلك، وقال لا اعتقد. فالانتخابات اللبنانية مسألة خاصة جدا، حيث تتداخل مؤثرات متناقضة- عائلية وعلاقات شخصية ومالية وشبكات، الخ.- لذا لا اعتقد أن أكثر الإسرائيليين حذقا يمكنه أن يجد مدخلا فيها. إلا أن الدكتور بطرس غالى أكد أن الإسرائيليين لعبوا دورا أساسيا فى انتخاب بشير الجميل. أولا، قامت القوات الإسرائيلية بحراسة عددا من النواب فى أثناء توجههم الى جلسة البرلمان؛ ثم قامت المخابرات الإسرائيلية بشراء بعض الأصوات؛ وأخيرا، تم نقل نائب أو اثنين من البقاع بالطائرات المروحية الإسرائيلية الى المدرسة الحربية فى بعبدا حيث تمت الانتخابات.. "فلا تقول لى أن إسرائيليين لم يلعبوا دورا فى انتخاب بشير الجميل!"
ولكن الأخطر من ذلك، حسب قول الدكتور بطرس غالى، هو أن فى كل العالم العربى، سيعتبر بشير الجميل هو أول رئيس دولة عربية يتم اختياره ومساندته من قبل إسرائيل، وهو ما أثبت، فى نظر دول جبهة الرفض رغبة إسرائيل فى الهيمنة على العالم العربى مع كل ما يمثله ذلك من مخاطر على مستقبل العروبة.
وان كان بيريز قد نفى ذلك، فى حواره مع بطرس غالى، إلا انه أكد أن "بيجين وشارون كانا يأملان بقوة فى انتخاب بشير، معتقدين أن ذلك سوف يسمح بالتوصل الى سلام حقيقى مع اتفاقيات التعاون التى تم إعدادها". مع ذلك، قبل الانتخابات بوقت قليل، أجرى بيجين اتصالا مع بشير. وقال بيريز: "اتذكر انه اختفى خلال ليلة بأكملها، وعندما سألناه عن السبب أجاب قائلا: "لا يجب أن تسألوا رجلا محترما أين قضى ليلته." الحقيقة انه ذهب لمقابلة بشير ومعه شارون، وعاد من اللقاء سعيدا جدا، وأدلى بتصريحات لا تعقل، ألمح فيها الى أننا سنقيم سلاما مع لبنان. كان ذلك وهما، لم أصدقه إطلاقا".
تساءل منسق الحوار، اندريه فيرساى، عما كان يتوقعه الإسرائيليون من بشير الجميل، وان كان بيجين يأمل فى عقد معاهدة سلام سريعة مع لبنان من خلاله وان بشير رفض ذلك؟ أجاب الدكتور بطرس غالى الى أن ": قبل الانتخابات، كان بشير فى حاجة الى مساعدة الإسرائيليين. ولكن من اليوم التالى، لم يعد فى حاجة اليها. لذا فمن الطبيعى ان يبتعد عن إسرائيل، وهو الشرط الرئيسى أن كان يريد أن يكون رئيسا لكل اللبنانيين وليس متعاونا مع إسرائيل. لذا سيرفض توقيع معاهدة سلام وكذلك كل مشروع تحالف لبنانى-اسرائيلى".
ولكن بيريز اكد على أن الجانبين " عاشا فى أوهام حول الالتزامات العسكرية والسياسية التى كان كل جانب على استعداد لاتخاذها: تصور المارونيون أننا سنتحمل مسئولية حربهم، وتصور بيجين أن المارونيين سوف يتبنون مواقفنا ويصبحون على الفور نوعا من الطليعة الموالية لإسرائيل. ذلك كان يفتقد للحصافة: فكان لابد لكل جانب أن يراعى مصالحه الخاصة ويحارب بنفسه من اجل الدفاع عنها. واقصى ما كان يمكننا أن نأمل تحقيقه، هو الوحدة بين العائلتين المارونيتين الكبيرتين، الجميل وشمعون."
قتل بشير بعد انتخابه رئيسا للبنان فى عام 1982، وتولى شقيقه امين الجميل الرئاسة من بعده، ويتساءل المنسق الفرنسى أن كان مقتل البشير وضع حدا لأمال إسرائيل فى إقامة سلام مع لبنان؟ ورد بيريز قائلا: " لقد كانت ضربة قوية تلقاها الليكود الذى وضع أمالا كبيرة فيه، واقل بالنسبة لنا، المعارضة، حيث إننا لم نكن نصدق أحلام بيجين".
هل كان لسوريا يد فى هذه العملية كما اتهمتها إسرائيل، كما تتهمها اليوم فى حادث مقتل بيير الجميل؟ ما نعرفه هو أن اغتيال بشير جاء بعد انتخابه رئيسا للبنان، وبعد رفضه التعاون مع إسرائيل. وعلى اثر مقتله قامت قوات الميليشيات، بقيادة المسيحى حبيقة، بالهجوم على معسكرى صابرا وشاتيلا الفلسطينيين مدفوعا برغبة قوية للانتقام. وان الهجوم الذى أسفر عن مذبحة بشعة للفلسطينيين، تم تحت سمع وبصر وحماية القوات الإسرائيلية. بل وحسب قول الدكتور غالى: "تواطؤ من الإسرائيليين. بداية، انطلقت صواريخ مضيئة من الجيش الاسرائيلى من اجل تسهيل عملية دخول الميليشيات الى المعسكر. بعد ذلك، بعد الانتهاء من المذبحة، تدخلت البولدوزورات الإسرائيلية لتدمير المنازل الصفيح للمعسكرات. وأخيرا، هذه البولدوزورات قامت بحفر قبور جماعية حيث تم القاء جثث ضحايا المذبحة. وبناء على التقارير التى حصلنا عليها، تم إزالة كل علامة تشير الى وجود بولدوزورات اسرائيلية. وفى التصريحات التى أدلت بها الحكومة الإسرائيلية بعد المذبحة، وجدت انه من الافضل ألا تدين حلفاءها، الميليشيات، واكدت أن المجزرة هى من عمل وحدات لبنانية تم ادخالها الى المعسكرات. ولكن كان ذلك جهدا ضائعا، لان مذبحة معسكرى صابرا وشاتيلا الفلسطينيين سوف تلطخ الى الابد صورة إسرائيل وترفع عنها تأييد المجتمع الدولى".
وفى عام 1983 تعرضت قوات الأمم المتحدة لهجوم عنيف اسفر عن مصرع 59 جنديا فرنسا و241 أمريكيا، مما دفع القوات الدولية الى مغادرة المكان فى العام التالى.

هل كانت لبنان مهيأة طائفيا الى حرب أهلية؟ وهل حسب قول بيريز، "فقدت كل السلطات فيها شرعيتها، أى شخص يمكن أن يدعى الشرعية. لبنان لم يعد دولة متحدة، إنها منطقة تتكون من اقطاعيات صغيرة، كلها دول داخل الدولة، التى من جانبها لم تعد موجودة"؟ وهل تكوين جيش لبنان المسيحى، واعلان "دولة لبنان الحرة" فى الجنوب فى عام 1979، انعكاسا لتقسيم لبنان طائفيا؟ وهل سعت إسرائيل الى هذا التقسيم حتى تستطيع، كما فعل الفرنسيون فى الجزائر، والالمان النازيون فى الاتحاد السوفيتى، " السيطرة عليها، وذلك على غرار ما فعله الفرنسيون خلال فترة انتدابهم لسوريا".

وهل لبنان اليوم مهيأة لنفس الظروف؟ خاصة وأنها تعج بالطائفية رغم انسحاب القوات السورية منها بعد مقتل رفيق الحريرى فى العام الماضى، وبعد فشل محاولة إسرائيل الثانية احتلال جنوبها؟ هل تعمل إسرائيل مرة أخرى على إشعال فتيل الحرب الأهلية للانتقام من جيش حزب الله الذى هزمها فى حربها الأخيرة ومنعها من احتلال الجنوب؟ كل تلك الأسئلة ستظل بلا إجابة مؤكدة، مثل كل التساؤلات السابقة. ولكن من المؤكد أن حربا أهلية هى فى صالح إسرائيل اليوم التى تشهد على تدهور وضعها فى غزة والاراضى الفلسطينية وتفقد تدريجيا تأييد الغرب خاصة فرنسا التى وجهت نوعا من الإنذار اليها بعد تحليق طائراتها فوق مواقع القوات الدولية، وخاصة تلك التى تشارك فيها فرنسا، وكاد الأمر يصل قبل أسابيع قليلة الى مواجهات عسكرية بين الطائرات الإسرائيلية والمواقع الفرنسية الدولية.


التعددية الثقافية سند للحوار
بقدر ما هناك مخاوف من أن تؤدى التعددية الثقافية اللبنانية الى إشعال الحرب الأهلية مرة أخرى فيها، بقدر ما أن نفس تلك التعددية تعطى الأمل فى إمكانية إقامة الحوار بينهم. فان فشل الحوار الثقافى فى لبنان يعنى بلا شك، فشله فى أى مكان أخر.
ففى العام الأول من الألفية الثالثة، عقدت منظمة الفرانكفونية مؤتمرها الدولى للحوار بين الثقافات، ووقع اختيارها على بيروت لتكون هى المدينة المضيفة للمؤتمر. ولم يكن اختيار لبنان لعقد المؤتمر، عشوائيا. لبنان التى تضم 18 طائفة مختلفة، وشهدت على 12 حضارة متعددة. وان كانت الحرب الأهلية إشارة الى احتمال هزيمة الحوار، إلا أن بهجت رزق، الكاتب والمفكر اللبنانى، اكد فى كتابه "الهوية اللبنانية المتعددة الثقافات.. من اجل حوار حقيقى بين الثقافات" أن "التعددية الثقافية باتت ضرورة ملحة" فى عالمنا اليوم الذى تسيطر عليه العولمة والقرية الكونية.
دعا بهجت رزق فى كتابه الشعب اللبنانى الى أن يعمق هويته المتعددة الثقافات حتى يستطيع أن يقدمها مثلا يحتذى به فى العالم، وتصبح لبنان نموذجا يتكرر فى المجتمعات الأخرى. ويقول رزق فى مقدمة كتابه أن لبنان الذى اتفق على إقامة نظام سياسى متعدد الطوائف، يجب أن يدرك أن ذلك يترافق مع إدراك كامل بهوية متعددة الثقافات، لأن نفس المنطق يقود الفكرتين: أن كان الشعب اللبنانى يتفاوض من اجل إيجاد حل وسط سياسى، فيجب أن نؤيد هذا الحل الوسط وتبريره من خلال قبول اختلافه الثقافى. ويقترح رزق استبدال الاستثمار فى الاختلاف الدينى والسياسى بالاستثمار فى الاختلاف الثقافى، حتى تعود لبنان، تلك الدولة الصغيرة، التى تتبنى مصيرها ودورها لتكون مثلا ونموذجا. ويؤكد رزق على أن الثقافة هى التى تؤسس السياسة والاقتصاد، وليس العكس.
أن لبنان الذى يضم 18 طائفة مختلفة لا يستطيع تذويب تلك الطوائف معا، ولا تستطيع أى منها استبعاد الاخريات، لان كل الطوائف هى جزءا لا يتجزأ من تلك البلاد، ومن تاريخها وجغرافيتها. وهى تلك التعددية التى تشكل هوية البلاد، وتحدد ثقافاتها حول ما يوحدها وما يميزها، إنها هوية مركبة حيث إنها توحد فيما يتعلق باللغة والفنون والمطبخ، وفى نفس الوقت تختلف فيما يتعلق بالدين. ولكن بدلا من أن يؤدى الاختلاف الى المجابهة، يمكن أن يؤدى الى التكامل.
واليوم أكثر من أى يوم مضى، تجد لبنان نفسها مرة أخرى أمام الاختبار الصعب، إما أن تترك نفسها لتتحول الى فريسة للانقسامات الداخلية التى تؤججها التدخلات الخارجية. وتتحول الى شبح دولة مثلما يحدث فى العراق حاليا، أو أن تتمسك بهويتها المتعددة والتى تصنع ثراءها الثقافى، وقوتها السياسية، وتواجه المخاطر الخارجية.

كتب: نهاية العراق

التدخل الأمريكى فى العراق افتقد لاخطة استراتيجية مترابطة ومتماسكة
كوريا الشمالية وإيران اكبر دليل على عدم قدرة بوش فى الرؤية الشاملة
إرسال القوات الأمريكية الى العراق جعلتهم رهينة لدى إيران والشيعة
العجرفة والجهل بتاريخ وسياسة المنطقة جعل بوش يفشل فى خطته


بعد الانتخابات التشريعية فى الولايات المتحدة، وفوز الحزب الديمقراطى بأغلبية المقاعد فى مجلسى النواب والشيوخ، ضحى الرئيس جورج بوش بوزير دفاعه دونالد رامسفيلد، لأنه المسئول عما آل إليه الوضع الأمريكى فى العراق، وليس لأنه المسئول عما آل إليه الوضع فى العراق نفسها. وبدأ الحديث فى واشنطن عن أنسب وسيلة للخروج من هذا المأزق.
لقد ظلت الولايات المتحدة تبرر وجودها فى العراق طوال السنوات الخمس الماضية ومنذ الحرب فى 2003 وانهيار الأوضاع فى البلاد، بأن انسحابها سوف يلقى بالبلاد فى آتون الحرب الأهلية، ويقسم العراق. ولكن فى حقيقة الأمر فان العراق تعيش حربا أهلية مدمرة، وتقسمت أراضيها فعليا، وان لم تقسم بعد رسميا، ففى الشمال تشكلت دولة الأكراد المستقلة فعليا، وفى الجنوب قام الشيعة بتأسيس دولتهم الإسلامية، أما السنة فقد تجمعوا وسط العراق، حيث تبلور فراغ سياسى كبير، لا يحكمه أى سلطة سياسية بل قبائل وعشائر وبعثيون سابقون ومجموعات من القاعدة. هذا التقسيم الفعلى يشير الى أن العراق التى كانت، لم تعد قائمة، وإننا نشهد على أرض الواقع "نهاية العراق".
فى كتاب يحمل نفس العنوان "نهاية العراق" للسياسى الأمريكى بيتر جالبريث عضو مركز الحد من التسلح والانتشار، وخبير فى الشئون العراقية منذ الثمانينات عندما كان عضوا فى لجنة العلاقات الدولية فى مجلس الشيوخ، وقام بعدة زيارات الى العراق بعد حرب 2003، يحلل جالبريث أخطاء الإدارة الأمريكية فى العراق التى أدت الى تلك النتائج. ففى الكتاب يوضح جالبريث كيف غزت الولايات المتحدة العراق بفكرة مسبقة هى قدرتها على القضاء على رأس النظام، وبعد نهاية النظام سيستأنف الجميع فورا، العمل من جديد؛ وأوضح كيف أن الغزو كان يهدف أساسا الى بث الخوف لدى الدول "المارقة" كما كان يحب بوش وصفها، مثل إيران وكوريا الشمالية وسوريا، والى إجبارهم جميعا على التخلى عن الأسلحة "ذات الدمار الشامل" التى يتصور أنهم يملكونها، وعن مساندة التطرف.
ولكن جالبريث يؤكد أن غزو العراق، والتى وصفها بـ "تجربة" أمريكا فى العراق، أدت بلا شك الى تقوية إيران وكوريا الشمالية، بدلا من إخافتهما. وفى نفس الوقت يقول أن هؤلاء الذين وضعوا خطط الغزو لم يضعوا خطة مساندة، أى خطة بديلة فى حالة فشل الغزو وانهيار المجتمع فى العراق، أو فى حالة توقف ضخ البترول وتوقف الدخل المتوقع منه، أو فى حالة تقسيم البلاد وتفجر حرب العصابات فى كل مكان، كما هو الحال الآن.
واليوم أصبح الهم الأكبر بالنسبة للإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، هو: كيف يمكن الخروج من المآزق العراقى؟

تعهدات سابقة وأخطاء جديدة
فى عام 1991 شنت الولايات المتحدة حربها الأولى ضد العراق لإخراجها من الكويت. يقول جالبريث أن الحرب فى هذا العام كانت ملتصقة بالشرعية فى الولايات المتحدة، بعد أن حصل الرئيس بوش الأب على موافقة الكونجرس؛ وعلى الشرعية الدولية، بعد أن حصل على تأييد الأمم المتحدة، ومشاركة 35 دولة من أنحاء العالم منهم فرنسا وبريطانيا ومن الدول العربية مصر والسعودية والإمارات وسوريا. ولم يكن غريبا أن تفوز الأسلحة الحديثة التى لم يشهد احد مثيلها بعد فى ساحات الحروب، على جيش صدام حسين.
ولكن بعد حرب الخليج الأولى، تمرد الشيعة والأكراد ضد صدام حسين، ظنا منهم أن الرئيس الامريكى سوف يساعدهم فى ثورتهم. ولكن ما حدث كان العكس، فقد رفضت الإدارة الأمريكية التدخل لمساندة الشيعة والأكراد، عندما قام صدام حسين وقواته بقمع الثورة بكل قسوة فراح ضحية الثورة أكثر من 300 ألف شيعى.
فما حدث فى ذلك الوقت أن قام الرئيس بوش الاب، فى فبراير عام 1991 بزيارة مصنع صواريخ باتريوت التى كانت السبب فى الانتصار الساحق، ليشكر العمال. وفى المصنع القى بوش خطابه الشهير الذى قال فيه: "هناك طريق أخر لحقن الدماء، وهذا الطريق هو أن يأخذ الجيش والشعب العراقى الأمور فى أيديهم، ويجبرون صدام حسين، الديكتاتور، على ان يتنحى عن منصبه، ثم يلتزموا بقرارات الأمم المتحدة وينضموا الى الدول المحبة للسلام".
حرص البيت الأبيض على نشر كلمة بوش على أوسع نطاق، ليصل الى أكبر عدد من المشاهدين، فعرضتها كل القنوات القومية داخل الولايات المتحدة، وكل القنوات الدولية عبر السى أن أن والبى بى سى فى أنحاء العالم والإعلام العربى، كما أذاعت المحطات الإذاعية الحكومية الأمريكية مثل "صوت أمريكا" والاذاعة السرية التى تبثها وكالة المخابرات الأمريكية داخل العراق، الخطاب الى كل مكان فى المنطقة. وكان ذلك الخطاب هو ما اعطى للشيعة والأكراد الانطباع بأن أمريكا تعطيهم الضوء الأخضر للتمرد على زعيمهم.
ولكن فى مذكراته التى كتبها بالاشتراك مع برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومى الامريكى فى ذلك الحين، قال الرئيس بوش انه لم يكن يقصد هذا المعنى، وانه أضاف بشكل تلقائى هذه الفقرة الى خطابه. وفى نفس الصفحة قال سكوكروفت أن بوش قد يكون أراد بالفعل إسقاط صدام حسين، ولكنه لم يفكر أبدا أن ذلك يمكن أن يحدث خارج المؤسسة العسكرية، ولم يحاول أبدا إثارة الشعب ضد رئيسه. وأضاف سكوكروفت قائلا انه من المبالغة التصور أن "خطابا روتينيا" يلقى فى واشنطن، يصل الى الفئات التى ترفض نظام صدام، ويصبح الخطاب مسئولا عن التمرد التى قام به الشيعة والأكراد فيما بعد.
ولكن يقول جالبريث أن "الخطاب قد يكون روتينيا" ولكن جورج بوش لم يكن "سياسى أمريكى روتينيا" فقد كان رئيس الولايات المتحدة، الدولة التى تقود التحالف الدولى فى الحرب ضد العراق فى ذلك الحين. لهذا السبب فهم الأكراد والشيعة من تلك الخطبة أن الولايات المتحدة سوف تساندهم أن هم قاموا بالثورة ضد صدام حسين. تصور الشيعة والأكراد أن الرئيس الأمريكى كان يعنى ما قاله. ولكن نتائج الخطاب كان مذبحة. المذبحة الاولى قامت بها القوات الأمريكية ضد الجيش العراقى فى أثناء انسحابه من الكويت متوجها الى البصرة. ووصف الصحفيين هذا الطريق السريع الذى انسحب منه الجيش العراقى بأنه "طريق الموت السريع". ووصف احد قادة الطائرات الحربية الامريكى ما حدث بقوله انه قام بعملية "قصف الديوك"؛ فى هذا الوقت ثار غضب الصحف الأمريكية، وقرر الرئيس بوش وقف المعارك الأرضية، وقال جالبريث أنه يبدو أن بوش اختار هذا التوقيت بالذات لأسباب تتعلق بعلاقات عامة شخصية تخص الرئيس نفسه فقط.
والمذبحة الثانية كانت تلك التى قام بها صدام حسين ضد الشيعة والأكراد الذين ظنوا أن القوات الأمريكية سوف تساندهم فى ثورتهم ضد النظام البعثى. ويعتقد الشيعة العراقيون أن بوش الأب شجع الثورة ثم ترك صدام يقمعها، لأن فى رأيهم ان بوش أراد قتل الشيعة.
فى نفس الوقت الذى تفجر فيه التمرد الشيعى، تفجر أيضا تمردا من جانب الأكراد العراقيين، دون أن يحصلوا هم أيضا على مساندة الأمريكيين. ولكن كان مصيرهم مختلفا. ففى ابريل عبر أكثر من 500 ألف كردى الجبال التى تفصل بين العراق وتركيا، وأقاموا معسكراتهم فى المنطقة التركية. ولكن فى ظل الظروف الجوية الباردة ووسط الأمطار المستمرة، بدأ الأكراد يموتون بالمئات، بينما رفض الرئيس التركى أوزال، السماح لهم بالنزوح الى تركيا، وان يتقدمون أبعد من المنطقة التى كانوا فيها. وعندما قامت شبكة التليفزيون الامريكية السى أن أن بتصوير الأكراد وهو يدفنون موتاهم من الأطفال، ثار الرأى العام الامريكى والاوروبى خاصة البريطانى، وظهر التناقض كبيرا بين مأساة الأكراد وقيام الرئيس بوش الاب بقضاء عطلته فى ولاية فلوريدا. فقرر بوش سحب قوات من الجنوب وإرسالهم الى شمال العراق والإعلان عن منطقة آمنة فى الشمال محظورة على الطائرات العراقية العسكرية. وظلت الطائرات الأمريكية والبريطانية تطير فوق تلك المنطقة طوال السنوات التالية وحتى الحرب ضد العراق فى عام 2003.

الغرور والجهل
فى فصل تحت عنوان "الغرور والجهل" كتب جالبريث أن فى 29 يناير عام 2002 القى الرئيس جورج بوش الإبن خطابه الشهير أمام مجلسى الكونجرس والذى طرح فيه استراتيجيته فى عالم ما بعد 11 سبتمبر، وهو الخطاب الذى طرح فيه لأول مرة تعبير "محور الشر" فقال: "أن هدفنا الثانى هو منع النظم التى تدعم الإرهاب من تهديد أمريكا أو أصدقائنا وحلفائنا بأسلحة الدمار الشامل..." كوريا الشمالية وإيران والعراق.."دول مثل تلك وحلفائهم الإرهابيين، يمثلون محور الشر، ويتسلحون من اجل تهديد السلام فى العالم.." وبعد ذلك وجه بوش تحذيره: "على كل الدول أن تعلم أن أمريكا سوف تقوم بكل ما هو ضرورى من اجل ضمان أمنها القومى.. لن انتظر الأحداث، بينما المخاطر تتجمع. ولن أقف متفرجا بينما الخطر يقترب تدريجيا. الولايات المتحدة لن تقبل أن تهددها أكثر النظم العالمية خطرا، بأكثر الأسلحة فتكا."
أول نقاط الجهل بالهندسة وبالتاريخ، هو تعبير "محور الشر". فيقول جالبريث أن هذا التعبير جذب اهتمام الرأى العام، ولكن فى حقيقة الأمر فان كلمة "محور" تمثل خط مستقيم يربط بين نقطتين. وبالتالى فانه لا يمكن أن تكون كل من كوريا الشمالية وإيران والعراق محورا من وجهة النظر الهندسية. كما ان من وجهة النظر التاريخية، المحور يضم دولا حليفة، مثل ألمانيا وايطاليا إبان الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، ولكن فى حالة العراق وإيران، لا يمكن أن تتحالف الدولتان اللتان كانتا من ألد الأعداء فى 2002، ولم يتكون المحور بين بغداد وطهران إلا بسبب جورج بوش وسياساته التى أدت الى فوز حلفاء إيران فى العراق فى انتخابات يناير 2005 التى قيل عنها إنها انتخابات ديمقراطية. أما كوريا الشمالية فهى ليست حليف لأى من الدولتين، إيران أو العراق، رغم إنها باعت صواريخ وتكنولوجيا نووية الى إيران وقتا ما. يقول جالبريث أن تعبير "محور الشر" قد يكون له تأثير جيد على مشاعر الرأى العام، ولكن بلا شك، لم يكن له أى فائدة فى مجال الأمن القومى.
فيما يبدو، حسب قول جالبريث، أن تعبير "محور الشر" تم إضافته خلسة على خطاب الرئيس، من قبل شخص يدعى ديفيد فروم، وهو كندى الجنسية يعمل فى مكتب كتابة خطب البيت الأبيض، بدون الرجوع الى أو الموافقة عليها من قبل وزير الخارجية فى ذلك الوقت كولين باول أو أى شخص أخر مسئول عن السياسة الخارجية الأمريكية.

يقول جالبريث أن استراتيجية الأمن القومى تكون ناجحة عندما تكون الأهداف واضحة، وعندما يتم وضع اولويات وتؤخذ فى الاعتبار المخاطر والوسائل المطلوبة للمضى فى طريق محدد، وعندما يكون هناك تخطيط دقيق لها. ولكن خطاب بوش، والطريقة التى تم كتابته، والإجراءات التى اتخذت بعد ذلك، تؤكد على غياب أى استراتيجية متماسكة يمكن أن تكون الأساس الذى قام عليه الغزو الأمريكى للعراق.
وان كان الرئيس بوش فى خطابه عام 2002 قد حدد هدفا للولايات المتحدة، وهو منع الدول الأكثر خطورة من الحصول على أسلحة الدمار الشامل، فان هذا الهدف كان، حسب قول جالبريث، غير واضح بشكل خطير. فان الأسلحة ذات الدمار الشامل، لا تحمل كلها نفس المخاطر، فالأسلحة البيولوجية والكيماوية، رغم بشاعتها، إلا إنها لا تقارن فى قدرتها على التدمير بالأسلحة النووية. وكان لابد، كما يقول جالبريث، أن يحدد بوش هدف الولايات المتحدة بمنع وصول الأسلحة "النووية" الى الدول التى يمكن أن تستخدمها أو تعطيها الى الإرهابيين.
هذا الغموض فى تحديد الأهداف الاستراتيجية ساهم فى اتخاذ القرار بتوجيه كل الوسائل العسكرية والدبلوماسية الأمريكية الى العراق، والتى كانت، والى حد كبير، اقل الدول الثلاثة التى تكون "محور الشر" خطورة. ففى الوقت الذى القى فيه بوش خطابه، كانت العراق تقع تحت طائلة العقوبات الشاملة التى فرضتها الأمم المتحدة عليها لأكثر من 11 عاما. ورغم أن صدام حسين قد طرد المفتشين الدوليين فى عام 1998، إلا انه كان من الممكن أن تثق الولايات المتحدة ثقة كبيرة فى أن العراق لم يكن لديها برنامجا نووية مهما فى عام 2002. لان فى تلك الفترة لم يكن هناك أية معلومات من المخابرات الأمريكية تفيد بان العراق لا تزال تملك أسلحة كيماوية التى كانت تملكها فى الثمانينات، كما أن المعلومات الخاصة بالأسلحة البيولوجية، ظلت هى أيضا غير واضحة.
ولكن بعكس العراق، كانت كل من إيران وكوريا الشمالية، تملك برامج نووية نشطة. وكان من الممكن أن يكون للتركيز الامريكى على العراق معنى استراتيجى، إن كان سيخيف تلك الدولتين. ولكن فى حقيقة الأمر، فان القلق الذى أبدته واشنطن تجاه العراق، دعم وشجع كوريا الشمالية وإيران، بدلا من إخافتهما.

واشنطن تثير غضب كوريا الشمالية وايران
فى عام 2002 كانت كوريا الشمالية جزءا من اتفاقية منع الانتشار النووى، وكانت تملك مخزونا من البلوتونيوم ولكنه كان يقع تحت إشراف وحماية وكالة الطاقة النووية الدولية. وكانت كوريا الشمالية قد وقعت فى عام 1994 اتفاقية مع كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وروسيا والصين واليابان، بتجميد كل أنشطتها النووية مقابل حصولها على البترول وبناء مفاعلين للطاقة النووية من المياه الخفيفة، لا يهددان بان تتحولا الى برنامج تسلح. ولكن إدارة بوش قررت فى عام 2002 اتهام كوريا الشمالية بانتهاك اتفاقية عام 1994 وإقامة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم. وهو ما لم يكن ممكنا حسب تحليل جالبريث.
وهكذا، أثارت واشنطن أزمة، بدون أن يكون لديها خطة بديلة. فقد قررت إدارة بوش وقف إمداد كوريا الشمالية بالبترول الذى نصت عليه الاتفاقية، ففى المقابل قامت كوريا الشمالية بالانتقام وانسحبت من اتفاقية منع الانتشار النووى فى 31 ديسمبر عام 2002، لتكون أول دولة تقوم بتلك الخطوة. ومنذ ذلك الحين قامت كوريا الشمالية بانتاج ما بين ست وثمانية أسلحة نووية من البلوتونيوم الذى كان يقع تحت إشراف وحماية الوكالة الدولية. ويؤكد جالبريث أن قيام كوريا الشمالية بالتحول لتكون قوة نووية كبرى هى نتيجة مباشرة للاستراتيجية الأمريكية المركزة على العراق.
كما أن الوضع فى إيران دليلا أكبر على عدم قدرة بوش على التفكير بشكل استراتيجيى. فمن وجهة نظر جالبريث، كان لابد على الخبير الاستراتيجى أن يأخذ فى اعتباره وضع إيران قبل اتخاذ قرار غزو العراق. فقد كان لابد أن يدرك أن إيران قامت بتمويل الأحزاب الشيعية فى العراق، أن لم تكن قد ساهمت فى تكوينهم، كما أن الجزء الجنوبى فى العراق يقيم فيه أغلبية شيعية، وبالتالى فانه من المتوقع أن يكون لإيران تأثيرا كبيرا على عراق ما بعد صدام حسين. حتى ولو كانت إيران تعد فى الخطط الأمريكية هدفا محتملا فى المستقبل، إلا انه كان لابد للخبير الاستراتيجى أن يقلل من معارضة إيران للجهود التى تبذلها أمريكا فى العراق، وعلى الأقل أن تقوى وضعها فى العراق الى أن تصبح على استعداد للتحرك ضد إيران.
أن إيران هى الدولة التى لديها كل الأسباب التى من اجلها تريد طرد صدام حسين خارج السلطة، أكثر كثيرا من الرئيس بوش. فقد كانت إيران هى التى شن صدام حسين ضدها حربا راح ضحيتها أكثر من 500 ألف شخص، والتى استخدم ضدها صدام حسين، حسب رأى جالبريث، الأسلحة الكيماوية، وكانت إيران، وليست الولايات المتحدة، التى يمكن أن تكون الهدف المحتمل لحرب بالأسلحة ذات الدمار الشامل التى قد يعيد صدام حسين انتاجها.
ويرى جالبريث أنه كان من الممكن أن تتعاون إيران مع الولايات المتحدة فى قلب نظام صدام، لان فقط إيران وحلفاءها الشيعة العراقيين الذين يمكن أن يستفيدوا من عراق ديمقراطى. لذلك فقد كان من الممكن أن تساعد إيران الولايات المتحدة فى انتصار سريع وخروج سريع من العراق. وحتى قبل خطاب بوش الذى تحدث فيه عن "محور الشر" كانت إيران تتعاون مع الولايات المتحدة فى حربها ضد افغانستان، وكانت تتبادل معها المعلومات السرية حول القاعدة، وكانت تمنع هروب أعضائها عبر إيران، وتسمح للولايات المتحدة بالقيام بعمليات بحث على أرضها عن الطيارين الذين يقعون فى حرب افغانستان. فقد كان للولايات المتحدة وإيران عدوا مشتركا: هو القاعدة وطاليبان، الذين كانوا يحاربون الشيعة.
بعد خطاب "محور الشر" أوقفت إيران تعاونها مع الولايات المتحدة فى أفغانستان، وأعطتهم كل المبررات للعمل على إفشال الخطة الأمريكية فى العراق. أما بوش فلم يفهم أبدا مدى تأثير إيران فى العراق، أو ربما لم يعتقد أن تأثيرها كان مهما.
فى يناير الماضى، صرح أكبر عالمى، نائب برلمانى ايرانى فى حديث نشرته صحيفة النيويورك تايمز قائلا: "أن أمريكا فى الوقت الحالى فى أضعف حالاتها. وان اتخذت أية تحرك غير حكيم (لمعاقبة إيران لأنها مستمرة فى برنامجها النووى) فمن المؤكد أن الولايات المتحدة ودول أخرى سوف تعانى من الضرر الذى سيقع عليهم". ويفسر جالبريث تصريحات عالمى بأنها تحذير من قدرة إيران فى إشعال ثورة شيعية ضد القوات الأمريكية فى جنوب العراق وفى بغداد.
فى رأى جالبريث أن قرار بوش بإرسال القوات الأمريكية الى العراق جعلتهم رهينة لدى إيران وحلفائها الشيعة. وبالتالى فان الإدارة الأمريكية لا تملك الان خطة عسكرية جيدة لوقف إيران من الحصول على أسلحة نووية.

هذا الفشل الاستراتيجى هو نتيجة لعملية غير منظمة فى اتخاذ القرارات، حيث اهتمت الإدارة الأمريكية بالعقيدة أكثر من اهتمامها بالتحليل، وحيث كان لكاتب الخطب تأثيرا أكثر مما لوزير الخارجية.

فشل الشرق الأوسط الكبير
اوضح بيتر جالبريث أنه من اجل أن يكون للعراق دورا فى استراتيجية جورج بوش فى الشرق الأوسط الديمقراطى الكبير، كان يجب تحقيق ثلاثة شروط: اولا كان يجب أن تنجح عملية إرساء الديمقراطية فى العراق؛ وثانيا أن تؤثر الديمقراطية فى العراق فى إجراء تغييرات ديمقراطية فى دول الشرق الأوسط الأخرى؛ وثالثا، أن على الحكومات الديمقراطية فى الشرق الأوسط أن تتصرف بشكل يتناسب مع المصالح الأمريكية أكثر مما يتناسب مع مصالح النظم المستبدة السابقة.
تصور بوش أن كل تلك الشروط ستتحقق. لذلك لم تحاول إدارته وضع خطط لدعم فرصة تحول ديمقراطى ناجح فى العراق، ولم تدرس ظروف العراق لترى أن كان من الممكن بناء دولة متحدة وديمقراطية يمكن أن تكون مثلا وقدوة للدول الأخرى فى المنطقة. ولم تخطط إدارة بوش لأى احتمالات بالفشل فى العراق. وأصبحت احتمالات التقسيم والحرب الأهلية والتدخل الايرانى فى أجزاء من العراق من الأمور الواردة والتى بكل تأكيد سوف ترفضها الدول الأخرى. فكانت النتيجة أن جاءت الانتخابات التى جرت فى المنطقة منذ حرب العراق عن نتائج لم تكن فى حسبان الإدارة الأمريكية. ففى إيران جاءت الانتخابات فى عام 2005 بشخصية محافظة مثل احمد نجاد بدلا من الاصلاحى محمد خاتمى، وفى فلسطين جاءت الانتخابات البرلمانية بحركة حماس الإسلامية.

ولكن من أسباب فشل خطة بوش فى إقامة الشرق الأوسط الكبير هو جهله بالمنطقة. ففى عام 2002 وبعد خطابه الشهير الذى تحدث فيه عن "محور الشر"، التقى الرئيس بوش مع ثلاثة من الشخصيات العراقية الأمريكية ليتحدث معهم عن الوضع فى العراق. ولكن فى الحديث اكتشف العراقيون الثلاثة أن بوش ليس لديه أية فكرة عن المذاهب الإسلامية: السنة والشيعة، ولا التقسيم الذى حدد تاريخ العراق وسياستها، كما لم يفهم أبدا لماذا تقوم دولة غير عربية مثل إيران، بمساندة العراق ما بعد صدام حسين.
هذا الجهل بالشعب العراقى، جعل بوش يضع قواته فى وسط حرب أهلية مشتعلة بين مذهبين اسلاميين. وحتى اليوم، فى عام 2006، وبينما الحرب الأهلية مستعرة فى العراق، لازال الرئيس الأمريكى وكبار مستشاريه يتحدثون عن الشعب العراقى وكأنه شعب واحد.

ولكن ما الحل؟
لا يجد بيتر جالبريث أى حل جيد للفوضى التى سادت العراق. فقد انقسمت البلاد فى حرب أهلية مدمرة، ولا تستطيع الولايات المتحدة إعادتها الى ما كانت عليه فى الماضى، ولا تستطيع وقف الحرب الأهلية. وان كانت الولايات المتحدة تصورت إنها تستطيع تغيير الشرق الأوسط، فقد حققت ذلك بالفعل، ولكن بشكل أخر!!!

كتب: حق العودة

حلم الدولة الصهيونية الاساسى كان:
الاستيلاء على اراضى وممتلكات الفلسطينيين وتحويلها الى ملكية يهودية
القوانين الدولية تحمى حقوق الفلسطينيين فى العودة الى وطنهم
عودة الفلسطينيين لن يهدد الدولة الإسرائيلية بل سيعطيها الفرصة للوجود الطبيعى فى الشرق الاوسط


فى محاولة جديدة من رئيس وزراء إسرائيل ليبدو أمام الرأى العام العالمى بإنه "يمد يده بالسلام الى الفلسطينيين" مثلما فعل من سبقوه أمثال إيهود باراك وغيره، فى حين إنه يتراجع عن مواقفه السابقة، أعلن إيهود أولمرت انه على استعداد للانسحاب من "بعض" الاراضى الفلسطينية فى الضفة الغربية، و"التفكير" فى الإفراج عن عدد كبير من المساجين الفلسطينيين بعد عودة الجندى الاسرائيلى المحتجز فى الاراضى الفلسطينية الى بيته!! ولكن بشرط أن يتنازل الفلسطينيون عن "حق العودة". وهو الحق الذى أقرته الأمم المتحدة فى عام 1948، وأكدت عليه مرة أخرى كل القوى العظمى طوال أكثر من خمسين عام، ودعت إليه كل المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان.
ولكن إسرائيل ظلت طوال السنوات الماضية ترفض هذا الحق للشعب الفلسطينى وتنكر عليه المطالبة به أكثر من أى شئ أخر، وذلك ليس بسبب التعويضات التى سوف تضطر إسرائيل تقديمها مع عودة اللاجئين الفلسطينيين، سواء إنسانية أو مالية، ولكن أيضا، وبالأخص، لأن حق العودة يعيد الى ذاكرة الإسرائيليين ما يسعون الى نسيانه: وهى الظروف الحقيقية التى نشأت إسرائيل على أساسها، والتى تم، بمقتضاها، إلغاء الدولة الفلسطينية من على الخريطة. تلك الظروف التى تؤكد، بدون أدنى شك، على أن الدولة الإسرائيلية قامت على كذبة كبيرة، وهى أن الأرض كانت بلا شعب، بينما شعبها فى حقيقة الأمر موجود وطرد من وطنه قصرا حتى تستطيع الدولة العبرية الجديدة استقدام يهود العالم مكانهم.
وفى كتاب "حق العودة" الذى صدر فى فرنسا، كشف 14 كاتبا عربيا وفرنسيا فى مقالات منفصلة جمعهم المفكران العربيان فاروق مردم- بيه، السورى الاصل ومدير تحرير "نشرة الدراسات الفلسطينية" التى تصدر فى فرنسا، وإلياس صنبر، الفلسطينى الاصل وعاش فى فرنسا يحاضر فى الجامعات الفرنسية والامريكية واللبنانية عن التاريخ العربى، ومؤسس "نشرة الدراسات الفلسطينية فى عام 1981، حقيقة المشكلة التى يعيشها اللاجئون الفلسطينيون منذ ما يقرب من 60 عام.

فى مقدمة الكتاب يقول المؤرخان، مردم بيه والياس صنبر، أن الهدف منه هو فتح باب الحوار حول أكثر قضية شائكة فى الصراع العربى الإسرائيلي، لأنها القضية التى يعتبرها الرأى العام الاسرائيلى، بل اليهودى، "تهديدا قاتلا" لوجودهم، بينما يعتبرها الفلسطينيون مسألة لا يمكن تجاهلها، سواء فيما يتعلق بتداعياتها المادية أو معانيها الرمزية، ولا يتوقفون عن مطالبة إسرائيل بها.
فان الجانبين يدركان تماما أن "حق العودة" هى المسألة التى ستعيدهما الى الفترة الأساسية فى تاريخهما المشترك: وهى عام 1948، العام الذى شهد مولد دولة إسرائيل واختفاء فلسطين. لذلك فان مجموعة المقالات التى يتشارك فيها الكتاب والمفكرون هى محاولة لطرح الموضوعات التى طالما اعتبرت من المحظورات، خاصة موضوع طرد ونزع الملكية من الفلسطينيين، ومحاولة للتفكير فى حل عادل ودائم لمشكلة اللاجئين.
وقبل تصفح المقالات المختلفة، وضع المؤرخان التوجهات الثلاثة الأساسية لحق العودة التى كانت دائما مهددة بان تمحى: أول تلك التوجهات تتعلق بالحقوق الدولية: فمنذ عام 1948 أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قراراها رقم 194 الذى يسمح " للاجئين الذين يرغبون، العودة الى أوطانهم فى أسرع وقت والحياة فى سلام مع جيرانهم". وفى نفس القرار، تقرر أن هؤلاء الذين لا يرغبون فى العودة يجب أن يحصلوا على تعويضات. وظلت الدول الخمس دائمى العضوية فى مجلس الأمن بالأمم المتحدة، عام بعد عام، يؤكدون على قرار الجمعية العامة، مما جعل قرار العودة مبدأ لا مفر منه حتى ولو أصرت إسرائيل على محاولاتها فى إنكاره. ومن الغريب أن الغرب والولايات المتحدة لم يؤيدوا وجهة نظر إسرائيل فى تلك القضية إلا بعد بدء عملية السلام.
أما التوجه الثانى الذى يحرص المؤرخان على ذكره فهو سياسى. فمنذ توقيع اتفاقية اوسلو للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، واعتراف كل جانب بالجانب الأخر، لم يعد من الممكن اعتبار حق العودة، الذى يصر عليه الفلسطينيون، وكأنه رغبة منهم لتدمير إسرائيل، أو إثارة الاضطراب داخلها، أو التشكيك فى هويتها اليهودية. فمنذ ذلك الحين يجب أن تدرس القضية، من منظور مختلف تماما على أساس الواقع الجديد الذى يقوم على مبدأ تقسيم الاراضى الفلسطينية التاريخية الى دولتين ذات سيادة. ويشير المؤرخان الى أن قيام إسرائيل بإنكار هذا المطلب واعتباره محاولة من الفلسطينيين لإفشال المفاوضات، من شأنه أن يثير المخاوف ويدفع اليمين الاسرائيلى المتطرف الى دفن عملية السلام برمتها.
وأخيرا، من الناحية الرمزية، فان اعتراف إسرائيل بهذا الحق، وهذا الحق فقط، يعد اعترافا أكيدا من جانب الإسرائيليين وتأكيدا على أنهم مدركون تماما للظلم الكبير الذى أوقعوه على الشعب الفلسطينى. أما الآلية التى يمكن من خلالها البدء فى تطبيق عملية العودة، فذلك بلا شك، يعتمد على عقد اتفاق بين الجانبين.

طرد الفلسطينيين من ارضهم
ويرى مردم-بيه وصنبر انه من اجل منع منطقة الشرق الأوسط من الانزلاق نحو الهاوية، والإرهاب والانتقام الأعمى والفوضى العارمة، فانه من المهم إعادة دراسة ملف الصراع العربى الاسرائيلى بكامله، والبدء بما حدث بالفعل فى عام 1948، وهو ما يطلق عليه الفلسطينيون كلمة "النكبة"، ويتناوله الكتاب فى أربع مقالات مختلفة كل من جانب مختلف. فأوضح نور مصالحة أن فكرة "ترحيل" الشعب الفلسطينى نحو الدول العربية هى فكرة مستقرة فى ذهن الصهيونية منذ هرتزل. ويقول نور مصالحة انه فى أغسطس عام 1948 قامت الحكومة الإسرائيلية بتخويل رسميا، ولكن سرا، الى لجنة الترحيل، مهمة التخطيط لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فى الدول العربية. ولقد قامت تلك اللجنة بوضع الخطوط العريضة للدعاية الإسرائيلية الخاصة باللاجئين الفلسطينيين، وقامت اللجنة باختلاق الأساطير حول ما حدث فى عام 1948. وفى اكتوبر من نفس العام، قرر أعضاء اللجنة دعم التغيير الديمغرافى للمنطقة عبر مختلف الوسائل: مثل منع عودة اللاجئين الفلسطينيين الى منازلهم وقراهم؛ وتدمير القرى العربية؛ أو السماح لليهود بالاستقرار فى المدن والقرى العربية عن طريق توزيع الاراضى العربية على المستعمرات اليهودية؛ ومن خلال استقدام يهود العراق وسوريا؛ وعن طريق البحث عن وسيلة لاستيعاب اللاجئين الفلسطينيين فى الدول العربية مثل سوريا والعراق ولبنان والضفة الشرقية، والبدء فى حملة دعائية تعمل على إثنائهم عن العودة.
فى الماضى، ومنذ عام 1948، كان الإسرائيليون يروجون لفكرة أن خروج الفلسطينيين من أراضيهم كان بناء على خطة وضعها العرب الذين أعلنوا الحرب على الدولة الإسرائيلية، ولكن الوثائق التاريخية الإسرائيلية التى فتحت مؤخرا، أكدت على كذب تلك المقولة التى قامت لجنة الترحيل التابعة للحكومة الإسرائيلية بإختلاقها وترويجها فى تقريرها الذى صدر فى اكتوبر عام 1948؛ وهو التقرير الذى أصر على منع اللاجئين من العودة الى إسرائيل واقترح على الحكومة تشجيع توطينهم فى الدول العربية التى استضافتهم.
بينما قام وليد الخالدى، كبير الباحثين فى تلك القضية، بتحليل عميق لخطة "داليت" التى وضعتها القوات العسكرية اليهودية قيد التنفيذ منذ أول أبريل عام 1948 من اجل السيطرة على كل فلسطين وإفراغها من شعبها، استعدادا لانسحاب الجيش البريطانى، فى 15 مايو، ودخول الجيوش العربية المتوقع. ويؤكد وليد خالدى كيف قام هو وفريقه بدراسة ما وقع بالفعل فى الفترة من ديسمبر عام 1947 الى 15 مايو عام 1948، وقال أنهم قاموا فى البداية بدراسة النسخة الإسرائيلية لما حدث، ثم قاموا بعد ذلك بتوضيح الأكاذيب التى روجها الإسرائيليون حول قيام الدول العربية بإعطاء أوامرها الى الشعب الفلسطينى عبر الإذاعات، للخروج من أرضه حتى تستطيع القوات العربية الدخول لمحاربة إسرائيل. ويتساءل خالدى أن كان تلك الدعايات صحيحة فيجب أن يكون هناك دليل فى تسجيلات إذاعية محفوظة، ولكن خالدى أكد انه قام بالاستماع الى أرشيف إذاعة البى بى سى البريطانية، فى المتحف البريطانى بلندن، وأكد انه لم يجد أية علامة على وجود تلك النداءات، ولكن، بالعكس، وجد أن المحطات الإذاعية العربية كانت تدعو الشعب الفلسطينى الى البقاء فى أماكنهم، بينما قامت إذاعات المنظمات الإرهابية اليهودية مثل الهاجاناه والايرجون وشترن بشن حربا نفسية مستمرة ضد الشعب المدنى العربى.
فما هى خطة "داليت"؟ أو الخطة "دى"؟ إنها الخطة العامة للعمليات العسكرية التى وضعتها القيادة العليا الصهيونية، فى ابريل وبداية مايو عام 1948، والتى قام الصهاينة بمقتضاها بتنفيذ هجمات متتالية على عدة نقاط فى فلسطين. تلك الهجمات أدت الى تدمير الجاليات العربية الفلسطينية وطرد وإفقار غالبية العرب الفلسطينيين، واستهدفت الخطة من خلال ذلك الى خلق "أمر واقع" يمكن للدولة الإسرائيلية أن تنشأ فى ظله. هذه الخطة لم يعلن عنها إلا مؤخرا فى كتب لمفكرين ومؤرخين يهود مثل جون وديفيد كيمشى فى كتابهما "صدام المصائر"، وفى كتاب نيتانيال لورش، "حد السيف".
أما سلمان ابو سيتا، فقد قدم نقاطا وأرقاما محددة حول عدد المناطق التى تم ترحيل سكانها منها، وعدد الفلسطينيين الذين تم ترحليهم، ومساحة الاراضى التى كانوا يملكونها، وأسباب خروجهم منها. وفى نهاية هذا الجزء يعطى دومينيك فيدال نظرة تحليلية لأعمال "المؤرخين الجدد" الإسرائيليين، حيث أشار بشكل خاص الى الأساطير الثلاثة التى قلبوها رأسا على عقب بالكثير من القسوة: وهى أولا الفرق فى القوة بين الأطراف المتصارعة فى عام 1948، والتى دحضها بنى موريس، احد المؤرخين الجدد الإسرائيليين، فى كتابه "1948 وما بعده" والذى قال فيه أن الخريطة التى تظهر إسرائيل دولة صغيرة وسط محيط من الدول العربية العملاقة، لم تكن تعبر حقيقة فى ذلك الوقت عن حقيقة الفرق فى القوة العسكرية فى المنطقة. فعلى عكس الصورة التى أراد الصهاينة نشرها عن الدولة الضعيفة التى ولدت لتوها، والتى تواجه جيوش عربية ذات العتاد القوى، أكد المؤرخون الجدد على تفوق القوة العسكرية الإسرائيلية سواء فى العتاد أو التدريب أو التنسيق أو الهدف.. بالإضافة الى الدعم السياسى الذى تلقوه من الولايات المتحدة، والدعم العسكرى من الاتحاد السوفيتى، ففى تلك الفترة، ورغم القمع الذى كان يتعرض له اليهود الروس، إلا أن الدولة السوفيتية كانت تمد إسرائيل بالأسلحة وكانت تدافع عنها فى الأمم المتحدة بلا شروط. كما دحض دومينيك فيدال فكرة أن سياسة الدولة الإسرائيلية الوليدة، كانت تدعو الى السلام كما ادعى الحكام الإسرائيليين، وأخيرا، والأهم، دحض نظرية أن الفلسطينيين غادروا أرضهم برغبتهم. ولقد أكد فيدال، حسب الأرشيف الاسرائيلى والذى كشفت التقارير التى وضعتها المخابرات التابعة للهاجاناه، بتاريخ 30 يونية عام 1948، والتى تؤكد أن نحو 391 ألف فلسطينى غادروا الاراضى بسبب الإسرائيليين، "55 % على الأقل من الفلسطينيين الذين غادروا الاراضى غادروها بسبب العمليات التى قام بها الإسرائيليون. وأكد الخبراء الإسرائيليين الى أن 15 % من الفلسطينيين غادروا البلاد بسبب الحرب النفسية التى شنتها الهاجاناه. مما يؤكد على أن 73% من الفلسطينيين غادروا البلاد مدفوعين مباشرة من الإسرائيليين. من هؤلاء 22% غادروا بسبب الخوف، وبسبب ازمة الثقة التى انتشرت بين الشعب الفلسطينيى.أما بالنسبة لدعوة العرب للفلسطينيين بمغادرة البلاد، فذلك لم يؤثر إلا فى 5% من الحالات.

الأرشيف يدين اسرائيل
أما الجزء الثانى من الكتاب، والذى نشر تحت عنوان "الأوضاع القائمة" فيشرح بشكل غاية فى الدقة الملفات الأساسية فى الأرشيفات المختلفة عن اللاجئين، خاصة لدى منظمة غوث اللاجئين، التى تعنى بأوضاع أكثر من أربعة ملايين شخص يعيشون فى معسكرات لاجئين فى الضفة الغربية وغزة والأردن ولبنان وسوريا. فى هذا الجزء يشير الكاتبان سليم تمارى وإليا زريق، على الأهمية البالغة لتلك الوثائق والتى يصل عددها الى نحو 80 مليون وثيقة. أما المقال الذى كتبه جلال الحسينى فهو معنى بالمكتب نفسه الذى تجاوزت مهامه المساعدات الإنسانية، والذى وجد نفسه يقوم بمهمة الضامن الدولى لحق العودة، أو التعويض عن العودة. وحسب يوسف كورباج، فان عدد اللاجئين الفلسطينيين اليوم من خارج أراضى فلسطين التاريخية أى من إسرائيل والاراضى المحتلة، وصل الى 3،5 ملايين شخص من اجمالى 7،7 ملايين فلسطينى، وهى الأرقام التى توصل اليها بعد أن أحصى اولا حجم عدد الفلسطينيين فى الشتات ابتداء من عام 1948، ونسبة النمو السكانى حتى عام 2000، ثم عن طريق دراسة إحصاءات كل دولة أو مجموعة من الدول. ومن جانبها قامت هانا جابر بدراسة التشابه بين معسكرات اللاجئين، رغم توسعهم على اراضى أربع دول، وقامت بتحليل لنموهم الإجتماعى والسياسى والحضرى منذ سنوات تأسيس الدولة الإسرائيلية وحتى تشكيل السلطة الفلسطينية. وأخيرا، قام أسامة رفيق حلبى بشرح ما الذى حدث فى إسرائيل لما أسماه "ممتلكات الغائبين" وهو القانون الذى صدر فى عام 1950، وقام بشرح القوانين التى صدرت فى إسرائيل والتى أقرت بمصادرة الاراضى العربية وتحويل ممتلكاتهم الى "الشعب اليهودى". فقال اسامة حلبى كيف قامت الدولة الإسرائيلية باحتلال مناطق كانت فى البداية "الدولة العربية" مثل مدن اللد والرملة والخليل الغربية ويافا. وكيف تجاوزت أهدافها إنشاء وطن قومى يهودى تعترف به الأمم المتحدة، التى تقبل الدولة الجديدة التى تقع داخل حدود الوطن القومى الفلسطينى، عضوا مستقلا ذى سيادة فى المجتمع الدولى، تدعمها القوانين الدولية. ولكن ذلك كان مجرد جزء من الحلم الأكبر للدولة اليهودية، أما الحلم الثانى والأهم فهو استيلاء اليهود على الاراضى والممتلكات العينية التى توجد داخل حدود الدولة الجديدة، وتحويلها كلها أو جزء منها الى ملكية الشعب اليهودى، وذلك من خلال القوانين التى قامت تلك الدولة بإصدارها، وبناء على نظم تشريعية وضعتها لهذا الهدف.
من بين تلك القوانين يطرح اسامة حلبى قانون "الأولوية للمنظمة الصهيونية العالمية" و"الوكالة اليهودية من اجل ارض إسرائيل" الذى صدر فى عام 1953، وكذلك قانون "كيرين كايميت لى-إسرائيل" لعام 1953 أيضا. القانون الأول يقر فى المادة الرابعة منه على اعتراف من الدولة على أن المنظمة الصهيونية والوكالة اليهودية هما "مؤسستان مؤهلتان للعمل فى إسرائيل من اجل تنمية البلاد وسكانها، ومساعدة المهاجرين العائدين من الشتات على الاستقرار، وتركيز أنشطة المنظمات والمعاهد اليهودية الأخرى التى تعمل فى هذه المجالات. أما القانون الثانى، فهو يسمح للجمعية كيرين كايميت-لى إسرائيل والمسجلة فى بريطانيا وتعمل فى إسرائيل كجمعية أجنبية، أن تصبح إسرائيلية، وبذلك تستطيع أن تمارس نشاطها بشكل دائم فى البلاد. هذه الجمعية تنص لائحتها على أن من بين الأهداف التى من اجلها نشأت، هى شراء الاراضى والمبانى أو امتلاكها بأى وسيلة أخرى، وذلك فى كل منطقة تتبع سلطة الحكومة الإسرائيلية، بهدف السماح لليهود بالاستقرار فى تلك المناطق، أو تأجير تلك الممتلكات، بشرط ألا يقوم المستأجر بإعادة تأجيرهم. وتنص اللائحة أيضا انه فى حالة حل الجمعية فان تلك الممتلكات تصبح ملكية الحكومة الإسرائيلية.

القانون يدعم العودة
فى الجزء الثالث والاخير، تشرح مونيك شوميلييه-جيندرو حق العودة من ثلاث وجهات نظر، التاريخية والسياسية والقانونية. فان مطلب الفلسطينيين الذى ترفضه إسرائيل وتمنع عودة اللاجئين، هو مطلب تسانده القوانين الدولية كلها، فتلك القوانين هى الأساس الذى تقوم عليه الممارسة الفردية للحقوق التى تضمنها ميثاق حقوق الإنسان، لعام 1948، فى مادته رقم 13، والذى يقر بحق كل شخص فى حق الانتقال بحرية واختيار مقر سكنه فى داخل الدولة. وحق كل شخص فى مغادرة البلاد، بما فيها بلاده. كما تقوم على الممارسة الجماعية حسب القانون القومى الخاص بحق الشعوب فى تقرير مصيرهم. هذه القوانين العامة، تكملها قوانين خاصة لها علاقة بالصراع الذى هم ضحيته، والتى تؤكد الاعتراف بحقوقهم. وتشرح شوميلييه-جيندرو بوضوح ضرورة القيام بدراسة للواقع حتى يمكن تحديد آليات تطبيق القوانين الدولية. وعندما دعا الرئيس الامريكى السابق كلينتون الشعب الفلسطينى الى التضحية والتخلى عن حقهم فى العودة الى أراضيهم، رد عليه ادوارد سعيد، المفكر الفلسطينى الكبير، بقوله: "يبدو لى انه من غير اللائق أن يقوم الرئيس كلينتون بشن حربا، يقود فيها كل الدول الأعضاء فى حلف الاطلنطى، ودمر فيها الصرب باسم حق عودة الألبان الى كوسوفا، ثم يطلب من الفلسطينيين أن يتخلوا عن حقهم هم فى العودة"؛
من الناحية السياسية تطرح إسرائيل الوضع الأمنى كسبب لمنع عودة الفلسطينيين، ولكن هذه الفكرة ما هى فى حقيقة الأمر إلا تعبيرا عن الخوف الذى هو جزء من الايديولوجية الإسرائيلية الذى يمنع الشعب الاسرائيلى من أن يحقق سلاما حقيقيا. ولأنهم يقومون بقمع الشعب الفلسطينى منذ أكثر من 58 عاما، وينكرون حقوقهم، ويفرضون عليهم نظاما عسكريا قاسيا، يعانى الإسرائيليون من العمليات العنيفة التى يقوم بها الفلسطينيين دفاعا عن أنفسهم. ولكن إذا قرر الإسرائيليون إقامة السلام، وإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، فان إسرائيل لن تعيش فى خطر بعد ذلك.
ثم قام مايكل فيشباخ، الخبير الأكثر معرفة بالملفات فى الوقت الحالى، بتناول قضية التعويضات، بعد أن درس تجربة لجنة المصالحة من اجل فلسطين التابعة للأمم المتحدة، وهى اللجنة التى نشأت بقرار الجمعية العامة رقم 194 الشهير، واعطى لمحة عن كل تلك الأرشيفات التى تضم شهادات محددة عن الممتلكات المفقودة لأكثر من 750 ألف فلسطينى. أما حول الأوضاع السكانية التى يمكن أن تنتج عن تطبيق قرار حق العودة، كتب فيليب فارجيس ثلاث سيناريوهات محتملة: العودة الرمزية، والعودة داخل حدود الدولة الفلسطينية، والعودة الى إسرائيل. ولقد قدم فيليب فارجيس الخرائط التى تشرح وجهة نظره، والتى سمحت بان نستخرج منها نتائج مختلفة عن تلك الموجودة حاليا. وفى النهاية أصر الياس صنبر على ضرورة التفريق بين الحق فى العودة، وبين التفاوض حول آليات التطبيق. ويرى أن التقدم الذى حدث خلال مفاوضات طابا، التى جرت فى يناير عام 2001، هو دليل على أنه من الممكن التوصل الى حل من خلال المفاوضات، بشرط أن يكون الطرفان على استعداد للوصول الى النهاية.

ويؤكد فاروق مردم- بيه والياس صنبر أن الهدف من الكتاب ليس فقط الدفاع عن ملف اللاجئين الفلسطينيين، الذى لا يختلف عليه أحد، ولكنه يقوم فى نفس الوقت بتوجيه رسالة مؤداها أن اعتراف إسرائيل بحق العودة لن يهدد مستقبلها، بل بالعكس سوف يعطيها الفرصة لان يكون لها وجود طبيعى فى الشرق الأوسط.

كتب: الأمريكيتان والتعايش الصعب

فى أول ثلاثاء من شهر نوفمبر 2006 اختار الناخب الأمريكى أغلبية مختلفة فى مجلسى الكونجرس، مجلس النواب ومجلس الشيوخ، موجها بذلك ضربة قوية لسياسات الرئيس الأمريكى جورج بوش والمحافظين الجدد، وكان أول ضحايا الانتخابات دونالد رامسفيلد وزير الدفاع، على أساس انه رمز الحرب فى العراق، ورمز الفشل الأمريكى التام فى تلك الحرب التى سيطرت على الحياة الأمريكية خلال السنوات الخمس الماضية، وخاصة على الحملة الانتخابية الأخيرة.
هذا التحول فى مزاج الناخب الأمريكى من الجمهوريين الى الديمقراطيين، ليس نتيجة أيام أو شهور، بل هو التراكم الذى تواصل على مدى السنوات الخمس الماضية، منذ حرب العراق فى 2003، وتواصل الأكاذيب من جانب الإدارة الأمريكية الجمهورية، والتى أدت الى انقسام المجتمع الأمريكى انقساما حادا فى الانتخابات الرئاسية عام 2004. ولكن رغم انتخاب بوش لفترة ثانية فى عام 2004 بدأ التوجه الى الانحدار بالنسبة للحزب الجمهورى ولحكم بوش، الى حد أن كتب ديفيد أوليف فى الشهر الحالى وقبل انتخابات مجلس النواب والتجديد لمجلس الشيوخ أنه مهما كانت نتائج الانتخابات فان المحافظين الجدد قد أنتهوا، لان التخطيط الكبير الذى خططوا له منذ عام 2001 دمر تماما. ولم يحققوا أى من أهدافهم، باستثناء العمل على انهيار مكانة الولايات المتحدة فى العالم.
فقد كان هدف المحافظين الجدد الأول هو أمركة العراق، وتوقع المحافظون الجدد انه بعد "الانتصار السهل" المتوقع فى العراق فان سائر دول الشرق الأوسط الى شبه الجزيرة الكورية سوف يتبعونها، وسوف يتبنون بسرعة السياسات الأمريكية فى الرأسمالية والديمقراطية وتأييدها لإسرائيل. ولكن يقول ديفيد أوليف، الحرب العراقية ثبتت إنها غير قابلة للفوز، وبعد خمس سنوات من الصراع، و300 مليار دولار من الإنفاق على الحرب الكارثة و400 ألف ضحية عراقية وثلاثة ألاف أمريكى، اعتبرت إنها أسوأ كارثة فى السياسة الخارجية الأمريكية منذ حرب فيتنام، وان المحافظين الجدد فقدوا الى الأبد مصداقيتهم.

وصل التحول فى المزاج الأمريكى الى الذروة فى عام 2004 فى الانتخابات الرئاسية التى فاز فيها الرئيس بوش بفترة ثانية أمام غريمه الديمقراطى جون كيرى. فى تلك الانتخابات واجه الرئيس بوش غريمه جون كيرى الديمقراطى فيما اعتبر أكثر الحملات الانتخابية عنفا، وصفتها كريستين أوكران، الكاتبة والإعلامية الفرنسية، التى قضت عشر سنوات تغطى الأحداث الأمريكية، بإنها "انتخابات واجهت فيها أمريكيتان، الواحدة تكره الأخرى كراهية شديدة لم تشهد مثلها فى التاريخ". وبعد عامين من الانتخابات الرئاسية، وصل الانقسام بين الامريكيتين الى نقطة المواجهة الحاسمة، بين أمريكا "الديمقراطية" الممثلة بأغلبية كبيرة فى مجلسى الكونجرس، النواب والشيوخ، وأمريكا "الجمهورية" التى لازالت تحكم قبضتها على البيت الأبيض، ولمدة عامين آخرين على الأقل، والممثلة فى الرئيس جورج بوش ومن يبقى من إدارته. وأصبح على الامريكتين أن يتعايشا خلال العامين المقبلين وحتى الانتخابات الرئاسية فى 2008 وتجديد مجلسى الكونجرس.
ولكن كيف سيكون طبيعة هذا التعايش خلال العامين القادمين، وحتى انتخابات 2008؟ من المتوقع أن تشهد الولايات المتحدة وخاصة سياستها الخارجية احتمالات عديدة، فمن ناحية هناك خطر أن يحدث صداما عنيفا بين الجانبين قد يؤدى الى شل السياسة الخارجية الأمريكية وبالتالى الإضرار بوضعها فى العالم؛ ولكن من جانب أخر، هناك احتمال أن يعقد اتفاقا بين الجانبين يسمح للولايات المتحدة أن تخرج بكرامة من العراق بعد خمس سنوات من الانزلاق المستمر فى مستنقع بلا قرار.
ولكن ما هى تلك الأمريكيتين اللتان ستضطران الى المواجهة خلال العامين المقبلين، والتى تكره كل منها الأخرى كل تلك الكراهية؟ من اجل فهم المجتمع الامريكى السياسى اليوم، يجب العودة الى الحملة الانتخابية الرئاسية فى عام 2004، حيث تبلور الانقسام الحقيقى بين الأمريكيتين، وتأكدت الكراهية بين الجانبين. ولفهم هذه الفترة من وجهة النظر الخارجية، نعيد قراءة كتاب "بوش- كيرى: الأمريكيتان" للكاتبة والصحفية الفرنسية كريستين أوكران، التى غطت السياسة الأمريكية لمدة عشر سنوات كمراسلة فيها، والتى تعرفها مثلما تعرف السياسة الفرنسية تماما.

أمريكا الغاضبة
تقول كريستين أوكران فى كتابها "بوش- كيرى.. الأمريكيتان" وهو الكتاب الذى صدر فى عام 2004 لتغطية الانتخابات الرئاسية الأمريكية، أن الحملة للانتخابات الرئاسية التى جرت فى عام 2004، كانت طويلة بشكل لم يسبق له مثيل، إذ استمرت نحو تسعة اشهر. خلال تلك الشهور أثيرت القضايا التى اعتبرت فى ذلك الوقت أكثرها خطورة. ففى ذلك الحين استمرت الهجمات الدموية فى العراق بشكل دورى، وتزايد عدد الضحايا من الجانبين، مما فجر غضب العائلات الأمريكية التى يخدم أبنائها فى الجيش الأمريكى فى العراق ضد الإدارة الأمريكية، مثل الام سيندى شيهان التى قتل ابنها فى العراق، وقررت بناء معسكرها أمام مزرعة بوش الى أن يجيب بوش على تساؤلاتها عن جدوى الحرب. ذلك بالإضافة الى تزايد كراهية العالم ضد أمريكا والأمريكيين الذين أصبحوا أهدافا مستمرة فى كل مكان، ذلك فى الوقت الذى كان يعانى فيه الاقتصاد الأمريكى من تناقضات العولمة، وارتفاع أسعار البترول مع استمرار تزايد الاستهلاك فى الولايات المتحدة: كل تلك العوامل كانت تثقل بشدة على المناخ العام، وبالتالى على السياسيين.
فى تلك الدولة الضخمة، دولة على مساحة قارة، لا تهتم شعوبها باختلاف أصولها، بالسياسة العامة أو بالأحزاب إلا كل أربع سنوات مع الانتخابات الرئاسية. ولكن حتى فى ذلك الحين، تقول أوكران، تتمحور الانتماءات الحزبية كل حسب التقاليد العائلية لكل شخص، وليس عن قناعة بأفكار هذا أو ذاك. ولكن فى انتخابات عام 2004 تبلورت المواقف السياسية للناخب الامريكى بشكل واضح، ربما لأول مرة منذ انتخابات فرانكلين روزفيلت إبان الحرب العالمية الثانية.
فى هذه الحملة الانتخابية لعام 2004، لم تكن السياسة هى المسيطرة، ولكن كان الغضب الشعبى هو السائد. فقد انقسم الناخبون والمرشحون الى قسمين متساويين، كل جانب يحاول إظهار الجانب الأخر فى شكل شيطانى، وكل جانب يهاجم الجانب الأخر بعنف شديد، ويدمر حججه؛ واستمرت المواجهات الدامية تتبلور فى المؤتمرات الحزبية وفى المناظرات التى جرت عبر البلاد من شرقها الى غربها ومن شمالها الى جنوبها، وعلى شاشات التليفزيون وعبر الأثير ومن خلال الانترنت، وتفجرت مشاعر الكراهية بين الجانبين، وتوجه الحديث الى الدولة والدين، وسيطر الحديث عن الله، كل المناقشات، وبات هو المحور الأساسى الذى يتمسح فيه المرشحان لكى يضمنان الفوز.

لم تكن حملة انتخابات عام 2004، وأيضا انتخابات الكونجرس فى 2006، إلا نتيجة للسنوات الأربع السابقة لحكم جورج بوش، والذى قام خلالها الرئيس الأمريكى وفريقه من المحافظين الجدد، بتقسيم البلاد. وأصبح معظم الناخبين الأمريكيين سواء يؤيد بانفعال، أو يعارض بعنف. وتعود الجميع على العنف فى الحديث، فلم يعد احد ينتقد الأخر فى أفكاره فحسب، بل تحول الى الشخصية والشكل العام وطريقة الكلام أو الصوت. كان كل مرشح مستعد لأن يقتل الأخر.
ركز الجمهورى على الأمن القومى و"الحرب ضد الإرهاب" وضرورة فرض القوانين الأمنية، وظلت عملية 11 سبتمبر مبررا لبث الخوف لدى المواطن الأمريكى، الذى يستمع للرئيس يقول: "اننى أسمعكم، العالم كله يسمعكم، وهؤلاء الذين دمورا الأبراج، سوف يسمعوننا قريبا."
ولكن الديمقراطى أدرك أن الحرب على الإرهاب لم تعد تمثل التابو، أو المحاذير، للمواطن الأمريكى، وقرر مناقشة الحرب فى العراق، ومهاجمة البيت الأبيض مباشرة، والرجل الذى، كما ردد كيرى فى أكثر من مناسبة، "لا يفتأ يكذب على الشعب الأمريكى".
فى ذلك الوقت، قسم الرئيس بوش وحدة الشعب الأمريكى التى كان قد حققها مع احداث 11 سبتمبر. وخلال الحملة الانتخابية الطويلة، اصطدمت الامريكيتان: فمن ناحية وقفت أمريكا المحافظة، الجمهورية، المتدينة، بل المفرطة فى التدين، تتلفح بالعلم الأمريكى، وترفض الإجهاض وزواج المثليين، ورفع الضرائب والبيروقراطية والتعاون الدولى والأمم المتحدة. بالنسبة للجمهوريين، جورج بوش هو البطل، وهو قائد الحرب، هو الذى التقى بالله، ويحارب الشر، ويؤمن بالعائلة، خاصة عائلته هو التى تأتى من الساحل الشرقى ومن تكساس المغروزة فى البترول.
على الجانب الأخر، تقف أمريكا الليبرالية، التى لا تعتبر نفسها أقل وطنية، ولكنها بالتأكيد أكثر انفتاحا، وأكثر تسامحا، تهتم بالحريات وبالعمل، مقتنعة بقوتها وبتفوق قيمها فى العالم، ولكنها تعمل على إيجاد وسيلة لتحسين علاقاتها مع حلفائها حتى تسير الأمور العالمية.
إنها رؤية مختلفة للعالم. ولكن، تقول كريستين أوكران، هذا العالم هو عالمنا.

التحول فى امريكا
شهد أكثر مليون مشاهد فيلم مايكل موور، "فيهرنهايت 9/11" الذى أنتقد فيها سياسة الرئيس بوش فى العراق، ومنذ ذلك الحين بدأ يحدث التحول داخل البلاد بين مؤيدين ومعارضين للحرب فى العراق. وفى يونيه عام 2004 ظهر استطلاع للرأى دق ناقوس الخطر فى المعسكرين الديمقراطى والجمهورى، فلأول مرة منذ بدء الحرب فى العراق، بدأت تظهر أغلبية من المواطنين المعارضين للحرب، وبدأت تلك الأغلبية تنتقد الإدارة التى أرسلت أبناءها للموت فى العراق بدون مبرر ، وتخشى انتقال الحرب الى الاراض الأمريكية ولا تثق فى خطاب البيت الأبيض حول سجن ابو غريب أو عن الاستقرار فى العراق.
كما أن الحسابات الاقتصادية فى ذلك الوقت لم تعد تقنع الشعب الامريكى، فان أمريكى واحد فقط من كل أربعة يرى أن الإدارة نجحت فى خلق فرص عمل، بينما أكثر من مواطن من كل اثنين يرى إنها بالعكس، المسئولة عن تسريح الموظفين. أما الاستطلاع الأخطر بالنسبة للرئيس بوش فكان ذلك الذى ظهر فيه أن 51% مقابل 32% من المواطنين يرون أن بوش قسم البلاد، بدلا من أن يوحدها، وانخفضت حصة بوش من الثقة الى 42% من المواطنين الذين شملهم الاستطلاع، وذلك فى أدنى نسبة منذ توليه الرئاسة فى عام 2000.
ذلك فضلا عن أن فى تلك الفترة بدأت تتكشف حقيقة الحرب فى العراق، التى تتناقض بشدة مع الخطاب الانتخابى: فكانت شاشات التليفزيون تظهر الواقع المأسوي للأحداث مثل ذبح الرهائن وصور سجن ابى غريب والجندية الأمريكية الشابة مع السجناء العراقيين العرايا، وصور الأمهات العراقيات يبكين أبنائهم الذين غطت الدماء جثثهم الصغيرة. كل ذلك غطى على الدعاية الانتخابية للمعسكرين الديمقراطى والجمهورى، التى بدت سطحية وبعيدة عن الواقع، والتى تتحدث عن الانتصار وعن القيم الديمقراطية للولايات المتحدة.
فى نفس ذلك الوقت، شهدت الولايات المتحدة إنقساما حادا بين القرية والمدينة: الاولى ترفض حرب العراق، وترفض الجمهوريين الذين كانوا السبب فى ارتفاع نسبة البطالة. والثانية التى تدعو الى استمرار الحرب على الإرهاب، خاصة بعد أن كانت اكبر مدينة أمريكية ضحية لهذا الإرهاب قبل ثلاث سنوات.
ولكن أمريكا والأمريكيون وجدوا ان الحزبين ورموزهما يمارسان، وبقوة، الكذب. الديمقراطيون ورئيسهم السابق بيل كلينتون الذى كذب على شعبه فيما يخص علاقاته مع مونيكا لوينسكى. بينما كذب الجمهوريون، ورئيسهم الحالى جورج بوش، فيما يخص الحرب فى العراق. فلا ينسى الأمريكيون فى فترة الحملة الانتخابية للانتخابات الرئاسية عام 2004 عندما نشر كاريكاتيور ظهر فيه الرئيس بوش يجلس على يديه وركبتيه تحت المكتب البيضاوى ويقول: اين تلك الأسلحة ذات الدمار الشامل؟ ليدرك المواطن الأمريكى أن الإدارة قررت خوض حربا قامت على أساس كذبة.

الإعلام يجسد الانقسام
تدريجيا بدأ الإعلام يدخل هو أيضا دائرة الانقسام الذى وقع بين الأمريكيتين. فأصبح الناخبون يختارون وسيلة الإعلام التى يشاهدونها، حسب المعايير التى يضعها أى من الحزبين. فالجمهورى المحافظ يشاهد قنوات فوكس نيوز، ويستمع الى الإذاعات التى يشارك المستمعون فيها. ومن ناحية أخرى يشاهد الديمقراطى الليبرالى القنوات والإذاعات التابعة للحكومة، وهى تلك المعروفة بأنها قنوات ثقافية لا تعتمد على الإعلانات فى التمويل، مثل قناة "بى بى أس".
ولكن وسط كل ذلك، تكشفت ظاهرة جديدة، غير مسبوقة، أدت الى تعقيد مهمة الخبراء السياسيين والمحللين وواضعى الاستراتيجيات الخاصة بالحملة الانتخابية: تلك الظاهرة هى انه وراء البطاقات التى توضح اللون السياسى للخارطة الانتخابية بالولايات المتحدة – الأزرق للولايات الديمقراطية والأحمر لتلك التى تصوت للجمهوريين- بدأ يظهر تفتت فى التوجهات السياسية والرأى العام وانقسام فى الأهداف لم يحدث من قبل.
فعلى سبيل المثال، سيدة أمريكية بيضاء، مطلقة ذات مستوى دخل متوسط، قد تتفق مع الديمقراطيين فى مسألة الاضطراب الذى أصاب السياسة الخارجية فى عهد الجمهوريين، ولكنها تتفق مع الجمهوريين حول قضايا الإجهاض، ودور الدين المتزايد. فى نفس الوقت، يمكن لرجل فقد عمله، أن يتجه الى الديمقراطيين فى التصويت رغم انه يحمل بطاقة من الحزب الجمهورى.

تراجع العقيد وصمود التحزب
وترى كريستين اوكران الكاتبة الفرنسية، فى تحليلها للمجتمع الأمريكى الجديد المنقسم، كيف أن العقائد التقليدية تغيرت، وحلت محلها معايير جديدة يختار على أساسها الناخب الامريكى معسكره. يقول أحد المفكرين الأمريكيين، يصف التغيير الذى حدث: "كلما خفت نبرة الأيديولوجية، كلما علت الروح الحزبية.. فلقد اختلف الديمقراطيون والجمهوريون دائما حول قضايا محددة ومهمة، مثل دور الحكومة المركزية، والسياسة الاجتماعية، والنقابات، والميزانية. ولكن كلينتون أدرك أن البلاد تحكم من الوسط، ومنذ ذلك الحين اضطربت المعايير، أو بمعنى أخر، حلت محلها معايير أخرى خاصة فى المجالات الثقافية وفى تحديد الأخلاقيات: مثل ألقيم والعائلة والدين.
ذلك هو الانقسام الحقيقى الذى أصاب المجتمع الأمريكى، فى نظر أوكران: الانقسام بين هؤلاء الذين يترددون على الكنائس، وهؤلاء الذين لا يترددون عليها، بين المتزوجين وبين غير المتزوجين، بين المستقرين وبين غير المستقرين".
وان كانت قضايا المجتمع هى التى تمثل الأهمية الأساسية فى انتخابات عام 2004، فلأن بوش فى ذلك الحين حاول أن يخفى بها القضية الأهم: وهى أنه والمحافظون الجدد كذبوا على الناخب الأمريكى بشأن العراق، بشأن الأسلحة ذات الدمار الشامل، وبشأن سجن ابو غريب، وبشأن استراتيجيتهم ضد الإرهاب. أما الاحترام الكبير الذى أظهره الجمهوريون للكنيسة، فقد كان بسبب رغبتهم فى كسب أصوات كل هؤلاء الذين يشعرون بنفس الاحترام. وحتى الكنائس نفسها، انقسمت بين تيار محافظ وتيار أكثر تقدمية، خاصة حول القضايا التى تخصها مثل زواج المثليين وزواج القساوسة.

انقسام حول الدين، ليس السياسة
ما هى أمريكا اليوم المنقسمة الى قسمين؟ إنها تلك المنقسمة بين المجال العام والمجال الخاص، بين شئون الدولة وشئون الدين. أن أمريكا اليوم منقسمة بين هؤلاء الذين يريدون تخصيص الأموال للإنفاق على احتياجات المجموعة، وهؤلاء الذين يريدون تخصيصها للإنفاق على الدين حتى ولو كان ليس لصالح المجتمع.
ففى أمريكا اليوم يحتل الدين مكانة كبيرة وواسعة فى المجتمع وفى السياسة. ففى عام 2004 وافق 42% مقابل 53% على أن يتحدث المرشحون عن دور الدين فى حياة الأفراد، بينما كان الفارق فى عام 1984، 22% مقابل 75%.
فى حقيقة الأمر انقسمت أمريكا حول الدين، ولكنها لم تنقسم حول السياسة. فيقول خبراء السياسة أن العالم يتصور أن فوز الديمقراطيين سوف يغير من سياسة الإدارة الأمريكية، ولكن الحقيقة كما تراها أوكران، هى أن الديمقراطيين لن يسحبوا قواتهم من العراق، ولن يصدقوا على اتفاقية كيوتو، ولا على اتفاقية محكمة العدل الدولية، وسيظلوا يؤيدون إسرائيل ضد الفلسطينيين. والفرق الذى سوف يحدد بين سياسات الحزبين وبين استراتيجيتهما فى الفترة المقبلة هو علاقة امريكا بحلفائها. فان الديمقراطيين سيسعون الى إقامة حوار معهم حول القضايا التى تهم العالم، رغم أنهم سيظلون يهتمون بتفوقهم وضرورة حماية مصالحهم فى العالم. وذلك بعكس الجمهوريين الذين، كما يقول الخبراء الديمقراطيين، قاموا بـ "خصخصة السياسة الخارجية". فقد أكد الديمقراطيون على ضرورة أن يكون هناك سياسة متعددة الأطراف، "لقد انغلق المحافظون الجدد على غرورهم، ومن الغباء التصور أننا سوف نقتل ونعتقل ونحتل أراضى كل خصومنا، الحاليين والقادمين."

ولكن اوكران تؤكد أن هناك الكثير من الأمريكيين الذين لا تخدعهم تلك الأمور. ربما لم يظهروا فى انتخابات 2004، ولكنهم ظهروا فى انتخابات الكونجرس فى 2006. وأكدوا عبر تصويتهم من اجل أغلبية ديمقراطية فى مجلسى الكونجرس أنهم لم ينخدعوا بكل تلك الأكاذيب، وأنهم يرفضون سياسة بوش والمحافظين الجدد.
لم يفز المرشح الديمقراطى فى عام 2004، ولكن الانقسام فىالمجتمع الامريكى استمر، وزادت الفجوة والعنف بين الجانبين، الى أن تجسد بعد عامين، فى انتخابات مجلسى الكونجرس التى جرت فى الأسبوع الماضى، وسيطر فيها الديمقراطيون على النواب والشيوخ لاول مرة منذ 12 عاما. بقى أن نتابع السياسة الأمريكية المقبلة، والى أى حد هذا الانقسام سوف يؤثر على السياسات الخارجية.

كتب: عوامل تكوين الحملة البريطانية- الفرنسية ضد مصر عام 1956

أزمة السويس، أسبابها الأساسية فى بريطانيا وفرنسا.. داخلية
الحملة مظهر مفاجئ للإمبريالية القديمة التى تعود الى السلاح
الضعف الاقتصادى وأزمة النظام دفعتا الحليفين الى مغامرة عسكرية خارجية غير محسوبة



كتاب "عوامل تكوين الحملة البريطانية-الفرنسية ضد مصر عام 1956" هو أول عمل يقدم دراسة وافية ومتعمقة عن الظروف المختلفة التى دفعت كل من فرنسا وبريطانيا للقيام بحملة عسكرية فى السويس عام 1956 ضد مصر بعد قيام الرئيس جمال عبد الناصر باتخاذ قرار تأميم شركة قناة السويس العالمية شركة مساهمة مصرية، وهى الحملة التى وصفها الكتاب بأنها "حملة محتومة". كما أن الدراسة التى نشرها جان- إيف برنار، الباحث فى شئون السياسة الخارجية، هى الاولى من نوعها التى تشير الى دور السياسة الداخلية فى كل من بريطانيا وفرنسا، فى قضية السويس. إذ يحاول الكاتب أن يوضح انه ليس صدفة أن أزمة السويس جاءت فى نفس الوقت الذى شهدت فيه حكومتا كل من بريطانيا وفرنسا أزمات داخلية: أزمة حزب المحافظين فى بريطانيا وأزمة الجمهورية الرابعة فى فرنسا، وهى الأزمات التى كانت السبب المباشر فى قيام الحكومتين باتخاذ قرار التدخل العسكرى فى منطقة السويس.
قام جان-إيف برنار بدراسة وأبحاث وافية فى كل من بريطانيا وفرنسا، عبر الأرشيف الذى أصبح متاحا بعد مرور 30 عام على الأحداث، مما سمح بملء الفراغات فى الصورة العامة، واستكملها بلقاءات مع شخصيات من مختلف المجالات شاركت فى الحملة، أو كانوا فى الحقل السياسى فى ذلك الوقت.

مراحل الدبلوماسية قبل الانفجار
بدت أزمة السويس وكأنها نتيجة لتسلسل الأحداث الدولية فى ذلك الوقت. وكان رفض أمريكا تمويل بناء السد العالى هو العامل المحرك لها. ولكن يرى الكاتب أن الأزمة تقع فى محور عدة ظواهر دولية: تصاعد القومية العربية؛ نهاية الاستعمار الفرنسى والبريطانى؛ الصراع العربى الاسرائيلى؛ الصراع حول أبار البترول فى الشرق الأوسط؛ الحرب الباردة. أما الرهان الذى فسرته علنيا كل من لندن وباريس يقع أساسا فى الأهمية الإستراتيجية للقناة كمجرى مائى للتجارة العالمية، وخاصة لتغذية أوروبا الغربية بالبترول.
ولكن، أن كان لأزمة السويس أسبابا أخرى غير تلك التى طرحتها القوى المعنية علنا، فان الدول الأخرى التى تورطت فيها بشكل غير مباشر، اعتبرتها فرصة لعمل سياسى عام. فأعتبرت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، الأزمة مبررا لتحرك معين، ولقد وجد الأمريكيون أنفسهم مضطرون لان يأخذوا فى اعتبارهم، طوال فترة أزمة السويس، صراعهم مع الاتحاد السوفيتى والمنافسة معهم على دول العالم الثالث، وعلاقاتهم مع حلفاءهم الفرنسيين والبريطانيين.

تم تأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو. ورغم أن كل من فرنسا وبريطانيا اتخذا موقفا واضحا وحاسما من قرار التأمين، إلا أن أزمة السويس لم تتفجر إلا بعد ثلاثة أشهر، وخلال تلك الفترة مرت العمليات الدبلوماسية بعدد من المراحل المختلفة. ولم يقع الصدام المسلح إلا فى شهر نوفمبر.
فى 29 يوليو اجتمع ممثلو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لمدة أربعة أيام، فى محاولة من الأمريكيين لتهدئة الأمور، وتقرر فى نهاية اللقاءات الدعوة الى مؤتمر تحضره الدول المعنية والمهتمة بمستقبل القناة. ولكن كل من بريطانيا وفرنسا قررا المضى قدما فى الاستعدادات العسكرية، وفى خطط الغزو المسلح ضد مصر.
فى 23 أغسطس، عقد مؤتمر لندن حيث اجتمعت 22 دولة تستخدم القناة سواء كمجرى مائى أو تجارى، ووافقوا بأغلبية 18 صوتا على الاقتراح الأمريكى، وهو وضع القناة تحت إدارة دولية. وحاول وفد من المؤتمر برئاسة روبرت مينزيس رئيس وزراء استراليا، إقناع الحكومة المصرية بضرورة الإذعان لمطالب الـ 18. ولكن مصر رفضت رفضا باتا التنازل عن سيادتها الوطنية. وخلال الأسابيع الستة التالية بدى وكأن كل من بريطانيا وفرنسا نجحا فى إقناع الولايات المتحدة بتصميمهم على التدخل العسكرى، وبدى وكأنهما حصلا على مساندة دولية. ولكن يقول الكاتب الفرنسى أن نجاحهما لم يكن حقيقيا، بل كان ظاهريا فقط.

بعد رفض مصر الاقتراح المقدم من الوفد الدولى، وبعد انسحاب المسئولين الأوروبيين من القناة، بدأت مرحلة ثانية من أزمة السويس، وخلال أسبوعين تدهور بسرعة وضع بريطانيا وفرنسا. فمن ناحية استبعدت الولايات المتحدة بشكل حاسم، احتمال ممارسة أية ضغوط عسكرية أو حتى اقتصادية على مصر؛ ومن ناحية ثانية، بدت كل من بريطانيا وفرنسا فى عزلة كبيرة خاصة فى المؤتمر الدولى الثانى الذى عقد فى 19 سبتمبر فى لندن، وضم الدول الثمانية عشر التى وافقت على اقتراح واشنطن.
لقد علقت لندن وباريس أمالهما على الحصول على تأييد دولى فى حملتهما، كان من الممكن استغلاله كعامل ضغط ضد الحكومة المصرية، وكان من الممكن تشكيل جهاز دولى لإدارة القناة فى المستقبل. ولكن الولايات المتحدة وأغلبية الدول الأخرى التى تستخدم قناة السويس وجدوا أن هذا التجمع الذى يضمهم، هو وسيلة مؤقتة للتفاوض، وأيضا للتعاون مع القاهرة. لذلك، وبعد هذا الفشل الأول، قررت باريس ولندن اللجوء الى مجلس الأمن بالأمم المتحدة.
وهكذا بدأت المرحلة الأخيرة فى أزمة السويس، قبل الصراع المسلح، الذى شاركت فيه فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. تركزت المرحلة الأخيرة فى المحاولات الدبلوماسية مع مصر فى مجلس الأمن، وفى نفس الوقت عقدت كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لقاءا بينهم فى مدينة سيفر الفرنسية، حيث تم عقد التحالف بينهم، وعلى أساسه قامت إسرائيل بمهاجمة مصر أولا فى 29 أكتوبر عام 1956، تلاه تحذير من فرنسا وبريطانيا ضد مصر وإسرائيل للانسحاب الى عشرة كيلومترات من ضفتى قناة السويس، فى 30 اكتوبر، وأدى رفض مصر الى تدخل القوتين الاوروبيتين، وقيام القوات الجوية البريطانية بقصف المطارات المصرية.

يقول الكاتب أن فى الفترة التى سبقت الحملة العسكرية، تغيرت الأوضاع الدولية، فقد شهدت كل من فرنسا وبريطانيا تدهور وضعهما فى قلب المجتمع الدولى، بينما تغيرت العلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة، وحتى التفاهم بين فرنسا وبريطانيا أصابه اهتزازا. كما بدا دخول إسرائيل الى التحالف مع بريطانيا وفرنسا غريبا، خاصة وان القوتين الأوربيتين ابقيا طوال الشهرين السابقين، إسرائيل بعيدا عن الإستعدادات التى كانا يقومان بها للحرب. ويقول الكاتب أن خلال تلك الفترة بدا نشاط بريطانيا وفرنسا وكأنه عملية تآمرية، وفى نظره أن ما حدث فى نوفمبر لم يكن حقيقة إلا مظهر مفاجئ للإمبريالية البريطانية والفرنسية البالية، التى عادت الى استخدام السلاح.

القرارات الفرنسية والبريطانية
يرى الكاتب أن كل التفسيرات التى ترددت حول العدوان الثلاثى ضد مصر، والتى تنصب أساسا على السياسة الخارجية، لم تكن كافية. فقد خلص معظم المحللين السياسيين الى أن تلك الحملة وقعت نتيجة لخمسة عوامل أساسية: اولا: الفشل المستمر للسياسة البريطانية فى الشرق الأوسط؛ وثانيا: النتائج الاقتصادية المباشرة لتأميم شركة قناة السويس على الدول المعنية، بعد أن وضعت مصر يدها على شركة أوروبية كبيرة وفرضت سيطرتها على طريق البترول؛ وثالثا: الجانب النفسى للأزمة؛ ورابعا: العلاقة بين مصر والجزائر من وجهة النظر الفرنسية؛ وخامسا: رغبة الحكام الفرنسيين فى منع مصر من القضاء على الدولة الإسرائيلية.

فى نفس الوقت، بدأت بريطانيا، التى كان لازال لها وجود فى الشرق الأوسط، بشعر بقلق متزايد إزاء تصاعد المشاعر القومية فى مصر. لذلك، كان هدفها من الحملة العسكرية هو أساسا القضاء على ناصر وإعادة بناء سياستها العربية التى بدأت تتجه الى حافة الكارثة. وكان قد بدأ يشير بعض الكتاب البريطانيين الى تزايد كراهية بريطانيا وعداءها لعبد الناصر خلال الفترة التى سبقت الأزمة ومع كل حدث وقع فى تلك الفترة، من مفاوضات الاتفاقية عام 1954، الى صفقة الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا، وطرد جلوب والإضطرابات التى صاحبت عملية تمويل بناء السد العالى. وفى عام 1956، ومع وضع بريطانيا المهدد فى الشرق الأوسط، أرادت لندن أن تضمن هزيمة عبد الناصر حتى لا يسيطر ويهيمن على المنطقة وعلى ثرواتها من البترول. ولقد شارك معظم السياسيين البريطانيين هذا الرأى خاصة هارولد ماكميلان، وزير المالية فى ذلك الوقت، وسيلوين لويد وزير الخارجية البريطانيين. ولكن كان السياسيون البريطانيون يرون أن لناصر طموحات أكثر كثيرا من الحقيقة، تجسدت فى سياسته العربية ونضاله ضد القوى الأوروبية. كما تزايد قلق بريطانيا من احتمالات تغلغل النفوذ السوفيتى فى الشرق الأوسط.

من وجهة النظر الأكثر ضيقا، يقول الكاتب أن كل من فرنسا وبريطانيا اعتبرا أن تأميم شركة قناة السويس هو المشكلة الحقيقية، فمن وجهة نظرهما اختفت شركة مساهمة يحمل البريطانيون والفرنسيون الغالبية العظمى من أسهمها، ورغم انها قانونيا شركة مصرية وتخضع للقوانين المصرية حسب قرار التنازل لعام 1856، إلا أن المسئولين فى كل من لندن وباريس اعتبروا أن أهمية الشركة تكمن فى كونها شركة عالمية تتبع القوانين الفرنسية، ويقع مقرها فى العاصمة الفرنسية. ويقول مديرها، فرانسوا شارل روو، أنها "مؤسسة ذات صفة دولية تقدم خدمة دولية".

ومن الأمور التى أثارت غضب بريطانيا وفرنسا ان عملية التأميم تمت من جانب واحد، بلا مفاوضات مع الأطراف الأخرى. فقد اتهمت الدولتان الأوروبيتان مصر بالاستيلاء على ملكية أوروبية، ورأوا أنها قامت بعمل سياسى ليس له أى سند شرعى. وأشار الكتاب أن حكومة جى موليه الفرنسية زعمت انه من بين أهدافها رغبتها فى حماية أسهم الشركة، متجاهلة أن مصر قامت بالالتزام بشراء جميع الأسهم. كما تجاهل السياسيون الذين كانوا ينتقدون سياسة عبد الناصر، ويرون انه يعمل لأهداف متطرفة، أن مصر التى تعانى من الفقر، وان عائد القناة، والذى وصل فى عام 1955 الى نحو 8،7 مليار فرنك فرنسى صافى أرباح، يمكن أن يحل مشاكلها الكثيرة.
وفى النهاية اتفق أعضاء "التفاهم الودى" بالإجماع على أن سيطرة مصر على القناة، التى تعتبر الشريان الاساسى للتجارة بين الغرب والشرق، والطريق الأهم للمواصلات بين دول الكومنولث، وطريق مرور ناقلات البترول، يمثل بالنسبة للغرب تهديدا استراتيجيا غير مقبول، لان بالنسبة لسلوين لويد فان: "فكرة أن يكون ناصر هو الذى يسيطر على العلاقات البحرية والإمدادات البترولية خاصة لبريطانيا، مسألة غير محتملة"!!! وأوضح رئيس الوزراء انطونى إيدن فى البرلمان البريطانى موقفه منذ بداية الأزمة، والذى يقوم على مبدأ أن حكومته لن تترك القناة فى يد قوة واحدة. وفى فرنسا، اكد بينو، وزير الخارجية، تأييده لموقف إيدن، مشيرا الى أن السفن الإسرائيلية، على سبيل المثال، ممنوعة من المرور من قناة السويس، كما المح المسئولون فى كل من بريطانيا وفرنسا الى احتمالات تدهور القناة، أن هى انتقلت الى إدارة مصرية.

مبررات فرنسية للحرب
على الجانب الفرنسى، يرى الكاتب أن غالبية المراقبين أكدوا على وجود رابطة قوية بين حملة السويس والمشكلة الجزائرية. فقد كتب جاك فوفيه، الصحفى بصحيفة لوموند الفرنسية والمسئول عن السياسة الخارجية فى الصحيفة، قائلا: "لقد كان جى موليه يعتقد انه سيجد فى القاهرة مفاتيح السلام فى الجزائر". وذلك رغم أن وزير الخارجية الفرنسية فى ذلك الوقت، نفى ربط حملة السويس بالحرب فى الجزائر. ولكن، فى نفس الوقت، ذكر الكاتب الفرنسى، أن الأخوان برومبيرجيه، ميرى وسيرج، نشرا كتابا موثقا، يرى الكاتب أن وزارة الدفاع الفرنسية هى التى شجعتهما على نشره، اتهما فيه ناصر بأنه يشن فى الجزائر حربا ضد فرنسا، وبالتالى فقد اعتبر العمل العسكرى الفرنسى ضد مصر فى عام 1956 بمثابة عملية انتقامية من ناصر.
من جهة أخرى، يرى العديد من المؤرخين، خاصة الفرنسيين منهم، أن أهم الدوافع الفرنسية لخوض حربا ضد مصر فى منطقة القناة، هو رغبة فرنسا فى حماية إسرائيل خاصة من مصر التى، كما يقول المؤرخون، أبدت عداءا ضد إسرائيل وتوجهت الى الاتحاد السوفيتى للتسلح. فقد أشار بينو وزير الخارجية الفرنسية، الى مشكلة إسرائيل بقوله: "أن المسألة الحاسمة، هى مسالة إسرائيل.. التى لن تسمح فرنسا بأن تختفى". ونشر أبيل توما، نائب وزير الخارجية كتابا يعرب عنوانه عن نفس تلك النظرية، فقد نشره بعنوان: "كيف يمكن إنقاذ إسرائيل؟". وذلك رغم أن جان-إيف برنار أكد فى كتابه، أن إسرائيل لم تكن مهددة عسكريا فى فترة حملة السويس، بل إنها كانت قادرة على أن تضمن انتصارها فى سيناء، بسبب المظلة الجوية التى كانت تتمتع بها، والمساعدات العسكرية التى حصلت عليها.

الحرب لإنقاذ حكومات لندن وباريس
يجد جان-إيف برنار أن المبررات الخارجية لحملة السويس، سواء من الجانب البريطانى أو الفرنسى، ليست قوية بشكل يدفع القوتين الكبريتين الى خوض حرب ضد مصر. لذلك، سعى برنار الى التخلص من المبررات الكلاسيكية ومن مجال السياسة الخارجية، وحاول فهم الدوافع الحقيقية التى دفعت بريطانيا وفرنسا الى اتخاذ قرارهما بشأن الحرب، دون أن يقلل من أهمية مخاوف أوروبا من تأميم القناة.
قام الكاتب بإلقاء الضوء على تأثير السياسات الداخلية فى كل من بريطانيا وفرنسا على قرار الحكومتين. وقال برنار كيف أن انطونى ناتنج، وزير الدولة للشئون الخارجية البريطانية، فى ذلك الوقت، ربط بشكل مباشر مصير رئيس الوزراء بضرورة اتخاذ موقفا مضادا لتحرك ناصر فى القناة. وفى نفس الوقت، اكد ديفيد كارلتون، فى السيرة الذاتية التى كتبها عن إيدن، والتى انتقد فيها رئيس الوزراء بشدة، أن " الإجراءات التى اتخذت من اجل إسقاط ناصر، كانت بلا شك، إجراءات مفاجئة لرجل سياسة يتعرض لضغوط داخلية غير محتملة".
وبالنسبة للوضع فى فرنسا، أشار الكاتب الى أن المؤرخين لم يقوموا بدراسة وافية لقرارات الحكومة الفرنسية فى السويس، انطلاقا من السياسة الداخلية والضغوط التى تعرضت لها، وذلك، رغم وجود ظواهر عديدة تشير الى هذا الاتجاه. فقد قال بورجيز- مونورى، وزير الدفاع الفرنسى فى عام 1956، لتبرير التشدد من الجانب الفرنسى فى المفاوضات التى جرت فى نيويورك، أن "التوصل الى اتفاق من شأنه أن يؤدى الى سقوط موليه فورا".
أكد برنار أن السياسة الداخلية فى كل من بريطانيا وفرنسا، كان لها تأثيرا حاسما فى اختيارات وقرارات السياسيين فى الدولتين، وفى تنظيم الحملة البريطانية/الفرنسية فى نوفمبر عام 1956 ضد مصر. فقد تعرضت الحكومتان لضغوط داخلية كبيرة، جعلت من الصعب على السياسيين فى الدولتين أن ينتهجوا سياسة خارجية متآنية، أو أن يتخذوا قرارات بعد تفكير متعمق، يضمن نتائجها المستقبلية.

بريطانيا والمحافظون قبل الحرب
فى بريطانيا، تعود جذور الحرب الى عام 1955، عندما فاز إيدن فى الانتخابات العامة البريطانية بأغلبية 49،7% من الأصوات، وحصل فى البرلمان على أغلبية من المحافظين جعلت موقفه قويا. ولكن بسرعة تكشفت المشاكل الاقتصادية الخطيرة التى كان على الحكومة الجديدة مواجهتها. فقد أدت سياسة وزير المالية التوسعية، الى تشجيع الاستثمار والاستهلاك، مما أدى الى رفع الأسعار وتفشى التضخم. ولقد دفع الوضع الاقتصادي المتدهور، الحكومة الى زيادة الضرائب على الأدوات المنزلية فأطلق على الميزانية الإضافية لقب "ميزانية الحلل والطواجن". ولقد أدت تلك السياسة الى انقسام داخل الحزب نفسه فى مؤتمر الحزب الذى أقيم فى خريف عام 1955. ودعا الأعضاء الى العودة الى الاقتصاد الكلاسيكى التقليدى، وخفض الإنفاق العام. كما قاموا بإدانة التوجهات الأساسية الخاصة باستعداء "الطبقة المتوسطة" والتى تعتبر عمادا أساسيا فى الانتخابات.
وفى يناير عام 1956 تحول الانقسام الداخلى الى إدانة حقيقية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية التى انتهجها أنطونى إيدن، وحذرت صحيفة تايمز الحكومة من خطر الانفصال عن ارض الواقع. وفى نفس الوقت، هاجمت صحيفة الديلى تليجراف الحكومة ورئيس الوزراء بشكل عنيف، وكتبت تقول أن "خلال سبعة اشهر فقدت الحكومة مكانتها وإصرارها، ومن اجل استعادة ثقتها بنفسها مرة أخرى وثقة الناخبين فيها، على الزعماء أن يعودوا الى أهداف حزب المحافظين الاولى فى عام 1951، ووضع نهاية للأزمة الاقتصادية التى ورثوها من حزب العمال، وإنهاء بسرعة سيطرة الاشتراكيين على الاقتصاد". ودعت صحيفة الديلى تليجراف الحكومة الى تطبيق سياسة محافظة فعالة فى الشئون الداخلية، خاصة فى مجالات التضخم والضرائب والرواتب، كما فى الشئون الخارجية فى الشرق الأوسط. وهكذا كانت الصحيفة هى أول من ربط بين المشاكل الداخلية والسياسة الخارجية.

فرنسا والاشتراكيون قبل الحرب
أما فى فرنسا، ففى خريف عام 1955، بدأ التحالف بين اليمين ووسط اليمين الذى كان يشكل الأغلبية ويساند ادجار فور، يتفكك بسبب المشكلة المغربية. وفى نفس الوقت تدهورت الأوضاع فى الجزائر، وأصبح من الضرورى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة على أمل أن يحصل تحالف ادجار فور على أغلبية جديدة. وفى نفس الوقت تزايد الغضب الشعبى ضد الشلل الحكومى.
تمت الانتخابات فى بداية عام 1956 ولكن لم يحصل أى من الأحزاب على الأغلبية، وهزمت حكومة ادجار فور، وبدت "الجبهة الجمهورية" فى موقف أفضل. ومن جهة أخرى، تطور الوضع فى الجزائر مما أدى الى انقسام التحالف وهاجمت المجموعة السلمية الموالية لمنديس فرانس، سياسة الحكومة. هذا الانقسام بين مؤيدى ومعارضى منديس فرانس أدى الى اضعاف الحزب، وبالتالى الى اختيار جى موليه لتشكيل الحكومة الجديدة فى بداية عام 1956. وهكذا قام جى موليه بتشكيل الحكومة الجديدة بدلا من منديس فرانس.
وهكذا، فى الوقت الذى بدأت تتطور فيه أزمة السويس، لم يكن فى فرنسا حكومة قوية، أو جبهة جمهورية فعالة تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة. فقد كانت الحكومة الموجودة تقع تحت ضغوط عنيفة داخلية، بعد ان تدهورت الأوضاع فى الجزائر، وبدا موقف جى موليه ضعيفا أمام اليمين الذى يرى أن "الجزائر يجب أن تظل فرنسية". لقد أدت أزمة الجزائر الى إضعاف اليسار، وانقسام الحزب الاشتراكى من الداخل، حيث تزايدت مشاعر عدم الرضا.
فى يولية عام 1956 ناقشت الجمعية الوطنية الفرنسية الميزانية الجديدة خاصة ميزانية وزارة الدفاع حيث تم طرح مسالة الحرب فى الجزائر وتمويلها خلال العام الجارى. فدعت الحكومة الى فرض ضرائب اضافية حتى يمكنها الحصول على مئة مليار من الفرنكات من اجل العملية السلمية. لهذا الهدف اقترح بول رامادييه وزير المالية فرض ضرائب جديدة، خاصة على الدخان كما طرح اقتراحا بفرض ضرائب على الدخل العام. ولكن تلك الضرائب أعطت اليمين الفرصة الذهبية لسحب الثقة من الحكومة التى يرأسها الاشتراكيون. ووجدت الحكومة الفرنسية وبالأخص الجمهورية الرابعة، نفسها فى مأزق عليها الخروج منه بسرعة.

وهكذا اجتمعت لدى كل من بريطانيا وفرنسا الأسباب الداخلية التى دفعت حكومة الدولتين الى البحث عن مغامرة خارجية للخروج من المأزق. كما اجتمعت لدى الدولتين المبررات الخارجية التى دفعتهما الى اتخاذ موقفا واحدا ضد مصر وضد قرار عبد الناصر بتأميم القناة. ولكن مع تطور الأوضاع الخاصة بالحملة ضد مصر، تغيرت الأهداف تدريجيا، ومع الوقت لم يعد الهدف هو إسقاط عبد الناصر، ولكن أن يؤدى التدخل العسكرى الى إحداث اقل الأضرار المدنية والمادية الممكنة، والحصول منها على ضمان بالاستمرارية فى الحكم أطول وقت ممكن.

كتب:الحرب الكبرى من اجل الحضارة: ابادة الارمن فى تركيا

كتب: الحرب الكبرى من اجل الحضارة

إبادة الأرمن فى تركيا واقع مسجل فى وثائق رسمية وصحفية
ألمانيون نازيون شاركوا فى المذابح وطبقوا الوسائل ضد اليهود
الحلفاء عرفوا بالجرائم وتخلوا عن الأرمن بكل قسوة
إسرائيل والغرب ينكرون الهولوكوست الأرمينى ويعتبرونه مجرد مأساة

عرض وتقديم: ليلى حافظ
وافقت الجمعية الوطنية الفرنسية بالأغلبية على مشروع قانون جديد يجرم إنكار إبادة الأرمن فى تركيا العثمانية عام 1915 والتى راح ضحيتها مليون ونصف المليون من الأرمن. هذا القرار أثار غضب تركيا غضبا شديدا، لأن أغلبية أعضاء الجمعية الوطنية من أعضاء حزب الرئيس الفرنسى جاك شيراك، "الاتحاد من اجل حركة شعبية" وبالتالى فان الرئيس الفرنسى هو المسئول الأول.
وبغض النظر عن الأسباب الداخلية التى دفعت الحزب الحاكم الذى يرأسه أحد المرشحين الأساسيين فى الانتخابات الرئاسية ضد شيراك، الى تمرير مشروع القانون اليوم، فان قرار الجمعية الوطنية فتح الباب أمام صفحة مهمة فى تاريخ السنوات الاخيرة من تاريخ الدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض، وبداية الدولة التركية، وهى صفحة تريد تركيا اليوم إغلاقها للأبد، بينما تظل هى الحجرة العثرة التى قد تمنع تركيا من الانضمام الى الاتحاد الاوروبى كما تسعى منذ سنوات.
فما هى حقيقة أحداث 1915 وأهميتها فى تارخ تركيا؟
مرة أخرى نستعين بكتاب روبرت فيسك الكاتب الصحفى ومراسل صحيفة الاندبندنت فى لبنان والشرق الأوسط، "الحرب الكبرى من أجل الحضارة"، لكى نعرف تاريخ الإبادة التى تعرض لها الأرمن فى تركيا، فى فصل أطلق عليه عنوان: "الهولوكست الأول"، أول إبادة منسية فى العالم.
قد ترفض تركيا الاعتراف بإبادة الأرمن ولكن روبرت فيسك، الكاتب والصحفى البريطانى، اكتشف المقابر الجماعية على تلال مارجادا غربى الصحراء السورية، بينما كان يتفقد المكان مع مصورة الصحيفة إيزابيل السون، التى كشفت عن هول الصدمة عندما وجدت جمجمة بشرية تبرز عبر الشقوق التى انزاح عنها التراب بسبب الأمطار التى هطلت فى مسار النهر هابور الذى جف مع مضى السنوات، فى ذلك النهر القيت الجثث والأرمن الأحياء لكى يغرقون فى مياهه. وبعد مرور نحو 80 عام عثر على الجماجم ثم عظام هيكل عظمى، ثم جمجمة أخرى وعظام أخرى ثم أخرى، مع كل حجرة يقلباها وكل سنتيمتر من الأرض، تكشفت أمام عيونهما العشرات بل المئات والالاف من هياكل عظمية كانت لجثث بشرية قتلت فى فترة حالكة من فترات الإرهاب التركى ضد الأرمن فى عام 1915. فقد قام المسئولون الأتراك فى ذلك الوقت بتقييد الالاف من الأرمن نساء واطفالا ورجالا، لكى يموتوا غرقا. ويقول فيسك فى كتابه كيف أن العظام كانت تتلاشى بين اصابعهما كلما أخرجاها وتختفى "بنفس السرعة التى تريد الحكومة التركية أن ننسى وجودهم".
ويؤكد فيسك على قيام الدولة التركية فى ذلك الوقت بالجريمة، وبرغبتها فى القضاء على العرق الأرمينى بشكل خاص، ففى برقية أرسلها طلعت باشا وزير الداخلية التركى فى 15 سبتمبر عام 1915 الى مدير الأمن التركى فى حلب، يقول له فيها: "لقد تم إبلاغك بأن الحكومة قررت القضاء تماما على الأشخاص المعنيين الذين يعيشون فى تركيا.. يجب القضاء على وجودهم، مهما كانت قسوة الإجراءات التى يجب اتخاذها، ولا يجب الأخذ فى الاعتبار لا السن أو الجنس، أو أية اعتبارات إنسانية أخرى."
وينقل فيسك شهادة بوجوس داكيسيان الذى وقف على التل مع فيسك يقص عليه عن كل تلك "الإجراءات المأساوية" التى اتخذت ضد من أطلق عليهم "الأشخاص المعنيين" فقال: "كان الأتراك يأتون بعائلات بأكملها الى التل، لقتلهم، ولمدة أيام عديدة، كانوا يقيدون الجميع فى طابور، الجميع أطفال ورجال ونساء، معظمهم يعانى من المجاعة ومن الأمراض، وأكثرهم عرايا، ثم يدفعونهم من فوق التل الى النهر، ويطلقون الرصاص على واحد منهم فقط، فان جثة هذا الشخص سوف تجذب الأخرين الى قاع النهر ليغرقوا جميعا. لم تكن المسألة تكلف كثيرا، لم تكلف إلا رصاصة واحدة."!!

وتتوالى القصص التى رواها شهود العيان، أو من تبقى منهم، الناجين من الهولوكوست التركى، الأرمن الذين استطاعوا أن يهربوا من المجازر والتقى بهم فيسك فى بيروت فى ملاجئ الأرمن الكفيفين. فقصوا مأساتهم مع القوات التركية التى كانت تقتل وتعذب بلا رحمة، وقصص المواطنين المسلمين الذين كانوا يجازفون بحياتهم، ويعارضون أوامر الحكومة التركية "شبه الفاشية" والحكام الأتراك الشبان، فى قسطنطينية، ويآوون الأرمن فى منازلهم لحمايتهم، وكانوا يعاملون الأطفال الأرمن المسيحيين، مثل أى عضو من أعضاء عائلتهم المسلمة. وفى مدينة دير الزور السورية، كان الحاكم التركى ، على سعاد بيه، رحيما باللاجئين الأرمن، فأقام ملاجئ لأطفالهم، وكان عقابه على ذلك استدعاءه الى تركيا، واستبداله بأخر هو زكى بيه، الذى حول المدينة الى معسكر اعتقال.

الانتقام من المسيحيين الأرمن
كان هدف الحكومة التركية، فى ذلك الوقت من عام 1915 هو القضاء على الشعب المسيحى فى الشرق الأوسط، لأن فى ذلك الوقت كانت تركيا العثمانية فى حرب ضد الحلفاء وادعت أن الأرمن يؤيد أعداء تركيا المسيحيين. وبالفعل كان هناك نحو 200 ألف من الأرمن القادمين من روسيا الأرمينية يحاربون فى جيش القيصر الروسى. وحتى هؤلاء الذين كانوا يخدمون فى الجيش التركى لم يشفع لهم، فقد اتهموا بأنهم كانوا يساعدون أسطول الحلفاء فى البحر المتوسط، رغم انه لم تثبت تلك الاتهامات.
الحقيقة كما يرويها روبرت فيسك، هى أنه ظهرت فى تركيا "حركة الأتراك الشباب" والتى عرفت رسميا باسم "لجنة الاتحاد والتقدم" وقامت بالاستيلاء على السلطة من السلطان عبد الحميد، ومن النظام العثمانى الفاسد. ولكن تلك الحركة التى عرفت فى البداية بإنها حزب ليبرالى أيده الأرمن، كشفت عن إنها حركة قومية عنصرية، تدعو الى سيادة الجنس التركى، وتدعو الى دولة تركية تتحدث اللغة التركية ديانتها الإسلام، وتمتد من أنقرة الى باكو، وهو الحلم الذى تحقق لفترة قصيرة فى عام 1918، ولكن المشروع لم يكتمل، واليوم أصبح غير ممكن جغرافيا، بسبب وجود الدولة الأرمينية التى نشأت بعد سقوط الاتحاد السوفيتى.
فى تلك الفترة، وبعد انتصار الأتراك على الحلفاء فى الدردنيل، توجهت الحكومة التركية بكل قوتها ضد الأرمن، بنفس القسوة والغضب التى مارسها النازيون ضد اليهود فى أوروبا بعد عشرين عام، يساعدهم فى تلك المذابح الأكراد. ولقد اختارت تركيا يوم 24 ابريل من عام 1915، والذى عرف منذ ذلك الحين بيوم إبادة الأرمن، لإلقاء القبض على، وقتل كل المفكرين والمثقفين الأرمن فى قسطنطينية. ثم تبعوا تلك المجزرة بتدمير كامل ومنهجى للعرق الأرمينى فى تركيا. كانت الجثث تلقى فى نهرى، دجلة والفرات، وكان عدد الجثث كبيرا الى حد أنهم شكلوا سدا، مما دفع مياه النهر الى تغيير مسارها.

شهادة العالم
لم تكن عملية الإبادة الأرمينية سرا حتى ينكرها الأتراك اليوم. بل كان شاهدا عليها الأتراك أنفسهم، والألمان وكتبت عنها الصحف فى الولايات المتحدة. فيقول روبرت فيسك أنه أن كانت عملية إبادة الأرمن فى تركيا هى أول "هولوكوست" فى العالم، فانه تم بالطرق النازية، نفس تلك الطرق التى استخدمها النازيون بعد عشرين عام ضد يهود أوروبا. ولقد أكد فيسك أن الألمان كانوا شهودا على المذابح فى تركيا، فقد كان العديد من ضباط جيش قيصر ألمانيا فى تركيا يساعدون البلاد لتنظيم جيشها. ولقد قامت ممرضة ألمانية بالتقاط صورا للمعسكرات الأرمينية، وهى تلك الصور التى تشهد اليوم وتؤكد على ما حدث. وكان الألمان فى تركيا لبناء شبكة السكة الحديد، ورأوا كيف كان يتم حشر أكثر من 90 شخص من الأرمن داخل عربات القطار الخاصة بالماشية، لترحيلهم من منطقتهم. وبنفس تلك الطريقة، كان النازيون الألمان يرحلون يهود أوروبا الى معسكرات الموت. وذلك ليس كل شئ، بل أن ممثل البنك الالمانى فى القسطنطينية، نفس البنك الذى كان يقوم بتمويل مشاريع الترحيل، التقط صورا لقطارات الترحيل وارسلها الى احد مديرين البنك كدليل على "القسوة الوحشية".
وفى الصحافة العالمية، خاصة فى الولايات المتحدة، نقلت أنباء الإبادة بشكل كامل وتم تغطيتها إعلاميا. فقد كانت صحيفة نيويورك تايمز على سبيل المثال، تقوم بتغطية شبه يومية للمذابح والاغتصاب والإبادة التى كان يتعرض لها الأرمن. وظهرت اولى التحقيقات فى هذا الموضوع فى نوفمبر عام 1914. وفى أكتوبر من نفس العام، كان العنوان الرئيسى فى الصفحة: "قصص عن أعمال وحشية ترتكب فى أرمينيا" ، وفى 7 اكتوبر كتبت الصحيفة فى الصفحة الاولى: "800 ألف أرمينى قتل.. عشرة ألاف غرقوا على الفور". ودعت الصحيفة الإدارة الأمريكية، التى لم تكن قد شاركت بعد فى الحرب العالمية الأولى، كما دعت ألمانيا الى وقف تلك المذابح. وظلت الروايات عما حدث عن لسان شهود عيان تنشر فى الصحف الأمريكية واخرى حتى بعد نهاية الحرب العالمية. ويقول فيسك، لم يحدث قبل هذا الوقت أن تمت تغطية عمليات إبادة بهذا الشكل الشامل العام. كان العالم كله يعلم، وكان يصل الى الدبلوماسيون البريطانيون فى الشرق الأوسط معلومات مفصلة عنها، كما كان الدبلوماسيون الأمريكيون يحصلون بشكل دورى على كل التفاصيل التى تخص المذابح.
وفى نفس الوقت، تم تدوين وتسجيل الإبادة الأرمينية فى العديد من الخطابات واليوميات التى كتبها الأوروبيون الذين جاءوا الى منطقة شمال سوريا وجنوب تركيا العثمانية. ونقل فيسك شهادات كل هؤلاء الذين كتبوا وعرفوا، مثل سيريل بارتر، رجل أعمال بريطانى قامت السلطات التركية بنقله من العراق الى حلب، بسبب تقاريره تلك.

النازيون ينقلون الهولوكوست
كتب ونستون تشرشل، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق فى فترة الحرب العالمية الثانية، فى تقرير عن بشاعة الحرب التركية، يقول: "مذابح تعرض لها عدد غير معروف من الأرمن، رجال ونساء وأطفال، بلا وسيلة للدفاع عن أنفسهم، حيث تم تدمير مقاطعات كاملة فى عملية هولوكوست إدارية واحدة، لم يكن من الممكن إصلاحها إنسانيا". وقال: "ليس هناك أدنى شك فى أن هذه الجريمة تم التخطيط لها وتنفيذها لأهداف سياسية".
وفى نفس الوقت، أشار روبرت فيسك الى وجود مصلحة لأوروبيين آخرين وجدوا فى الهولوكوست التركى ضد الأرمن تجربة مفيدة لأوروبا الجديدة القاسية. من بين هؤلاء، فرانز فون بابن، القائد العام فى الجيش التركى الرابع خلال الحرب العالمية الأولى، الذى تولى منصب نائب مستشار هتلر فى عام 1933، ثم سفيرا للرايخ الثالث فى تركيا خلال الحرب العالمية الثانية. أما الشخصية الألمانية الثانية التى كانت على علم بكل تفاصيل إبادة الأرمن، فقد كان الجنرال هانس فون سيكت، الذى عمل قائدا للقيادة العامة العثمانية فى عام 1917. وقام بوضع أسس الجيش الألمانى فى العشرينات وكرمه هتلر فى عام 1936 بجنازة رسمية كبيرة بعد وفاته. أما الشاب الألمانى، رودولف هوس، فقد انضم الى القوات الألمانية فى تركيا، وفى عام 1940 عين قائدا لمعسكر اوسفيتش، وأصبح نائب مفتش لكل معسكرات الاعتقال النازية فى عام 1944.
هل كان هتلر على علم بما حدث فى تركيا ضد الأرمن؟ بالتأكيد، نعم. فقد سجلت عدة ملاحظات عن هتلر تؤكد انه كان يعلم عن الإبادة الأرمينية على الأقل منذ عام 1924. ففى هذا الوقت سجلت ملاحظة له عن الأرمن عندما قال أنهم "ضحايا الجبن"، وفى عام 1939، سأل قياداته بسخرية، فيما يتعلق بالبولنديين: "من يتحدث اليوم عن تدمير الأرمن"! بمعنى أن المسئولين عن تلك الضحايا لم ينالوا أبدا عقابهم.
ويوالى فيسك سرده لدور الألمان الذين شهدوا على مذابح الأرمن ولم يحاولوا التدخل أو مساعدة الضحايا.

محاكمات المسئولين فى تركيا
غداة الحرب العالمية الأولى مباشرة، تشكلت المحاكم التركية لمعاقبة الجناة، واعترف النواب الأتراك بارتكاب جرائم ضد البشرية. وقدمت محكمة عسكرية تركية، وثائق حكومية استخدمت كأدلة فى المحكمة. إحدى تلك الوثائق كانت تحمل ختم النازية عليها. وحكمت تلك المحكمة بإعدام شنقا ثلاثة موظفين صغار، أما الثلاثى الأساسى: جمال وانور وطلعت، فقد تم الحكم عليهم غيابيا بالإعدام. بعد سنوات، قتل طلعت باشا، وزير الداخلية، فى برلين بيد رجل أرمينى لقى جميع أفراد عائلته حتفهم فى المذابح.
ولم تستكمل المحاكم التركية محاكمة الجناة. أما الحلفاء الغربيون، الذين تعهدوا بمحاكمة مجرمى الحرب الأتراك الأساسيين، (فقد أطلق الحلفاء تعبير "جرائم حرب" على الإبادة الارمنية)، فلم يهتموا بمتابعة المحاكمة. والنتيجة، كما يقول روبرت فيسك، هى الإنكار المستمر لوقوع عمليات إبادة لشعب كامل هو الشعب الأرمينى.
ويلمح لورد بريس، الذى كانت الوثائق التى قدمها حول الإبادة الأرمينية من أهم الأدلة التى كشفت عن تلك الوقائع، أن هناك سببا أخرا، أكثر من مجرد "إرهاق" الحلفاء بعد الحرب، جعلهم يرفضون إعادة الاعتبار الى الأرمن. ويتساءل لورد بريس: "لماذا، بعد ارتكابها كل تلك المذابح، تعامل الحكومة التركية بهذا الرفق من قبل الحلفاء؟ تظل تلك المواقف غامضة، وتفسيرها قد يكون معروف لديكم، كما هو لدى"، ويستطرد قائلا: "ولكن السر، كما كان يقول هيرودوت عن بعض الأقاصيص التى كان يسمعها من رجال الدين فى مصر، "مقدس" الى حد انه يصعب على الكشف عنه". وأضاف قائلا أن الأرمن أكثر الشعوب التى عانت فى الحرب العالمية الأولى، وتم "التخلى عنهم بشكل قاسى للغاية".
ويتساءل فيسك عن هذا السر المقدس الذى لم يرد لورد بريس الكشف عنه، هل هو مجرد محاولة لتفسير أسباب تردد الحلفاء بعد الحرب؟ أم انه تصور أن كل من بريطانيا وفرنسا أرادتا أن تتحول تركيا لتكون حليفا معهما فى مواجهة الدولة البولشفية الجديدة التى قد تهدد بالاستيلاء على مصادر البترول فى الشرق الأوسط؟
كانت القوات البريطانية أول من وقف ضد البلاشفة فى منطقة القوقاز، حيث "أشتمت رائحة بترول باكو"، كما قال احد المراقبين. واستطاعت تلك القوات الحفاظ لوقت طويل على استقلال جمهورية جورجيا واذربيدجان ودولة أرمينيا الصغيرة. ولكن تلك الدول الثلاثة سقطت فى أيدى الاتحاد السوفيتى عندما انسحبت القوات البريطانية فى عام 1920.

ويتساءل فيسك: "هل يمكن إنكار وقوع عملية إبادة، بعد كل تلك الدلائل، وروايات شهود العيان، والتقارير الدبلوماسية والبرقيات، وعظام وجماجم مليون ونصف المليون من البشر؟ أم هل سيتم نسيانها كما قال هتلر؟ وهل سينسى العالم نصف الحقيقة عن أول عملية إبادة فى القرن العشرين، بينما تستمر العمليات المتوحشة على اوسع نطاق لتدخل القرن الواحد والعشرين؟

الغرب ينكر الهولوكوست الأرمينى
ماذا يقول الجانب التركى؟ كان رد الأتراك على مقالات فيسك الأولى عام 1993 الذى كشف فيها عما رآه على تلال مارجادا غربى الصحراء السورية، اتهامه بالكذب. وقالوا فى تقارير عن تلك المقالات، "حتى لو حدث أن قتل مواطنين أرمن فان ذلك نتيجة للفوضى التى سادت نهاية الفترة العثمانية مع الحرب العالمية الأولى، الفوضى المدنية التى راح ضحيتها العديد من الأتراك، والتى قامت خلالها المليشيات الأرمينية بتأييد روسيا القيصرية. ورفض الأتراك الاعتراف بكل الشواهد والأدلة التى تؤكد ما حدث وقالوا إنها مجرد دعاية. واعتبر البعض الأخر محاولة التحدث عن الإبادة، محاولة لأعادة كتابة التاريخ، وقالوا : "أن أسطورة "الهولوكوست الأرمينى" ظهرت فور نهاية الحرب العالمية الأولى، من اجل أن يحصل الأرمن على جزء من الإمبراطورية العثمانية التى بدأت عملية تقسيمها، مقابل معاناتهم.
وفى عام 1982 عقد مؤتمر عن الهولوكوست فى تل أبيب، وكان يضم بعض المواد عن إبادة الأرمن، ولكن طلبت الحكومة التركية من إسرائيل سحب تلك المواد حتى لا تضر بالعلاقات الإسرائيلية التركية، وطلب شيمون بيريز سحب تلك المحاضرات. ولقد ذهب بيريز الى أبعد من ذلك فى عام 2001 عندما كان فى زيارة رسمية الى أنقرة بصفته وزير الخارجية الإسرائيلية، وقال فى حديث مع وكالة الإنباء التركية "أناضوليا": انه لا يجب الخلط بين الاتهامات الأرمينية والهولوكوست، وقال أن ما حدث لا يشبه فى شئ الهولوكوست، وان ما حدث للأرمن مأساة، ولكنها ليست عملية إبادة. ودعا الى التعامل مع المسألة بحرص شديد حتى لا تشوه حقائق التاريخ. كما أشار فيسك أيضا الى موقف الغرب من الإبادة خاصة موقف صحيفة النيويورك تايمز التى كانت أول من كشف عنها فى عام 1915، إلا إنها تراجعت اليوم وكتبت تشكك فى الأحداث وتقول إنها لازالت موضع نقاش، ونقاش "أكاديمى" فحسب.
وعلى المستوى الأكاديمى فى الولايات المتحدة، تتردد كلمة "نقاش" كلما فتح موضوع الإبادة الأرمنية، حتى لا تتأثر العلاقات الطيبة بين الجانبين الاكاديمى فى الولايات المتحدة وتركيا، فيرفض المفكر برنارد لويس، احد كبار المؤيدين لإسرائيل والمفضل لدى الرئيس جورج بوش، الاعتراف بتعرض الأرمن للإبادة. وفى فرنسا، حيث قدمت الجمعية الوطنية عام 1999 اقتراحا بإصدار قانون يجرم إنكار الإبادة الأرمينية، ثم قدم مجلس الشيوخ فى عام 2000 اقتراح بالاعتراف بالإبادة ضد الأرمن، لم يكن موقف الرئيس الفرنسى جاك شيراك واضحا وحاسما، كما يكون عادة عندما يتحدث عن الإبادة ضد اليهود. واعترضت السفارة التركية وقالت أن هذه المسألة لا يحسمها البرلمان ولكن المؤرخين.
وفى بريطانيا، احتفل تونى بلير رئيس الوزراء بافتتاح متحفا للهولوكوست، الهولوكوست ضد اليهود بالطبع، ورفض إضافة الهولوكوست ضد الأرمن، وقال مسئول بوزارة الداخلية البريطانية، ومسئول عن "وحدة المساواة بين الأعراق" أنه "لا يريد أن يخاطر بأن تضيع الرسالة الحقيقية التى يسعى المتحف لنشرها، أن تم إضافة أحداث تاريخية كثيرة"!!! وقال أن الهدف من الاحتفال بـ "يوم الهولوكوست" هو التأكد من نقل فهم أكبر للقضية، قضية الإبادة، ودعم مجتمع أكثر ديمقراطية وأكثر تسامحا، يحترم الاختلاف ويتحرر من تأثير العنصرية والتمييز. وفى نفس الوقت، صرح مسئولون فى حكومة بلير أكثر من مرة أن على تركيا والأرمن حل معا المشاكل التى تفصلهما.
قد تكون تصريحات بيريز وموقف أصدقاء إسرائيل محاولة منهم، كما قال احد كبار الأساتذة الإسرائيليين، ألا تتأثر العلاقات بين إسرائيل وتركيا، وتركيا مع الغرب، وخاصة بعد أن ألمحت، بل هددت، تركيا باحتمالات أن يكون هناك مشاكل بينهما، كما قامت تركيا بمعاقبة فرنسا تجاريا بعد موقف الجمعية الوطنية. ولكن أيضا هناك سبب أخر، وهو رفض إسرائيل أن يشاركها أحد فى الهولوكوست، تريد احتكار الهولوكوست، حتى يظل الشعب اليهودى هو الشعب الوحيد الذى عانى من الاضطهاد والإبادة، والشعب الوحيد الذى يدفع العالم ثمن تلك المعاناة حتى اليوم.