كتب: "60 عام من الصراع العربى الاسرائيلى"
"الهوية اللبنانية متعددة الثقافات"
الحوار اللبناني المتعدد الثقافات يجب أن يظل نموذجا يحتذى به العالم
لبنان يضم 18 طائفة مختلفة وشهد على 12 حضارة
بيريز: إسرائيل تصورت أن المسيحيين هم حلفاءها فى لبنان
ولكن بشير الجميل رفض هذا التحالف بعد انتخابه رئيسا فى عام 1982
شعار المجتمع اللبنانى: الوحدة فى الاختلاف، والاختلاف يؤدى الى التكامل
عرض وتقديم: ليلى حافظ
أغتيل بيير الجميل وزير الصناعة اللبنانى، يوم الثلاثاء الماضى، 21 نوفمبر، فى الساعة الثانية والربع ظهرا. وقبل اقل من ساعة كانت وزيرة الخارجية الإسرائيلية، تسيبنى ليفنى، تتهم سوريا وتقول فى تصريحات لها: "أن الدور السلبى لسوريا فى لبنان، ليست مسألة جديدة أو غير متوقعة"، تماما مثلما حدث فى فبراير عام 2005 يوم مقتل رفيق الحريرى رئيس الوزراء اللبنانى السابق، فى عملية إغتيال بشعة، فى ذلك اليوم كان وزير الخارجية الاسرائيلى فى زيارة لفرنسا، وبعد ساعة من العملية وفى مؤتمر صحفى عقده مع نظيره الفرنسى فى مبنى الخارجية الفرنسية، فى ختام مباحثاتهما، أتهم مباشرة سوريا، وكأن إسرائيل كانت مستعدة للحدث، مثلما كانت مستعدة لحادث بيير الجميل.
هل لبنان باتت اليوم على شفا حربا أهلية، مثل تلك التى تتفجر فى العراق؟ ومثل تلك التى تفجرت فى منتصف السبعينات من القرن الماضى فى لبنان؟ هل التعدد الثقافى اللبنانى عامل من العوامل التى تعد دولة الى حرب أهلية؟ أم عامل يعدها للحوار الثقافى؟ وهل هناك علاقة بين إغتيال بيير الجميل واغتيال عمه بشير الجميل قبل 23 عاما، عقب انتخابه رئيسا للبنان، ورفضه التعاون مع إسرائيل، رغم اعتباره "مرشح إسرائيل"؟ وبين اغتياله وبين دور جده بيير الجميل وتحالفه مع الإسرائيليين فى السبعينات من القرن الماضى؟
كل تلك الأسئلة تدافعت بعد إغتيال بيير الجميل، وهو الاغتيال، مثل قبله، أدانته جميع الطوائف اللبنانية، من حزب الله الى المارونيين الى الحكومة التى انسحب منها وزراء حزب الله، كما أدانتها كل الدول المجاورة من سوريا الى إسرائيل، وكذلك الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا. الجميع أدانها، بينما أتهم كل جانب الجانب الأخر، فى عملية الإغتيال، كما حدث فى مقتل بشير الجميل. لتعود لبنان مرة أخرى ساحة للمعارك الخارجية.
ولكن، فى عام 1982، وبعد مقتل بشير الجميل قرر جيش لبنان المسيحى، جيش الجنوب الموالى لإسرائيل بقيادة حبيقة الانتقام، فقام بارتكاب مذبحة صابرا وشاتيلا ضد الفلسطينيين، حيث تم ذبح أكثر من 1200 فلسطينى تحت سمع وبصر الجيش الاسرائيلى الذى وقف خارج المعسكرين يحمى جيش الميليشيات اللبنانى. فهل مقتل بيير الجميل سيفجر مذبحة جديدة، هذه المرة بين المسيحيين وحزب الله؟
شرح شيمون بيريز، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، واحد الشخصيات الإسرائيلية المؤثرة فى تاريخ الدولة العبرية، هذا الدور وهذه العلاقة بين إسرائيل وعائلة الجميل، فى كتاب "ستون عام من الصراع العربى الاسرائيلى" الذى قام فيه بحوارات متبادلة مع الدكتور بطرس بطرس-غالى حول تاريخ المنطقة خلال الستين عام الماضية من الصراع العربى الاسرائيلى، وصدر فى باريس فى الصيف الماضى.
بالنسبة لشيمون بيريز، كما كان الأمر بالنسبة لإسرائيل منذ نشأتها، لم تكن لبنان جزءا من الأمة العربية والإسلامية، لان غالبيتها كانت من المسيحيين الذين حسب قوله، يركزون على التجارة والاقتصاد، أكثر من تركيزهم على الخطاب العقائدى الراديكالى السائد حولهم. وأرجع بيريز هذا التقارب بين مسيحيى لبنان واسرائيل أنهم كانوا "أقلية فى عالم إسلامى، وانهم كانوا يشعرون بالخوف من المناطق الشيعية، ومن جارهم الكبير السورى الذى، حسب قول بيريز، كان يعتبر لبنان جزءا لا يتجزأ منه.
ولكن الدكتور بطرس غالى نفى تلك الفكرة وقال أن كل السياسة الإسرائيلية تجاه لبنان قامت على سلسلة من الأخطاء فى الرؤية وفى التحليل. لأن حسب رأيه، كان المسيحيون اللبنانيون معادين لإسرائيل أكثر من العرب المسلمين، ويشعرون بالخوف من وجود دولة إسرائيلية على حدودهم، تعمل على ضم جنوب لبنان اليها. وذكر الدكتور بطرس غالى أن خريطة دولة إسرائيل التى قدمتها منظمة الصهيونية العالمية الى مؤتمر السلام الذى انعقد فى فيرساى عام 1919، كانت تضم جنوب لبنان حتى نهر الليطانى. وأكد الدكتور بطرس كيف أن المسيحيين فى لبنان، مثل هؤلاء فى سوريا، هم لاعبون أساسيون فى العروبة الشاملة، وان الأقلية سواء كانوا مارونيين أو أقباط أو دروز، أدركوا تماما أن التحالف مع محتل الساعة، سواء كانوا فرنسيين أو إنجليز أو إسرائيليين، لا يدوم، وان من مصلحتهم التعايش بأفضل ما يكون مع الأغلبية المسلمة. وفى رأى الدكتور بطرس أن تحالف البعض مع إسرائيل ليس معناه أنهم قبلوا الواقع الاسرائيلى، بل كانوا يبحثون فقط عن وسيلة لتقوية وضعهم فى الصراع الدائر داخل لبنان.
"نحتاج الى ضابط مارونى"
فى عام 1955 قال موشيه شاريت، رئيس الوزراء إسرائيل فى ذلك الحين، أن موشيه دايان صرح له قائلا: ""كل ما نحتاجه، هو أن نجد ضابطا، قد يكون مجرد برتبة كابتن، لنكسبه فى صفنا، أو أن نستأجره لكى يقدم نفسه على انه منقذ الشعب المارونى. فى هذه الحالة يمكن أن يدخل الجيش الاسرائيلى لبنان، ويصبح سيد الاراضى الضرورية ويقيم حكومة مسيحية تكون حليفا لإسرائيل. أما المنطقة التى تقع جنوبى نهر الليطانى فنضمها بالكامل إلى إسرائيل."
لم ينف بيريز تلك القصة، بل وأشار الى زيارة سرية من كل من بشير الجميل ودانى شمعون، فى عام 1974 الى شيمون بيريز وكان وزيرا للدفاع فى ذلك الوقت، وقال بيريز إنهما طلبا منه مساعدة إسرائيل، وأشارا له أنهم جميعا يحاربون نفس العدو. ولقد تعهد بيريز أن يقوم بمساعدتهما فى مجال تدريب قواتهما، وسوف يتدخل فقط أن كانا فى خطر يهدد بالموت. كانت إسرائيل على قناعة تامة من أنها تستطيع إقامة سلام مع لبنان فى حالة وجود رئيس مسيحى، وخاصة بشير الجميل رئيسا للبنان، وكان السلام مع لبنان مسألة مهمة لإسرائيل بسبب مياه نهر الليطانى فى الجنوب، والذى تحتاجه إسرائيل بشدة.
فى تلك الفترة كانت الساحة اللبنانية تعج بالكثير من الصراعات: فكانت القوات السورية قد دخلت بطلب من المسيحيين المارونيين، وكانت المعسكرات الفلسطينية مستقرة فى الجنوب وترسل فدائييها لضرب إسرائيل، وكانت قوات الأمم المتحدة عند السواحل. وكانت الحرب الاهلية مشتعلة فى البلاد. وفى يونية عام 1982، قررت حكومة بيجين المتطرفة، والتى كان يتولى آرييل شارون فيها منصب وزير الدفاع، أن تقود عملية واسعة النطاق فى الجنوب اللبنانى تهدف الى تدمير القواعد الفلسطينية فيها، وبالفعل بعد يومين من القصف الاسرائيلى احتلت القوات الإسرائيلية الجنوب وبدأت عملية "سلام فى الجليل". كان هدف شارون انهاء الوجود الفلسطينى فى لبنان فى ذلك الوقت، وبالفعل تمكن من طرد عرفات وقوات فتح من لبنان.
فى اليوم التالى لانسحاب مقاتلى فتح انتخب البرلمان اللبنانى بشير الجميل رئيسا. كان من الواضح انه "مرشح إسرائيل". زعم البعض أن الإسرائيليين كان لهم يد فى هذه الانتخابات. نفى بيريز ذلك، وقال لا اعتقد. فالانتخابات اللبنانية مسألة خاصة جدا، حيث تتداخل مؤثرات متناقضة- عائلية وعلاقات شخصية ومالية وشبكات، الخ.- لذا لا اعتقد أن أكثر الإسرائيليين حذقا يمكنه أن يجد مدخلا فيها. إلا أن الدكتور بطرس غالى أكد أن الإسرائيليين لعبوا دورا أساسيا فى انتخاب بشير الجميل. أولا، قامت القوات الإسرائيلية بحراسة عددا من النواب فى أثناء توجههم الى جلسة البرلمان؛ ثم قامت المخابرات الإسرائيلية بشراء بعض الأصوات؛ وأخيرا، تم نقل نائب أو اثنين من البقاع بالطائرات المروحية الإسرائيلية الى المدرسة الحربية فى بعبدا حيث تمت الانتخابات.. "فلا تقول لى أن إسرائيليين لم يلعبوا دورا فى انتخاب بشير الجميل!"
ولكن الأخطر من ذلك، حسب قول الدكتور بطرس غالى، هو أن فى كل العالم العربى، سيعتبر بشير الجميل هو أول رئيس دولة عربية يتم اختياره ومساندته من قبل إسرائيل، وهو ما أثبت، فى نظر دول جبهة الرفض رغبة إسرائيل فى الهيمنة على العالم العربى مع كل ما يمثله ذلك من مخاطر على مستقبل العروبة.
وان كان بيريز قد نفى ذلك، فى حواره مع بطرس غالى، إلا انه أكد أن "بيجين وشارون كانا يأملان بقوة فى انتخاب بشير، معتقدين أن ذلك سوف يسمح بالتوصل الى سلام حقيقى مع اتفاقيات التعاون التى تم إعدادها". مع ذلك، قبل الانتخابات بوقت قليل، أجرى بيجين اتصالا مع بشير. وقال بيريز: "اتذكر انه اختفى خلال ليلة بأكملها، وعندما سألناه عن السبب أجاب قائلا: "لا يجب أن تسألوا رجلا محترما أين قضى ليلته." الحقيقة انه ذهب لمقابلة بشير ومعه شارون، وعاد من اللقاء سعيدا جدا، وأدلى بتصريحات لا تعقل، ألمح فيها الى أننا سنقيم سلاما مع لبنان. كان ذلك وهما، لم أصدقه إطلاقا".
تساءل منسق الحوار، اندريه فيرساى، عما كان يتوقعه الإسرائيليون من بشير الجميل، وان كان بيجين يأمل فى عقد معاهدة سلام سريعة مع لبنان من خلاله وان بشير رفض ذلك؟ أجاب الدكتور بطرس غالى الى أن ": قبل الانتخابات، كان بشير فى حاجة الى مساعدة الإسرائيليين. ولكن من اليوم التالى، لم يعد فى حاجة اليها. لذا فمن الطبيعى ان يبتعد عن إسرائيل، وهو الشرط الرئيسى أن كان يريد أن يكون رئيسا لكل اللبنانيين وليس متعاونا مع إسرائيل. لذا سيرفض توقيع معاهدة سلام وكذلك كل مشروع تحالف لبنانى-اسرائيلى".
ولكن بيريز اكد على أن الجانبين " عاشا فى أوهام حول الالتزامات العسكرية والسياسية التى كان كل جانب على استعداد لاتخاذها: تصور المارونيون أننا سنتحمل مسئولية حربهم، وتصور بيجين أن المارونيين سوف يتبنون مواقفنا ويصبحون على الفور نوعا من الطليعة الموالية لإسرائيل. ذلك كان يفتقد للحصافة: فكان لابد لكل جانب أن يراعى مصالحه الخاصة ويحارب بنفسه من اجل الدفاع عنها. واقصى ما كان يمكننا أن نأمل تحقيقه، هو الوحدة بين العائلتين المارونيتين الكبيرتين، الجميل وشمعون."
قتل بشير بعد انتخابه رئيسا للبنان فى عام 1982، وتولى شقيقه امين الجميل الرئاسة من بعده، ويتساءل المنسق الفرنسى أن كان مقتل البشير وضع حدا لأمال إسرائيل فى إقامة سلام مع لبنان؟ ورد بيريز قائلا: " لقد كانت ضربة قوية تلقاها الليكود الذى وضع أمالا كبيرة فيه، واقل بالنسبة لنا، المعارضة، حيث إننا لم نكن نصدق أحلام بيجين".
هل كان لسوريا يد فى هذه العملية كما اتهمتها إسرائيل، كما تتهمها اليوم فى حادث مقتل بيير الجميل؟ ما نعرفه هو أن اغتيال بشير جاء بعد انتخابه رئيسا للبنان، وبعد رفضه التعاون مع إسرائيل. وعلى اثر مقتله قامت قوات الميليشيات، بقيادة المسيحى حبيقة، بالهجوم على معسكرى صابرا وشاتيلا الفلسطينيين مدفوعا برغبة قوية للانتقام. وان الهجوم الذى أسفر عن مذبحة بشعة للفلسطينيين، تم تحت سمع وبصر وحماية القوات الإسرائيلية. بل وحسب قول الدكتور غالى: "تواطؤ من الإسرائيليين. بداية، انطلقت صواريخ مضيئة من الجيش الاسرائيلى من اجل تسهيل عملية دخول الميليشيات الى المعسكر. بعد ذلك، بعد الانتهاء من المذبحة، تدخلت البولدوزورات الإسرائيلية لتدمير المنازل الصفيح للمعسكرات. وأخيرا، هذه البولدوزورات قامت بحفر قبور جماعية حيث تم القاء جثث ضحايا المذبحة. وبناء على التقارير التى حصلنا عليها، تم إزالة كل علامة تشير الى وجود بولدوزورات اسرائيلية. وفى التصريحات التى أدلت بها الحكومة الإسرائيلية بعد المذبحة، وجدت انه من الافضل ألا تدين حلفاءها، الميليشيات، واكدت أن المجزرة هى من عمل وحدات لبنانية تم ادخالها الى المعسكرات. ولكن كان ذلك جهدا ضائعا، لان مذبحة معسكرى صابرا وشاتيلا الفلسطينيين سوف تلطخ الى الابد صورة إسرائيل وترفع عنها تأييد المجتمع الدولى".
وفى عام 1983 تعرضت قوات الأمم المتحدة لهجوم عنيف اسفر عن مصرع 59 جنديا فرنسا و241 أمريكيا، مما دفع القوات الدولية الى مغادرة المكان فى العام التالى.
هل كانت لبنان مهيأة طائفيا الى حرب أهلية؟ وهل حسب قول بيريز، "فقدت كل السلطات فيها شرعيتها، أى شخص يمكن أن يدعى الشرعية. لبنان لم يعد دولة متحدة، إنها منطقة تتكون من اقطاعيات صغيرة، كلها دول داخل الدولة، التى من جانبها لم تعد موجودة"؟ وهل تكوين جيش لبنان المسيحى، واعلان "دولة لبنان الحرة" فى الجنوب فى عام 1979، انعكاسا لتقسيم لبنان طائفيا؟ وهل سعت إسرائيل الى هذا التقسيم حتى تستطيع، كما فعل الفرنسيون فى الجزائر، والالمان النازيون فى الاتحاد السوفيتى، " السيطرة عليها، وذلك على غرار ما فعله الفرنسيون خلال فترة انتدابهم لسوريا".
وهل لبنان اليوم مهيأة لنفس الظروف؟ خاصة وأنها تعج بالطائفية رغم انسحاب القوات السورية منها بعد مقتل رفيق الحريرى فى العام الماضى، وبعد فشل محاولة إسرائيل الثانية احتلال جنوبها؟ هل تعمل إسرائيل مرة أخرى على إشعال فتيل الحرب الأهلية للانتقام من جيش حزب الله الذى هزمها فى حربها الأخيرة ومنعها من احتلال الجنوب؟ كل تلك الأسئلة ستظل بلا إجابة مؤكدة، مثل كل التساؤلات السابقة. ولكن من المؤكد أن حربا أهلية هى فى صالح إسرائيل اليوم التى تشهد على تدهور وضعها فى غزة والاراضى الفلسطينية وتفقد تدريجيا تأييد الغرب خاصة فرنسا التى وجهت نوعا من الإنذار اليها بعد تحليق طائراتها فوق مواقع القوات الدولية، وخاصة تلك التى تشارك فيها فرنسا، وكاد الأمر يصل قبل أسابيع قليلة الى مواجهات عسكرية بين الطائرات الإسرائيلية والمواقع الفرنسية الدولية.
التعددية الثقافية سند للحوار
بقدر ما هناك مخاوف من أن تؤدى التعددية الثقافية اللبنانية الى إشعال الحرب الأهلية مرة أخرى فيها، بقدر ما أن نفس تلك التعددية تعطى الأمل فى إمكانية إقامة الحوار بينهم. فان فشل الحوار الثقافى فى لبنان يعنى بلا شك، فشله فى أى مكان أخر.
ففى العام الأول من الألفية الثالثة، عقدت منظمة الفرانكفونية مؤتمرها الدولى للحوار بين الثقافات، ووقع اختيارها على بيروت لتكون هى المدينة المضيفة للمؤتمر. ولم يكن اختيار لبنان لعقد المؤتمر، عشوائيا. لبنان التى تضم 18 طائفة مختلفة، وشهدت على 12 حضارة متعددة. وان كانت الحرب الأهلية إشارة الى احتمال هزيمة الحوار، إلا أن بهجت رزق، الكاتب والمفكر اللبنانى، اكد فى كتابه "الهوية اللبنانية المتعددة الثقافات.. من اجل حوار حقيقى بين الثقافات" أن "التعددية الثقافية باتت ضرورة ملحة" فى عالمنا اليوم الذى تسيطر عليه العولمة والقرية الكونية.
دعا بهجت رزق فى كتابه الشعب اللبنانى الى أن يعمق هويته المتعددة الثقافات حتى يستطيع أن يقدمها مثلا يحتذى به فى العالم، وتصبح لبنان نموذجا يتكرر فى المجتمعات الأخرى. ويقول رزق فى مقدمة كتابه أن لبنان الذى اتفق على إقامة نظام سياسى متعدد الطوائف، يجب أن يدرك أن ذلك يترافق مع إدراك كامل بهوية متعددة الثقافات، لأن نفس المنطق يقود الفكرتين: أن كان الشعب اللبنانى يتفاوض من اجل إيجاد حل وسط سياسى، فيجب أن نؤيد هذا الحل الوسط وتبريره من خلال قبول اختلافه الثقافى. ويقترح رزق استبدال الاستثمار فى الاختلاف الدينى والسياسى بالاستثمار فى الاختلاف الثقافى، حتى تعود لبنان، تلك الدولة الصغيرة، التى تتبنى مصيرها ودورها لتكون مثلا ونموذجا. ويؤكد رزق على أن الثقافة هى التى تؤسس السياسة والاقتصاد، وليس العكس.
أن لبنان الذى يضم 18 طائفة مختلفة لا يستطيع تذويب تلك الطوائف معا، ولا تستطيع أى منها استبعاد الاخريات، لان كل الطوائف هى جزءا لا يتجزأ من تلك البلاد، ومن تاريخها وجغرافيتها. وهى تلك التعددية التى تشكل هوية البلاد، وتحدد ثقافاتها حول ما يوحدها وما يميزها، إنها هوية مركبة حيث إنها توحد فيما يتعلق باللغة والفنون والمطبخ، وفى نفس الوقت تختلف فيما يتعلق بالدين. ولكن بدلا من أن يؤدى الاختلاف الى المجابهة، يمكن أن يؤدى الى التكامل.
واليوم أكثر من أى يوم مضى، تجد لبنان نفسها مرة أخرى أمام الاختبار الصعب، إما أن تترك نفسها لتتحول الى فريسة للانقسامات الداخلية التى تؤججها التدخلات الخارجية. وتتحول الى شبح دولة مثلما يحدث فى العراق حاليا، أو أن تتمسك بهويتها المتعددة والتى تصنع ثراءها الثقافى، وقوتها السياسية، وتواجه المخاطر الخارجية.