14 Oct 2008

بينما العالم مشغول بالازمة...


فى الوقت الذى ينشغل فيه العالم بالأزمة المالية التى ألمت بالأسواق، وفى الوقت الذى تركز فيه وسائل الإعلام الغربى على الخطر الذى يهددها، تتحرك إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية بلا رقيب أو حسيب، ترتكب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والمزيد من الجرائم ضد البشرية. نفس تلك الحقوق التى أعلنت الأمم المتحدة أن إسرائيل انتهكتها فى غاراتها ضد بيت حنون.
هذه المرة تقوم إسرائيل بوضع خطة من اجل إعادة فتح مقلب نفايات سامة بالقرب من منطقة تضم العديد من الآبار المهمة فى الضفة الغربية بالقرب من قرية دير شرف. وكانت إسرائيل قد اضطرت الى إغلاق المقلب فى عام 2005 حيث كانت تلقى بنفايات عدة مدن إسرائيلية ومستوطنات يهودية فى الضفة الغربية، بعد احتجاجات ضخمة من الفلسطينيين المقيمين فى المنطقة بسبب نتائج تلك النفايات على مياه الآبار، وبالتالى تلويث المياه التى تروى الأراضى الزراعية الفلسطينية.
وقال خبراء مياه واراضى فلسطينيون أن المنطقة تضم خمسة آبار تمد قرية دير شرف ومدينة نابلس أهم مدن شمالى الضفة الغربية وقرية بيت ايبا، بالمياه التى يعتمد عليها عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
ولكن مؤخرا بدأ العمال الإسرائيليون يظهرون مرة أخرى فى الموقع مما أُثار مخاوف الفلسطينيين من أن تحاول إسرائيل إعادة فتح المقلب مرة أخرى. وخرج الفلسطينيون مرة أخرى فى مظاهرات احتجاجية بعد صلاة الجمعة فى الأسبوع الماضى يحملون اللافتات التى تطالب بوقف فتح مقلب النفايات على الأراضى الفلسطينية، وتؤكد إنها تدمر البيئة الفلسطينية.
وكأن إسرائيل تحاول الاختباء وراء الأحداث العالمية وانشغال الإعلام بالأزمة المالية لكى تقوم بتمرير قرارات ضمن سلسلة القرارات التى تتخذها ضد الوجود الفلسطينى فى الأراضى، من اجل دفعهم بأى شكل من الأشكال، خارج المنطقة فى عملية "تطهير عرقى"، وذلك سواء من خلال القمع أو القتل أو تدمير البيئة والاراضى والزراعة التى يعيشون عليها ومن خيراتها.
والغريب أن تعمل إسرائيل على تلويث المياه الفلسطينية فى الوقت الذى أطلق فيه خبير مياه اسرائيلى صرخة إنذار فى شهر يولية الماضى، أعلن فيها أن إسرائيل تشهد أسوأ أزمة مياه فى تاريخها، مؤكدا إنها تتجه نحو الكارثة. وأكد الخبير أن على إسرائيل اتخاذ عدد من القرارات لمواجهة هذا الخطر، الذى يهدد الضفة الغربية أيضا بعد أن اعتبر عام 2008 عام الجفاف.
الغريب أن إسرائيل فى مواجهة هذا الخطر لا تحاول التفاوض ولا التعاون، ولكن تعمل من ناحية على حرمان الفلسطينيين من مياههم، وتشن من ناحية أخرى الحروب ضد الدول المجاورة مثل جنوب لبنان للوصول الى نهر الليطانى. وفى كل الحالات فان إسرائيل متهمة بانتهاك جرائم ضد البشرية. فهل تحقق الأمم المتحدة فى تلك الجرائم؟ وهل تدين المحكمة الدولية إسرائيل كما تدين زعماء الدول الأخرى؟ أم أن الرأى العام العالمى منشغل حاليا فى قضايا أكثر إلحاح؟

الانتماء قرار وليس هبة


أدهش عندما اسمع من بعض الشباب عبارات مثل: "لم يعد عندى شعرة انتماء للبلد"؛ أو "كيف اشعر بالانتماء لوطن بينما الفساد فى كل مكان؟" أو "لماذا اشعر بالانتماء إن كنت لا أجد العمل؟".. وأدهش أكثر عندما يذهب البعض الى حد القول انه غير مستعد لان يموت من اجل الأرض ولا الوطن، لأن الوطن لا يعطيه شيئا و"المواطن الذى لا يحصل فى الوطن على لقمة عيش، فسوف يكفر حتما به".
وكأن الوطنية سلعة قابلة للمقايضة والمساومة؛ والانتماء هبة تمنحها الحكومة للمواطن أو تسلبها منه؛ إن أعطتنا العمل والسكن ولقمة العيش، شعرنا بالانتماء الى الوطن ودافعنا عنه، أما وإن مر الوطن بمحنة، تنصلنا منه وبحثنا عن آخر.
ولكنى لا أدهش عندما أرى آخرين كثيرين، بالمئات، وربما بالآلاف أو الملايين، يشعرون بالانتماء الى وطنهم لمجرد ان أجدادهم عاشوا فيه فى الماضى، واليوم هم يعملون فيه من اجل أن يعيش فيه أحفادهم وأحفاد أحفادهم فى المستقبل؛ لا أدهش عندما أرى كل هؤلاء يفكرون فى وطنهم ويعملون من اجل أبناء بلدهم؛ فنجدهم سواء أفرادا أو جماعات، يعملون فى صمت ودأب وحماس ولا يساومون على وطنيتهم وانتمائهم.
وتتوالى النماذج، فنسمع عن جمعيات أنشأها الشباب مثل "بنك الطعام" الذى يتبرع فيه شباب بوقتهم وجهدهم، ويعملون بجد ومسئولية من اجل ألا ينام أحد بدون عشاء، ونسمع عن جمعيات أخرى أسستها مجموعة من النساء المصريات مثل "أولادنا.. مستقبلنا" لدعم المدارس الفقيرة ومساعدة التلاميذ إيجاد مناخ علمى إيجابى يكبرون فيه؛ أما الجمعيات الخيرية فهى عديدة تقدم القروض الصغيرة لمساعدة الآخرين إنشاء مشاريع الصغيرة وتعمل بنشاط فى جميع المجالات؛ وعلى مستوى الأفراد، هناك أمثلة لشباب منتمى قرر أن يساهم فى رفعة وطنه، فنسمع عن شابة تدعى ياسمينا قررت أن تذهب الى أفقر الفقراء فى أفقر الأحياء فى القاهرة تدعى إسطبل عنتر، حيث أسست مدرسة الفصل الواحد، يتعلم فيها كل هؤلاء الذين رفضتهم المدارس الأخرى لسبب أو لأخر، وبذلك أعطت المحرومين الفرصة لأن ينهضوا بأنفسهم مرة أخرى.
وهناك جمعيات إسلامية وأخرى قبطية، لا تفرق فى عطائها ما بين مسلم أو مسيحى، فان الخير لا يعرف دين أو طبقة اجتماعية، تلك الجمعيات مثل "الهيئة القبطية الإنجيلية" التى حولت التحديات الى فرص فى أنحاء القطر، من الصعيد الى الإسكندرية، تقيم الحوار وتقدم المشروعات فى كل المجالات التعليم والتنمية البشرية، وطرح البرامج وإنشاء الجمعيات والقرى مثل قرية الأمل للتعامل مع المعاقين والايتام.
ولا أدهش عندما اسمع عن أبناء قرية "كفانا الأشراف"، وهى قرية "كانت" فقيرة ترتفع فيها نسبة البطالة الى معدلات عالية، وتتداعى فيها البنية التحتية، وتتآكل أرضها الزراعية، قرروا ونجحوا أن يحولوها الى واحدة من أغنى القرى من ناحية الإنتاجية الزراعية، لا يوجد فيها فقير ولا عاطل، ونشأت فيها المدارس والمعاهد وتأسست جامعة.
ولا أدهش عندما أسمع عن قرية أخرى تدعى "النخيلة"، قرية معزولة فى أقاصى الصعيد، عاش أبناؤها، الذين لا يزيد عددهم عن 40 ألف نسمة، فى عبودية بسبب سيطرة قطاع الطرق عليها وسيادة قانون القوة، فتحولت الى قرية جرداء تعيش فى خوف دائم؛ قرر أبناؤها وضع حدا لتلك العبودية. ومن خلال تأسيس جمعية أطلقوا عليها اسم "معا"، استطاع أهل القرية "معا" القضاء على قطاع الطرق، والنهوض بقريتهم لتصبح قرية واعدة يتعلم فيها الأطفال والشباب وتتوالى فيها مشاريع التنمية التى يتشارك فيها الجميع كبارا وصغارا.
وتتوالى الأمثلة عن مواطنين شعروا بالانتماء لوطنهم، وعلى استعداد للموت من اجله، لأنهم ساهموا ولو بجزء صغير فى تنميته ونهضته ولن يفكروا أبدا فى تركه ليتمتعوا بخير بلاد أخرى لم يساهموا فيه.هؤلاء يعرفون أن الوطن إن مر بأزمة فستكون عابرة وسوف تنتهى بفضلهم لأنهم يتكاتفون لإنقاذه؛ هؤلاء يمثلون ومضات براقة تنير طريقنا، ونبت أخضر متناثر، مع رعايته سيكبر يوما ما ليحقق النهضة.
أما كل الذين قرروا ألا يشعرون بالانتماء، فقد فقدوا جزء كبيرا من كينونتهم، وأصبحوا مثل فرع الشجرة الذى انخلع من جذوره فتقاذفته الرياح والأمواج بلا هدف أو معنى. هؤلاء لن يشعرون أبدا بالانتماء الى أى شئ: لا وطن ولا عائلة ولا حتى فكرة أو مبدأ.