24 May 2007

سياسة فرنسا العربية

تجاوز التشكيل الحكومى الجديد فى فرنسا كل التوقعات. فرغم أن الرئيس نيكولا ساركوزى كان متفقا مع ما تعهد به من العمل على الانفتاح على كل الأطراف الأخرى والتوجهات السياسية المختلفة، إلا أن أحدا لم يتوقع أبدا أن يعين وزراء من الحزب الاشتراكى ومن حزب الوسط، فى وزارات سيادية مثل الخارجية. فقد اختار ساركوزى وزيرا للخارجية، برنار كوشنير الإشتراكى، الذى اكتسب لقب "الطبيب الفرنسى" أو كما يطلق عليه العالم، وحتى فى فرنسا: "فرانش دوكتور"، وذاع صيته واكتسب شعبية كبيرة بسبب نشاطه الإنسانى والطبى فى المناطق المنكوبة، وهو نشاط عملى وليس نظرى فقط. ولكن، من جهة أخرى، أثار كوشنير دهشة البعض بسبب موقفه المؤيد للتدخل العسكرى الامريكى فى العراق فى عام 2003، وأعلن عن دعمه لسياسة "الحق فى التدخل" فى المناطق التى ينتهك فيها حقوق الإنسان. فكيف ستكون سياسته فى الشرق الأوسط؟
لقد عكس تشكيل الوزارة الفرنسية توجهات ساركوزى فى التغيير وما وصفه بالقطيعة الهادئة مع الماضى؛ لذلك أثار ساركوزى مخاوف وتساؤلات فى أنحاء العالم العربى حول سياسته المقبلة من قضايانا ومدى ارتباطه بسياسات إسرائيل والولايات المتحدة؛ خاصة وانه لم يخف أبدا، ومنذ بدء إعلانه عن تطلعاته الرئاسية فى عام 2003، توجهه الأطلسى وتأييده لموقف إسرائيل، كما لم تخف إسرائيل سعادتها بفوز ساركوزى، وتطلعت الى سياسة فرنسية جديدة إزاء إسرائيل.
فهل سنشهد تغييرا جذريا فى العلاقات العربية الفرنسية فى السنوات المقبلة؟ للإجابة على هذا التساؤل التقى الأهرام مع المفكر الفرنسى شارل سان برو، الخبير فى شئون العالم العربى، ومدير "مرصد الجيوسياسى الفرنسى" وصاحب العديد من الكتب حول العلاقات الفرنسية مع العالم العربى، كان أخرها كتابه: "سياسة فرنسا العربية"، لإلقاء الضوء حول العلاقات الفرنسية/العربية ومستقبلها على المدى القصير. وفيما يلى نص الحوار:

*ما معنى تعبير: "سياسة فرنسا العربية"؟
** القول بان هناك "سياسة عربية" يعنى أن لفرنسا علاقات متميزة مع العالم العربى بعكس السياسة الأمريكية التى تنتهج "سياسة فى الشرق الأوسط". كما يعنى أن فرنسا تعتبر أن هناك عالم عربى يمثل كيانا جغرافيا محددا، ويجب عليها أن تنشئ علاقات متميزة معه.
يجب التذكير بان سياسة فرنسا العربية ليست وليدة اليوم، أو عصر الرئيس الأسبق شارل ديجول، ولكنها تمتد عبر التاريخ القديم، حين عقدت أول اتفاقية صداقة بين فرنسا والعالم العربى فى عصر الملك الفرنسى شارل العظيم وهارون الرشيد فى القرن الثامن ميلاديا. كما كانت فرنسا هى أول دولة تفتح أبوب جامعاتها لتعليم العربية، وترجمة القرآن الكريم..

*إذن سياسة فرنسا العربية لا ترتبط باتجاهات يمينية أو يسارية؟
** من المؤكد إنها سياسة لا تتعلق بالبترول، فإن فرنسا لم تكتشف العالم العربى مع اكتشاف البترول. ولكنها سياسة جيوسياسية ثابتة ولذلك فهى راسخة فى التقاليد الدبلوماسية الفرنسية، وليست مرتبطة بحزب عن حزب أخر، إنها ليست سياسة يمينية أو يسارية، ولكنها السياسة القومية.
صحيح أن الحزب الاشتراكى، لأسباب تاريخية كان دائما مترددا إزاء سياسة فرنسا العربية، ولكن الرئيس الاشتراكى فرانسوا ميتران، الذى كان صديقا لإسرائيل وليس للعرب، انتهج نفس السياسة العربية.
يمكن القول أن البعض يعطى قوة دفع للسياسة العربية أكثر من آخرين مثلما فعل الرئيس شيراك، لذلك يجب أن نشير هنا الى خطابه الذى ألقاه فى جامعة القاهرة فى عام 1996، وهو خطاب عميق ومهم، لأنه يلخص بصدق سياسة فرنسا العربية فى كل المجالات. لقد دعا شيراك فى خطابه، العالم العربى الى توحيد صفوفه حتى يمكن أن يكون له ثقلا فى العالم.

أن السياسة العربية فى فرنسا، أكثر عمقا من مجرد إيجاد حلا للصراع العربى الإسرائيلى، إنها سياسة تهدف الى إقامة جسرا بين أوروبا والمتوسط، والى تنمية التعاون فى جميع المجالات، خاصة اليوم مع خطر الصدام بين الحضارات الذى أرساه المحافظون الجدد الأمريكيون، لذلك فان السياسة العربية هى مثلا جيدا للحوار بين الحضارات.

* فى الخطاب الذى ألقاه يوم فوزه بالرئاسة، تحدث الرئيس ساركوزى عن اتحاد متوسطى، فهل هناك تغيير فى سياسة فرنسا العربية فى الفترة المقبلة؟
**ساركوزى رجل من اليمين يميل الى الاطلنطى، وهو ليس اتهاما، فهناك أكثر من يمين وأكثر من يسار. ولقد تحدث ساركوزى عن سياسة متوسطية، وذلك شئ جيد وإيجابى، ولكنه لا يعنى شيئا. فما هو المتوسط؟ أين تقف حدوده؟ هل المتوسط يضم فقط الدول التى تقع على شاطئيه؟ أم انه تجمع ثقافى؟ أم دينى؟ أم حضارى؟ يجب علينا أن نحدد أولا ما هو "الاتحاد المتوسطى" بالضبط. اعتقد أن تعبير "سياسة متوسطية"، هو شعارا أكثر منه واقعا، خاصة بعد فشل اتفاقية برشلونة، ومن الناحية الجغرافية فان انتهاج سياسة متوسطية ستعمل على تقسيم العالم العربى الى قسمين وذلك فى رأى مسألة خطيرة.
اعتقد أنه علينا التعامل مع الاتحاد المتوسطى كمشروع طويل المدى. لأنه لا يمكن إقامة اتحاد متوسطى كما يراه ساركوزى، طالما لازالت هناك مشاكل فى المنطقة لم تحل بعد، خاصة القضية الفلسطينية، وطالما لازال خطر المواجهة بين إسرائيل والعالم العربى قائما. لذلك، يجب أولا بناء منطقة سلام وإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية، بمعنى إقامة دولة فلسطينية مستديمة ومستقلة وذات سيادة. تلك هى الأولوية الأساسية. وذلك هو بالضبط دور سياسة فرنسا العربية.


* منذ حرب العراق، اتخذت فرنسا موقفا قويا، ولكن بعد ذلك بدأت تفقد دورها فى العالم العربى؟
** لا اعتقد أن فرنسا فقدت مكانتها القوية فى العالم بعد حرب العراق، لان النتائج أكدت صحة الرؤية الفرنسية، التى ترى أن الحرب ضد العراق هى حرب غير شرعية ولن تحل شيئا، بالإضافة الى خلق أزمات جديدة، وذلك ما حدث بالفعل. ولا اعتقد أن فرنسا فقدت مكانتها فى المنطقة، فقد أصبحت شريكا متميزا واستراتيجيا للسعودية ودول الخليج الآخرى، على سبيل المثال.
ما حدث هو أن فرنسا فقدت مكانتها فى العراق التى كانت دولة صديقة، ولكنها يمكن أن تعيد تلك العلاقات فى المستقبل عندما يستعيد الشعب العراقى وحدته وسيادته.
أما بالنسبة لسياسة شيراك فى لبنان، فأعتقد أن شيراك أخطأ فى خياراته هناك. قد تبدو سياسته موالية للموقف الامريكى، وأعتقد أن الأمريكيين والفرنسيين تعاونا ولكن لم يكن لهما نفس الهدف فى لبنان. واعتقد أن الدبلوماسية الفرنسية فى عهد شيراك ارتكبت خطأ فى لبنان، لأنها قررت أن تأخذ موقفا مع جانب ضد الجانب الأخر. أن لبنان دولة تضم العديد من التكتلات، ولا يمكن أن نختار الوقوف مع تكتل ضد الآخر. لذلك اعتقد أن على الرئيس الجديد أن يعيد التوازن مرة أخرى للسياسة الفرنسية فى لبنان.

* وفيما يخص القضية الفلسطينية، هل هناك فرصة لفرنسا لان تلعب دورا؟
** كانت فرنسا أول دولة تدرك أن عرفات هو الرئيس الشرعى للسلطة الفلسطينية، وانه الوحيد الذى يستطيع أن يحقق السلام. لقد قتل المتطرفون الإسرائيليون عرفات سياسيا واعتقد أيضا جسديا، بالتعاون مع الأمريكيين. ولكن الإسرائيليين أخطأوا فى حساباتهم، فلازال المأزق قائما اليوم بدون عرفات. ولذلك اعتقد انه حان الوقت لان نطلق عملية دبلوماسية جديدة، وهنا يكمن دور فرنسا التى أكدت دائما أن الطريق الوحيد لتحقيق السلام يمر بالضرورة عبر إقامة الدولة الفلسطينية.
ولذلك فان كون ساركوزى ليس عدوا لإسرائيل ولا للأمريكيين، قد يلعب دورا مهما، لأنه يستطيع أن يتحدث مع جميع الأطراف، مما يضعه فى وضع يستطيع معه أن يلعب دورا ايجابيا لصالح السلام.
اعتقد أن الأمريكيين الذين سوف يتخلصون يوما ما من بوش إدارة المحافظين الجدد، سيحاولون إيجاد حلا للوضع فى الشرق الأوسط، وهنا سوف تحتاج الولايات المتحدة لمساعدة الدول الأخرى، واعتقد أن فرنسا ستكون أفضل الدول التى يمكن أن تساعدهم فى تحقيق هذا الهدف.

* ما هى الأولويات السياسية لساركوزى؟
** من الطبيعى أن يكون لساركوزى اولويات داخلية لان عليه أن يعيد أصلاح الاقتصاد الفرنسى. ولكن بصفته رئيس واحدة من أقوى أربع أو خمس دول فى العالم، يجب أن تكون لديه اولويات متعددة، ومن أهم تلك الأولويات إيجاد حلول للقضايا الدولية التى تهمنا كلنا مثل أزمة الشرق الأوسط التى تقوم بتغذية الإرهاب وتؤثر على الأمن فى منطقة المتوسط، وهى مشاكل قد تؤثر فى فرنسا، لذلك اعتقد إنها مشكلة فرنسية أيضا، كما إنها مسئوليتها.
ويجب أن نأخذ فى الاعتبار أن ساركوزى تحدث فى خطابه الذى ألقاه عقب فوزه بالرئاسة، عن السياسة الخارجية الفرنسية بشكل خاص وليس السياسة الداخلية، وهى مسألة غير مسبوقة، ودليل على اهتمامه بدور فرنسا فى العالم. واعتقد انه رجل يتمتع بالديناميكية والرغبة فى ان يلعب دورا مهما على الساحة الدولية.