رحلة فتاة يهودية عبر خط التقسيم الإثنى: العربى/اليهودى
قال الصحفى البريطانى جوناثان ديمبلبى عن كتاب "الجانب الأخر من إسرائيل": "انه يثير اضطرابا عميقا ويجب أن يقرأه كل شخص يريد أن يفهم حقيقة الحياة بالنسبة للعرب الإسرائيليين". فان الكتاب هو قصه كاتبة بريطانية يهودية، تعيش فى لندن، الى أن قررت فى عام 1999 أن تمارس حق "العودة" الى "الوطن" إسرائيل، وهو الحق الذى تمنحه الدولة الى كل يهودى فى جميع أنحاء العالم. ولكن بعد عدة أشهر من وصولها الى تل أبيب، قررت سوزان ناثان أن تأخذ خطوة جريئة، وتتخذ قرارا غير مسبوق، وهو عبور خط التقسيم الإثنى بين اليهود والعرب الإسرائيليين، والانتقال الى الجانب الأخر من إسرائيل والإقامة فى مدينة تامرا، وهى مدينة صغيرة تضم 25 ألف مواطن اسرائيلى، عربى مسلم. وبسرعة تقول سوزان إنها اكتشفت أن الخط الإثنى، رغم انه خط وهمى، إلا انه قائما وصلبا مثل الجدار الصلب والأسلاك الشائكة التى قامت الدولة الإسرائيلية ببنائها بينها وبين الضفة الغربية وغزة لتفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين.
فى سرد أدبى، قصت سوزان ناثان قصة انتقالها الى تامرا لتدريس اللغة الإنجليزية فى مدارسها، ولتعيش مع عائلة ابى حجاز، مع الأم "الحاجة" وأولادها وأحفادها وأفراد عائلتها الكبيرة الآخرين، وجيرانها ومعارفها؛ وكيف استطاعت سوزان خلال تلك السنوات التى عاشتها فى "الجانب الأخر من إسرائيل" أن تحدد هويتها اليهودية والإسرائيلية، والإنسانية. وتضع أمام القارئ الغربى والاسرائيلى اليهودى الصورة الحقيقية لفكرة مغلوطة، شكلها الخيال اليهودى الإسرائيلى عن مواطنيهم العرب، وعاشوا بهذه الفكرة المغلوطة وبنوا عليها كل سياساتهم الاجتماعية اللاحقة.
تقول سوزان فى البداية كيف كان قراراها بمثابة الصدمة بين أصدقائها وعائلتها اليهودية الإسرائيلية. "لماذا تريدين الإقامة فى تامرا؟"، "ولكنهم مسلمين!!؟؟" كانت تلك هى الجملة التى ترددت كلما ذكرت سوزان إنها سوف تنتقل للإقامة فى تامرا، وحتى سائق السيارة الأجرة، رفض عبور الخط الوهمى، وسائق الشاحنة التى نقلت أثاثها الى منزلها الجديد، سارع بالخروج من المدينة ولم يعد مرة أخرى لجمع الصناديق التى كانت تضم أغراضها، خوفا من "العرب". كانت الكلمات التى تتردد بين أصدقائها عندما أخبرتهم بقرارها، كانت: "ولكنها منطقة عربية؟!" "لماذا تريدين الإقامة هناك؟"، "لأن ذلك هو ما أريده"، "ولكنها منطقة عربية!".. "!! "سوف يقتلونك!! سوف يعتدون عليك!!" ويهمس أحدهم قائلا: "هل معك سلاح؟"، ويهمس أخر: "لدى رقم تليفون احد الأصدقاء فى الجيش الإسرائيلى، إتصلى بى فى أى وقت وسيعمل على إنقاذك من هناك!!" أعتبر أصدقائها من اليساريين قراراها بأنه إما نتيجة لعدم فهمها للوضع فى الشرق الأوسط، أو انه مجرد محاولة من شخص غير ناضج، لجذب الانتباه.
وقصت سوزان كيف كانت رحلتها فى السيارة حتى تامرا. قال لها سائق السيارة الأجرة، شاهير، لقد درست المكان جيدا، وحددت الطرق التى يمكن أن نمر بها بدون أن نضطر الى المرور بالقرى العربية فى الطريق"، وردت عليه سوزان بدهشة: "ولكننا نتجه الى قرية عربية!! لماذا يجب علينا أن نحتاط فى الطريق اليها!؟"
تقول سوزان ناثان عن رحلتها: "أن الطريق الى الجانب الأخر من إسرائيل لا يحمل علامات، انه طريق لا نقرأ عنه كثيرا فى الصحف أو نسمع عنه فى أخبار التليفزيون، انه طريق غير مرئى لمعظم الإسرائيليين." فى هذا الطريق لاحظت سوزان أن العلامات الخضراء كانت واضحة على طول الطريق المؤدى الى المناطق الشمالية المتجهة الى حيفا وعكا وكارميت، المدن الإسرائيلية اليهودية، وحتى القرى اليهودية الصغيرة مثل شلومى وميسجاف. ولكن عندما بدأت السيارة تتجه الى تامرا، اختفت العلامات الى أن بدأت تخرج عن الطريق السريع وتعبر القرى الصغيرة، ورأت مرة أخرى علامة صغيرة تشير الى مدينة تامرا. وعندما اتجهت السيارة الى هذا الاتجاه امتد أمامها طريق نصف ممهد، وفى المدينة "العربية" كان هناك طريقا واحدا ممهدا يؤدى الى المسجد الرئيسى فى وسط المدينة، ومنه الى طريق صغير وضيق يعلو الى تل الى أن وصلت الى مقر إقامتها الجديدة.
مفاهيم يهودية مغلوطة
كان التناقض واضحا بين تصور اليهود الإسرائيليين للعائلات العربية الإسرائيلية، وبين الطريقة التى استقبلوها بها.
استأجرت سوزان شقة فى مبنى عائلة عربية تدعى "ابو حجاز"، وكان يعيش فى نفس المبنى الصغير الجدة التى يطلق عليها الجميع اسم "الحاجة"، وفى يوم وصول سوزان الى منزلها الجديد خرجت العائلة كلها لاستقبالها، بما فيهم "الحاجة" وحفيداتها. وبسرعة، قبلتها عائلتها الجديدة وكأنها أحد أفرادها، وجزءا من العائلة الكبيرة مثل أى زوجة إبن جديدة تدخل العائلة. وبسرعة أطلقت عليها العائلة العربية اسمها الجديد "أم دانيال"، مثلها مثل كل أم عربية ينادى عليها باسم إبنها البكر.
عاشت سوزان مع عائلة "الحاجة" المباشرة، وهى عائلة صغيرة بالمقاييس العربية، ولكنها تتسع بأفرادها الأخرين من أعمام وعمات، وأخوال وخالات وأولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، والذين يأتون جميعا لزيارة الحاجة وتناول معها الطعام والقهوة العربية. وتمتد العائلة لتشمل المجتمع العربى الصغير فى المدينة، حيث تتداخل العائلات ويعرف بعضهم بعضا. تلك العائلة التى كانت تحميها عندما كانت تتنقل فى أنحاء المدينة الصغيرة، ويطمئن إليها السكان عندما يعرفون إنها تعيش بينها.
وفى المقابل اعتبرت سوزان عائلة "ابو حجاز" وكأنها عائلتها المباشرة وربطت بينها وبين الحاجة، علاقة قوية رغم صعوبة التفاهم بينهما، فكانا يتحدثان ببعض الإنجليزية وبعض العربية والعبرية. وكانت أفضل فترات اليوم بالنسبة لها عندما تجلس معها أمام المنزل يحتسيان القهوة العربية التى تصنعها، وتقص عليها قصة حياتها الصعبة التى بدأت منذ زواجها فى السابعة عشر من عمرها ثم ترملها فى العشرين، وكيف قامت بتربية أبنائها وحدها فى ظروف اقتصادية غاية فى الصعوبة. وكانت تشهد سوزان أسلوب حياة تلك العائلة وتدرسها لتفهم طبيعتهم. فكانت تراقبهم فى استقبال الأصدقاء والأقارب فى جميع الأوقات، وفى طهى الطعام العربى من الخضروات والأعشاب الطازجة التى يزرعونها فى الحديقة الصغيرة خلف المنزل، مثل البابونج والنعناع والكوسة والطماطم الخ.. وحرصهم على الابقاء على الطعام ساخنا طوال اليوم حتى يستطيع كل من يزورهم أن يتناول منه ساخنا. وتعلمت من الحاجة أسلوب العلاج القديم بالطبيعة والأعشاب التى توجد فى كل مكان حولهم. وكانت تدهش عندما تقوم الحاجة بحياكة ملابس الصغار وشغل الإبرة بدون مرجع.
مفهوم الخصوصية
أدركت سوزان من اليوم الأول فى تامرا أن عليها أن تتخلى عن مفهومها الغربى للخصوصية. فان كانت الطرق الصغيرة الضيقة والمنازل المتقاربة تشجع على التداخل بين العائلات، إلا أن كل عائلة فى كل منزل تحتفظ بخصوصيتها وتحترم خصوصية الآخرين فى تناسق وتناغم جميل؛ وتحتفظ كل عائلة بمنزلها نظيفا براقا وجميلا رغم بساطته. ولكن سوزان أدركت من اليوم الأول أن عليها أن تتخلى عن جزء مهم من عادتها الغربية. كان عليها أن تتخلى عن فكرة أن تسير فى الطريق العام بدون أن يتعرف عليها أحد. ففى المدن العربية الصغيرة كل شخص يعرف الأخر، ويعرف عنه. وعندما تكون جزءا من العائلة فان ذلك يعنى أن تتقبل حمايتها لك وقلقها عليك، وأيضا تدخلها فى بعض شئونك.
تقول سوزان فى كتابها أن فقدانها لخصوصيتها ليست كلها مسألة ثقافية، فقد اكتشفت أن حياتها فى مجتمع عربى تماثل معيشتها فى حوض سمك شفاف. فان كانت دهشة أصدقائها فى تل أبيب كبيرة، عندما عرفوا إنها اختارت تامرا للإقامة والعمل، كانت دهشة سكان تامرا أكبر عندما رأوا سيدة شقراء يهودية تقيم فى مدينتهم وحدها. فتقول سوزان فى كتابها كيف انه كان يلازمها فى كل لحظة من لحظات النهار والليل الشعور بأنها تحت المجهر، بأنها مراقبة، تتبعها الأنظار فى كل مكان تدرسها وكأنها كائن غريب، لم يكن هناك عداء ولكن فقط دهشة وتساؤل: "ما الذى تفعله سيدة شقراء يهودية وحدها فى مكان مثل هذا؟"
هل تعمل فى الحكومة الإسرائيلية؟ هل تتجسس على المجتمع العربى لحساب الشين بيت؟ كانت بعض النظرات تعكس تلك التساؤلات، ولكن عائلتها العربية الجديدة حذرتها من التحدث بالعبرية فى المدينة حتى لا يتصور السكان إنها جاسوسة. كان السؤال الأساسى الذى يسأله المارة إذا حدث وحاولوا الحديث معها: اين كنت تقيمين قبل مجيئك الى هنا؟ وبسرعة تبدو عليهم الدهشة عندما يعرفون إنها كانت فى تل أبيب، ويتساءلون: لماذا أتيت الى هنا؟ وحتى أن كان الانتقال مرة أخرى الى تل أبيب مسألة سهلة بالنسبة لها، إلا أن عملية الانتقال تظل مسألة عبور حدود، قد لا تكون مرئية، إلا إنها تظل نفسية وحقيقية. فان العربى الإسرائيلى الذى يزور مجتمعا يهوديا يصبح فورا هدفا، كائنا غريبا يمكن اكتشافه من خلال ملابسه وشكله ولغته وثقافته، والعربى الإسرائيلى يدرك من الوهلة الأولى انه يدخل الى مكان هو غير مرحب به، فيه، ويعامل فيه كدخيل. والخطر فى ذهن كل يهودى هو أن "الدخيل" قد يقوم بعمليات عنف أو عداء. ويعرف العرب تماما من خلال الاستفتاءات التى تجرى، أن أغلبية اليهود يريدون طردهم من البلاد.
والعربى فى المناطق اليهودية يتعرض للضرب والإهانة من السكان اليهود ومن الشرطة الذين يتعاملون معه بعنصرية شديدة، ولذلك فان الكثير من العرب الإسرائيليين أعربوا لسوزان عن مخاوفهم من الذهاب الى المناطق اليهودية، ومن كان عليه أن يتوجه الى تل أبيب لشراء مستلزمات عمله مثل خليل المصور، فانه يغادر المدينة فور انتهاء مهمته.
المناخ العام فى تل أبيب وتامرا
تعقد سوزان ناثان مقارنة بين المناخ الاجتماعى العام فى تل أبيب وفى تامرا، فتقول كيف أن مقابل البرودة فى العلاقات فى تل أبيب، فى تامرا يشعر السكان بالفخر فى ترحابهم بالأصدقاء والغرباء على حد سواء. ولكن عندما يقيم المرء فى مجتمع عربى، فان الترحاب به يكون مثل السلاح ذو الحدين.
تشرح سوزان ناثان ذلك بقصة عندما أبلغت احد أفراد العائلة ويدعى حسن، إنها ستذهب الى الصيدلية التى تبعد بضعة كيلومترات من المنزل، وغابت هناك أكثر من ساعة ونصف الساعة، لأن كل شخص تقابله يقف ليتبادل معها أطراف الحديث أو يدعوها الى تناول القهوة، وعندما وصلت الى المنزل سألها حسن بقلق كبير أين كانت، فعندما أجابته، ضحك واقترح عليها أن ترتدى الحجاب فى المرة التالية حتى لا تلفت الأنظار إليها. وأدركت سوزان أن الأمور والمهام تنقضى فى وقت أطول فى مجتمع عربى، عنه فى المجتمعات الغربية، فرغم إنها كانت تجد متعة كبيرة فى ترحيب الجميع بها، إلا إنها كانت تشعر أن ذلك يتسبب فى ضياع وقت طويل، حيث إنها لا تستطيع فى نفس الوقت رفض دعوة من شخص أو الإسراع فى الطريق، لأن ذلك قد يفسر بأنها تتجاهلهم.
وعرفت سوزان قواعد الاستقبال، والمشروبات التى تقدم عندما يكون الضيف مرحب به، والمشروبات التى تقدم عندما يريد صاحب البيت إبلاغه انه حان وقت المغادرة.
مأساة الحدود السياسية
ومن خلال الأحاديث مع المسنين والشباب عرفت سوزان الكثير عن تاريخ المنطقة، وكيف كانت الخليل فى الماضى وقبل إقامة دولة إسرائيل، من المدن المحورية التى كان من السهل الوصول منها الى كل المدن العربية الكبيرة الأخرى مثل بيروت ودمشق وعمان والقدس. ولكن اليوم وبعد أن قسم الإنجليز الدول ووضع الحدود السياسية ونشأت دولة إسرائيل أصبحت القدس هى المدينة الوحيدة التى يمكن الوصول اليها بسهولة، فلم تعد المدن الأخرى تقع داخل الحدود الآمنة بالنسبة لهم. فأصبحت كل من بيروت ودمشق فى دول عدو، بينما باتت عمان تحيط بها قوات عسكرية وتقع تحت حماية مكثفة.
ولكن الحدود تشكل مأساة أخرى للعربى الإسرائيلى أو الفلسطينى. فمنذ حرب 1948 انقسمت العائلات والمجتمعات وأصبح يعيش البعض فى تامرا بينما يعيش العديد من أفراد عائلاتهم والأصدقاء والأحباء فى معسكرات اللاجئين فى لبنان وسوريا منذ أكثر من خمسين عام، بعد أن أجبروا على مغادرة أراضيهم خلال الحرب. وترفض إسرائيل اليوم عودة اللاجئين، كما لا تريد إسرائيل ولا لبنان ولا سوريا أن يعبر المواطنون الحدود من دولة الى أخرى. لذلك فان لقاء العائلات التى تقسمت سواء كانوا إخوة أو أزواج، تظل مسألة مستحيلة.
وتقول سوزان أن تامرا تبدو لها أحيانا وكأنها معسكر لاجئين، مثلها مثل غزة والضفة الغربية، المدن الفلسطينية تحت الاحتلال العسكرى الإسرائيلى، ولكن بدون دبابات أو قوات. وذلك رغم أن تامرا ليست فى حرب مع إسرائيل، بل بالعكس، المواطنون فيها مواطنو دولة ديمقراطية!! وفى حديث مع "الحاجة" فى احدى الأيام، أدركت سوزان أن تصورها كان اقرب مما تصورت للحقيقة. فان معظم مدينة تامرا كان فى حقيقة الأمر معسكرا للاجئين، وكأن هناك سرا غامضا كئيبا وقبيحا لا يريد أحد من أهل المدينة أن يتحدث عنه كثيرا. وتقول سوزان أن الصور التى التقطت فى عام 1948 تظهر، ليس فقط بضعة منازل فى قرية تامرا، ولكن صفوف من المخيمات التى أقامها الصليب الأحمر لإيواء اللاجئين من المعارك.
فى عام 1947، كان تعداد تامرا لا يزيد عن الفين نسمة، ولكن بعد عام ارتفع العدد الى أكثر من ثلاثة ألاف. واليوم نصف سكان تامرا مسجلين على أنهم لاجئين داخليين، رفضت طلباتهم للعودة الى مساكنهم الأصلية. هؤلاء، ونحو ربع مليون عربى اسرائيلى أخر، يعتبرون حسب التعبير الذى تستخدمه الحكومة الإسرائيلية، "حاضرون متغيبون": فهم "حاضرون" داخل إسرائيل فى عام 1948، ولكنهم "متغيبون" عن مساكنهم عندما قامت السلطات بتسجيل ممتلكاتهم فى الدولة اليهودية الجديدة. وتشرح سوزان أن هؤلاء المواطنين فقدوا كل ما كانوا يملكونه فى عام 1948، سواء كانت أرضا أم مسكنا أم حسابا مصرفيا، فقد قامت الدولة الإسرائيلية الجديدة بمصادرته فى عام 1948.
وتؤكد سوزان ما قيل من أن القوات الإسرائيلية دمرت أكثر من 400 قرية فلسطينية خلال وبعد حرب 1948، من اجل منع اللاجئين من العودة الى وطنهم. الى حد انه نشأ فى الحكومة قسما خاصا للتخطيط لتدمير تلك القرى. ولكن تساءلت سوزان: لماذا لم تدمر تامرا، ونحو مئة قرية أخرى؟ والإجابة التى تلقتها كانت: لم تدمر تامرا لسببين: الأول لأنها كانت تقع خلف الطرق الأساسية التى كان يمر منها الجيش الإسرائيلى، لذلك لم يكن يعتبر تدميرها ضرورة عسكرية. والسبب الثانى هو أن تامرا كانت مجتمعا صغيرا، وكان لها تاريخ من التعاون مع السلطات اليهودية التى كانت موجودة قبل إقامة الدولة ومع التجار اليهود المتواجدون فى تلك الفترة. لذلك فقد اعتبرت السلطات الإسرائيلية قرية تامرا مركزا مهما للعمالة الرخيصة فى المنطقة، وبعد فترة قصيرة تحول المزارعون فى تامرا الى العمل فى التعاونيات الزراعية اليهودية التى عرفت باسم كيبوتزيم، أو تحول المزارعون الى أيدى عاملة رخيصة فى مجال البناء لبناء المساكن الرخيصة للاجئين اليهود الذين كانوا يتدفقون الى اسرائيل من أوروبا.
وهكذا لم تدمر تامرا، وبسرعة بدأت تستقبل مئات اللاجئين الفلسطينيين الذين جاءوا هاربين من البطش العسكرى الإسرائيلى فى قراهم مثل دامون وعين هود وبلد الشيخ وهاديثا. فى البداية كان اللاجئون مسئولية الصليب الأحمر، ولكن بسرعة قرر المجتمع الدولى تحويل مسئوليتهم الى الدولة الإسرائيلية. ولكن الدولة الإسرائيلية لم تعمل على تخطيط المدينة لتناسب الاعداد الكبيرة القادمة اليها، بل أعادت تحديد المنطقة لتكون منطقة سكنية ويفقد السكان الاراضى الزراعية فيها. وبعد أن فقد معظم اللاجئين كل ممتلكاتهم بدأوا يعملون من اجل بناء مساكن تأويهم بدلا من المخيمات، وهكذا تحولت القرية الصغيرة الى مدينة ذات كثافة سكانية عالية، فقد زادت عدد السكان بدون أن تسمح لهم إسرائيل بتوسيع رقعة الأرض. وذلك ما يفسر البناء العشوائى لمدينة تامرا ومعظم المدن العربية الآخرى فى إسرائيل.
مدينة لها صفة قرية
وان كانت تامرا تعتبر مدينة بالمعايير الرسمية، فهى، بالمعايير الواقعية، تعمل كقرية صغيرة. فرغم أنها فقدت الاراضى الزراعية بقرارات إدارية من الحكومة، إلا أن المزارعين احتفظوا بحيواناتهم المنزلية مثل الجياد والطيور والمواشى الأخرى التى تقيم فى الحديقة الخلفية لكل منزل. وفى نفس الوقت لا يوجد فى تامرا طريقا تجاريا، به متاجر كبيرة أو مطاعم سريعة مثل ماكدونالد أو غيره. فكل المتاجر الموجودة هى محلية فقط وتختبئ بين المنازل لا يستطيع الزائر العثور عليها بسهولة. أما أن أراد السكان القيام بالتسوق الحقيقى فان عليهم التوجه الى المدن الكبيرة القريبة منهم.
أما بالنسبة للطرق، فهى غير ممهدة ولم يتم التخطيط لها؛ لذلك، فان المجالس المحلية لم تهتم بوضع أسماء للطرق أو أرقام للمنازل. وتقول سوزان، إنها فى البداية تصورت إنها لن تستطيع أبدا التوصل الى فهم الطرق أو معرفة الطريق الذى يؤدى من نقطة الى أخرى، وكانت تسير يوميا على أقدامها بالساعات حتى تستطيع أن تفهم كيف تتحرك بين تلك الطرق الملتوية أو تلك التى توقف العمل فيها فبقت نصف ممهدة، وفى بعض الأحيان تفاجأ سوزان أن الطريق الذى تصورت انه يؤدى الى نقطة معينة، قد تم بناء جدارا فى نهايته لان إحدى العائلات قررت بناء مسكنها فى المساحة الوحيدة التى تبقت لديها.
تقاليد عربية/يهودية
تقول سوزان أن إسرائيل والغرب يقضون معظم الوقت يحذرون اليهود من العرب ويثيرون فيهم الخوف من "الفكر العربى" ومن ثقافاتهم، ويثيرون فيهم الخوف من الثقافة العربية والإسلامية، من خلال التركيز على الاختلافات بينهم وبين الغرب وإسرائيل. وتقول سوزان انه رغم إنها كانت على علم من أن العرب واليهود جاءوا من أصول سامية واحدة، ومن نفس المنطقة، إلا إنها دهشت كثيرا لاكتشاف مدى التقارب بين التقاليد العربية واليهودية، خاصة فى احتفالاتهم بالزواج أو بالجنازات. فبالنسبة للموت، تقول سوزان أن المتوفى فى الدين الإسلامي واليهودى يجب أن يدفن فى نفس اليوم قبل غروب الشمس. ويقام المأتم فى الحالتين لمدة ثلاثة أيام بالنسبة للمسلمين، وسبعة أيام لليهود، حيث يبقى المنزل مفتوحا من الصباح الى المساء، يستقبل المعزين من الرجال والنساء، كل فى مكان منفصل. والسبب فى الحالتين واحد: لكى تستطيع عائلة المتوفى أن تعبر عن حزنها بين أفراد العائلة والأصدقاء، حتى تستطيع بعد ذلك العودة الى أعمالها المعتادة. فى تلك الأيام الثلاثة تقوم العائلات الأخرى بطهى طعام لعائلة المتوفى، ويتناول منه المعزون المتواجدون فى المنزل فى وقت الغذاء. وفى الحالتين تستمر العائلة فى حزنها تعبر عنه عن طريق الامتناع عن الاحتفالات وسماع الموسيقى.
وتتشابه التقاليد أيضا فى احتفالات الزواج. فى تامرا يقيم العرس لمدة ثلاثة أيام على الأقل، يوم للاحتفال بالعروسة، ويوم للاحتفال بالعريس، واليوم الثالث هو العرس نفسه. وفى تلك الأيام يغلق الشارع الذى يجرى فيه العرس، وتصدح الموسيقى العالية وكأنها دعوة مفتوحة لكل أهل البلدة لحضور الاحتفال.
الحجاب يحترم أنوثة المرآة
لقد انتقد الغرب بشدة الحجاب الذى ترتديه المرآة المسلمة، واعتبره تعبيرا عن قمعها. ولكن تقول سوزان أن الغرب فى انتقاده للحجاب لم يتعرض قط لمعنى الحجاب فى حياة الفتاة المسلمة. كان ذلك أيضا من الأمور التى أثارت تساؤلات كثيرة لدى سوزان. وكانت دهشتها كبيرة عندما سألت سعاد التى تبلغ السابعة عشر من عمرها، أى التقاليد الإسلامية التى تعنى الكثير لها؟ فأجابتها انه الحجاب؛ فقد كانت سعاد فتاة متحررة غير محجبة، ولكن بالنسبة لها الحجاب "يجعلها فخورة بأنوثتها"، فتقول: "الحجاب هو عكس القمع، لان المرآة التى تتحجب تشعر بأنها حرة وفخورة لكونها امرأة، فهو يعطى للمرآة كرامتها. وتقول سعاد أن مشكلة الغرب انه يركز فقط على الحجاب فى تقاليد ملابس المرآة المسلمة، لأنه أكثرها وضوحا. ولكن الملابس المحتشمة سواء للمرآة أو للرجل تحافظ على كرامة المسلم، وهى من الأمور المهمة فى حياة المجتمع، والملابس من الوسائل الظاهرة التى يعلن من خلالها المرء انه يستحق الاحترام.
وبعد أن عاشت سوزان بعض الوقت فى تامرا، أصبحت صورة الفتيات فى الغرب، والذين وصفتهم سوزان بقولها: "اشعر بالصدمة كلما توجهت الى أوروبا أو أمريكا، وشاهدت كل تلك الصور العارية للفتيات، فى كل مكان."
نعم، لقد غيرت حياة سوزان فى بلدة عربية تصورها لأشياء كثيرة فى الحياة.
قال الصحفى البريطانى جوناثان ديمبلبى عن كتاب "الجانب الأخر من إسرائيل": "انه يثير اضطرابا عميقا ويجب أن يقرأه كل شخص يريد أن يفهم حقيقة الحياة بالنسبة للعرب الإسرائيليين". فان الكتاب هو قصه كاتبة بريطانية يهودية، تعيش فى لندن، الى أن قررت فى عام 1999 أن تمارس حق "العودة" الى "الوطن" إسرائيل، وهو الحق الذى تمنحه الدولة الى كل يهودى فى جميع أنحاء العالم. ولكن بعد عدة أشهر من وصولها الى تل أبيب، قررت سوزان ناثان أن تأخذ خطوة جريئة، وتتخذ قرارا غير مسبوق، وهو عبور خط التقسيم الإثنى بين اليهود والعرب الإسرائيليين، والانتقال الى الجانب الأخر من إسرائيل والإقامة فى مدينة تامرا، وهى مدينة صغيرة تضم 25 ألف مواطن اسرائيلى، عربى مسلم. وبسرعة تقول سوزان إنها اكتشفت أن الخط الإثنى، رغم انه خط وهمى، إلا انه قائما وصلبا مثل الجدار الصلب والأسلاك الشائكة التى قامت الدولة الإسرائيلية ببنائها بينها وبين الضفة الغربية وغزة لتفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين.
فى سرد أدبى، قصت سوزان ناثان قصة انتقالها الى تامرا لتدريس اللغة الإنجليزية فى مدارسها، ولتعيش مع عائلة ابى حجاز، مع الأم "الحاجة" وأولادها وأحفادها وأفراد عائلتها الكبيرة الآخرين، وجيرانها ومعارفها؛ وكيف استطاعت سوزان خلال تلك السنوات التى عاشتها فى "الجانب الأخر من إسرائيل" أن تحدد هويتها اليهودية والإسرائيلية، والإنسانية. وتضع أمام القارئ الغربى والاسرائيلى اليهودى الصورة الحقيقية لفكرة مغلوطة، شكلها الخيال اليهودى الإسرائيلى عن مواطنيهم العرب، وعاشوا بهذه الفكرة المغلوطة وبنوا عليها كل سياساتهم الاجتماعية اللاحقة.
تقول سوزان فى البداية كيف كان قراراها بمثابة الصدمة بين أصدقائها وعائلتها اليهودية الإسرائيلية. "لماذا تريدين الإقامة فى تامرا؟"، "ولكنهم مسلمين!!؟؟" كانت تلك هى الجملة التى ترددت كلما ذكرت سوزان إنها سوف تنتقل للإقامة فى تامرا، وحتى سائق السيارة الأجرة، رفض عبور الخط الوهمى، وسائق الشاحنة التى نقلت أثاثها الى منزلها الجديد، سارع بالخروج من المدينة ولم يعد مرة أخرى لجمع الصناديق التى كانت تضم أغراضها، خوفا من "العرب". كانت الكلمات التى تتردد بين أصدقائها عندما أخبرتهم بقرارها، كانت: "ولكنها منطقة عربية؟!" "لماذا تريدين الإقامة هناك؟"، "لأن ذلك هو ما أريده"، "ولكنها منطقة عربية!".. "!! "سوف يقتلونك!! سوف يعتدون عليك!!" ويهمس أحدهم قائلا: "هل معك سلاح؟"، ويهمس أخر: "لدى رقم تليفون احد الأصدقاء فى الجيش الإسرائيلى، إتصلى بى فى أى وقت وسيعمل على إنقاذك من هناك!!" أعتبر أصدقائها من اليساريين قراراها بأنه إما نتيجة لعدم فهمها للوضع فى الشرق الأوسط، أو انه مجرد محاولة من شخص غير ناضج، لجذب الانتباه.
وقصت سوزان كيف كانت رحلتها فى السيارة حتى تامرا. قال لها سائق السيارة الأجرة، شاهير، لقد درست المكان جيدا، وحددت الطرق التى يمكن أن نمر بها بدون أن نضطر الى المرور بالقرى العربية فى الطريق"، وردت عليه سوزان بدهشة: "ولكننا نتجه الى قرية عربية!! لماذا يجب علينا أن نحتاط فى الطريق اليها!؟"
تقول سوزان ناثان عن رحلتها: "أن الطريق الى الجانب الأخر من إسرائيل لا يحمل علامات، انه طريق لا نقرأ عنه كثيرا فى الصحف أو نسمع عنه فى أخبار التليفزيون، انه طريق غير مرئى لمعظم الإسرائيليين." فى هذا الطريق لاحظت سوزان أن العلامات الخضراء كانت واضحة على طول الطريق المؤدى الى المناطق الشمالية المتجهة الى حيفا وعكا وكارميت، المدن الإسرائيلية اليهودية، وحتى القرى اليهودية الصغيرة مثل شلومى وميسجاف. ولكن عندما بدأت السيارة تتجه الى تامرا، اختفت العلامات الى أن بدأت تخرج عن الطريق السريع وتعبر القرى الصغيرة، ورأت مرة أخرى علامة صغيرة تشير الى مدينة تامرا. وعندما اتجهت السيارة الى هذا الاتجاه امتد أمامها طريق نصف ممهد، وفى المدينة "العربية" كان هناك طريقا واحدا ممهدا يؤدى الى المسجد الرئيسى فى وسط المدينة، ومنه الى طريق صغير وضيق يعلو الى تل الى أن وصلت الى مقر إقامتها الجديدة.
مفاهيم يهودية مغلوطة
كان التناقض واضحا بين تصور اليهود الإسرائيليين للعائلات العربية الإسرائيلية، وبين الطريقة التى استقبلوها بها.
استأجرت سوزان شقة فى مبنى عائلة عربية تدعى "ابو حجاز"، وكان يعيش فى نفس المبنى الصغير الجدة التى يطلق عليها الجميع اسم "الحاجة"، وفى يوم وصول سوزان الى منزلها الجديد خرجت العائلة كلها لاستقبالها، بما فيهم "الحاجة" وحفيداتها. وبسرعة، قبلتها عائلتها الجديدة وكأنها أحد أفرادها، وجزءا من العائلة الكبيرة مثل أى زوجة إبن جديدة تدخل العائلة. وبسرعة أطلقت عليها العائلة العربية اسمها الجديد "أم دانيال"، مثلها مثل كل أم عربية ينادى عليها باسم إبنها البكر.
عاشت سوزان مع عائلة "الحاجة" المباشرة، وهى عائلة صغيرة بالمقاييس العربية، ولكنها تتسع بأفرادها الأخرين من أعمام وعمات، وأخوال وخالات وأولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، والذين يأتون جميعا لزيارة الحاجة وتناول معها الطعام والقهوة العربية. وتمتد العائلة لتشمل المجتمع العربى الصغير فى المدينة، حيث تتداخل العائلات ويعرف بعضهم بعضا. تلك العائلة التى كانت تحميها عندما كانت تتنقل فى أنحاء المدينة الصغيرة، ويطمئن إليها السكان عندما يعرفون إنها تعيش بينها.
وفى المقابل اعتبرت سوزان عائلة "ابو حجاز" وكأنها عائلتها المباشرة وربطت بينها وبين الحاجة، علاقة قوية رغم صعوبة التفاهم بينهما، فكانا يتحدثان ببعض الإنجليزية وبعض العربية والعبرية. وكانت أفضل فترات اليوم بالنسبة لها عندما تجلس معها أمام المنزل يحتسيان القهوة العربية التى تصنعها، وتقص عليها قصة حياتها الصعبة التى بدأت منذ زواجها فى السابعة عشر من عمرها ثم ترملها فى العشرين، وكيف قامت بتربية أبنائها وحدها فى ظروف اقتصادية غاية فى الصعوبة. وكانت تشهد سوزان أسلوب حياة تلك العائلة وتدرسها لتفهم طبيعتهم. فكانت تراقبهم فى استقبال الأصدقاء والأقارب فى جميع الأوقات، وفى طهى الطعام العربى من الخضروات والأعشاب الطازجة التى يزرعونها فى الحديقة الصغيرة خلف المنزل، مثل البابونج والنعناع والكوسة والطماطم الخ.. وحرصهم على الابقاء على الطعام ساخنا طوال اليوم حتى يستطيع كل من يزورهم أن يتناول منه ساخنا. وتعلمت من الحاجة أسلوب العلاج القديم بالطبيعة والأعشاب التى توجد فى كل مكان حولهم. وكانت تدهش عندما تقوم الحاجة بحياكة ملابس الصغار وشغل الإبرة بدون مرجع.
مفهوم الخصوصية
أدركت سوزان من اليوم الأول فى تامرا أن عليها أن تتخلى عن مفهومها الغربى للخصوصية. فان كانت الطرق الصغيرة الضيقة والمنازل المتقاربة تشجع على التداخل بين العائلات، إلا أن كل عائلة فى كل منزل تحتفظ بخصوصيتها وتحترم خصوصية الآخرين فى تناسق وتناغم جميل؛ وتحتفظ كل عائلة بمنزلها نظيفا براقا وجميلا رغم بساطته. ولكن سوزان أدركت من اليوم الأول أن عليها أن تتخلى عن جزء مهم من عادتها الغربية. كان عليها أن تتخلى عن فكرة أن تسير فى الطريق العام بدون أن يتعرف عليها أحد. ففى المدن العربية الصغيرة كل شخص يعرف الأخر، ويعرف عنه. وعندما تكون جزءا من العائلة فان ذلك يعنى أن تتقبل حمايتها لك وقلقها عليك، وأيضا تدخلها فى بعض شئونك.
تقول سوزان فى كتابها أن فقدانها لخصوصيتها ليست كلها مسألة ثقافية، فقد اكتشفت أن حياتها فى مجتمع عربى تماثل معيشتها فى حوض سمك شفاف. فان كانت دهشة أصدقائها فى تل أبيب كبيرة، عندما عرفوا إنها اختارت تامرا للإقامة والعمل، كانت دهشة سكان تامرا أكبر عندما رأوا سيدة شقراء يهودية تقيم فى مدينتهم وحدها. فتقول سوزان فى كتابها كيف انه كان يلازمها فى كل لحظة من لحظات النهار والليل الشعور بأنها تحت المجهر، بأنها مراقبة، تتبعها الأنظار فى كل مكان تدرسها وكأنها كائن غريب، لم يكن هناك عداء ولكن فقط دهشة وتساؤل: "ما الذى تفعله سيدة شقراء يهودية وحدها فى مكان مثل هذا؟"
هل تعمل فى الحكومة الإسرائيلية؟ هل تتجسس على المجتمع العربى لحساب الشين بيت؟ كانت بعض النظرات تعكس تلك التساؤلات، ولكن عائلتها العربية الجديدة حذرتها من التحدث بالعبرية فى المدينة حتى لا يتصور السكان إنها جاسوسة. كان السؤال الأساسى الذى يسأله المارة إذا حدث وحاولوا الحديث معها: اين كنت تقيمين قبل مجيئك الى هنا؟ وبسرعة تبدو عليهم الدهشة عندما يعرفون إنها كانت فى تل أبيب، ويتساءلون: لماذا أتيت الى هنا؟ وحتى أن كان الانتقال مرة أخرى الى تل أبيب مسألة سهلة بالنسبة لها، إلا أن عملية الانتقال تظل مسألة عبور حدود، قد لا تكون مرئية، إلا إنها تظل نفسية وحقيقية. فان العربى الإسرائيلى الذى يزور مجتمعا يهوديا يصبح فورا هدفا، كائنا غريبا يمكن اكتشافه من خلال ملابسه وشكله ولغته وثقافته، والعربى الإسرائيلى يدرك من الوهلة الأولى انه يدخل الى مكان هو غير مرحب به، فيه، ويعامل فيه كدخيل. والخطر فى ذهن كل يهودى هو أن "الدخيل" قد يقوم بعمليات عنف أو عداء. ويعرف العرب تماما من خلال الاستفتاءات التى تجرى، أن أغلبية اليهود يريدون طردهم من البلاد.
والعربى فى المناطق اليهودية يتعرض للضرب والإهانة من السكان اليهود ومن الشرطة الذين يتعاملون معه بعنصرية شديدة، ولذلك فان الكثير من العرب الإسرائيليين أعربوا لسوزان عن مخاوفهم من الذهاب الى المناطق اليهودية، ومن كان عليه أن يتوجه الى تل أبيب لشراء مستلزمات عمله مثل خليل المصور، فانه يغادر المدينة فور انتهاء مهمته.
المناخ العام فى تل أبيب وتامرا
تعقد سوزان ناثان مقارنة بين المناخ الاجتماعى العام فى تل أبيب وفى تامرا، فتقول كيف أن مقابل البرودة فى العلاقات فى تل أبيب، فى تامرا يشعر السكان بالفخر فى ترحابهم بالأصدقاء والغرباء على حد سواء. ولكن عندما يقيم المرء فى مجتمع عربى، فان الترحاب به يكون مثل السلاح ذو الحدين.
تشرح سوزان ناثان ذلك بقصة عندما أبلغت احد أفراد العائلة ويدعى حسن، إنها ستذهب الى الصيدلية التى تبعد بضعة كيلومترات من المنزل، وغابت هناك أكثر من ساعة ونصف الساعة، لأن كل شخص تقابله يقف ليتبادل معها أطراف الحديث أو يدعوها الى تناول القهوة، وعندما وصلت الى المنزل سألها حسن بقلق كبير أين كانت، فعندما أجابته، ضحك واقترح عليها أن ترتدى الحجاب فى المرة التالية حتى لا تلفت الأنظار إليها. وأدركت سوزان أن الأمور والمهام تنقضى فى وقت أطول فى مجتمع عربى، عنه فى المجتمعات الغربية، فرغم إنها كانت تجد متعة كبيرة فى ترحيب الجميع بها، إلا إنها كانت تشعر أن ذلك يتسبب فى ضياع وقت طويل، حيث إنها لا تستطيع فى نفس الوقت رفض دعوة من شخص أو الإسراع فى الطريق، لأن ذلك قد يفسر بأنها تتجاهلهم.
وعرفت سوزان قواعد الاستقبال، والمشروبات التى تقدم عندما يكون الضيف مرحب به، والمشروبات التى تقدم عندما يريد صاحب البيت إبلاغه انه حان وقت المغادرة.
مأساة الحدود السياسية
ومن خلال الأحاديث مع المسنين والشباب عرفت سوزان الكثير عن تاريخ المنطقة، وكيف كانت الخليل فى الماضى وقبل إقامة دولة إسرائيل، من المدن المحورية التى كان من السهل الوصول منها الى كل المدن العربية الكبيرة الأخرى مثل بيروت ودمشق وعمان والقدس. ولكن اليوم وبعد أن قسم الإنجليز الدول ووضع الحدود السياسية ونشأت دولة إسرائيل أصبحت القدس هى المدينة الوحيدة التى يمكن الوصول اليها بسهولة، فلم تعد المدن الأخرى تقع داخل الحدود الآمنة بالنسبة لهم. فأصبحت كل من بيروت ودمشق فى دول عدو، بينما باتت عمان تحيط بها قوات عسكرية وتقع تحت حماية مكثفة.
ولكن الحدود تشكل مأساة أخرى للعربى الإسرائيلى أو الفلسطينى. فمنذ حرب 1948 انقسمت العائلات والمجتمعات وأصبح يعيش البعض فى تامرا بينما يعيش العديد من أفراد عائلاتهم والأصدقاء والأحباء فى معسكرات اللاجئين فى لبنان وسوريا منذ أكثر من خمسين عام، بعد أن أجبروا على مغادرة أراضيهم خلال الحرب. وترفض إسرائيل اليوم عودة اللاجئين، كما لا تريد إسرائيل ولا لبنان ولا سوريا أن يعبر المواطنون الحدود من دولة الى أخرى. لذلك فان لقاء العائلات التى تقسمت سواء كانوا إخوة أو أزواج، تظل مسألة مستحيلة.
وتقول سوزان أن تامرا تبدو لها أحيانا وكأنها معسكر لاجئين، مثلها مثل غزة والضفة الغربية، المدن الفلسطينية تحت الاحتلال العسكرى الإسرائيلى، ولكن بدون دبابات أو قوات. وذلك رغم أن تامرا ليست فى حرب مع إسرائيل، بل بالعكس، المواطنون فيها مواطنو دولة ديمقراطية!! وفى حديث مع "الحاجة" فى احدى الأيام، أدركت سوزان أن تصورها كان اقرب مما تصورت للحقيقة. فان معظم مدينة تامرا كان فى حقيقة الأمر معسكرا للاجئين، وكأن هناك سرا غامضا كئيبا وقبيحا لا يريد أحد من أهل المدينة أن يتحدث عنه كثيرا. وتقول سوزان أن الصور التى التقطت فى عام 1948 تظهر، ليس فقط بضعة منازل فى قرية تامرا، ولكن صفوف من المخيمات التى أقامها الصليب الأحمر لإيواء اللاجئين من المعارك.
فى عام 1947، كان تعداد تامرا لا يزيد عن الفين نسمة، ولكن بعد عام ارتفع العدد الى أكثر من ثلاثة ألاف. واليوم نصف سكان تامرا مسجلين على أنهم لاجئين داخليين، رفضت طلباتهم للعودة الى مساكنهم الأصلية. هؤلاء، ونحو ربع مليون عربى اسرائيلى أخر، يعتبرون حسب التعبير الذى تستخدمه الحكومة الإسرائيلية، "حاضرون متغيبون": فهم "حاضرون" داخل إسرائيل فى عام 1948، ولكنهم "متغيبون" عن مساكنهم عندما قامت السلطات بتسجيل ممتلكاتهم فى الدولة اليهودية الجديدة. وتشرح سوزان أن هؤلاء المواطنين فقدوا كل ما كانوا يملكونه فى عام 1948، سواء كانت أرضا أم مسكنا أم حسابا مصرفيا، فقد قامت الدولة الإسرائيلية الجديدة بمصادرته فى عام 1948.
وتؤكد سوزان ما قيل من أن القوات الإسرائيلية دمرت أكثر من 400 قرية فلسطينية خلال وبعد حرب 1948، من اجل منع اللاجئين من العودة الى وطنهم. الى حد انه نشأ فى الحكومة قسما خاصا للتخطيط لتدمير تلك القرى. ولكن تساءلت سوزان: لماذا لم تدمر تامرا، ونحو مئة قرية أخرى؟ والإجابة التى تلقتها كانت: لم تدمر تامرا لسببين: الأول لأنها كانت تقع خلف الطرق الأساسية التى كان يمر منها الجيش الإسرائيلى، لذلك لم يكن يعتبر تدميرها ضرورة عسكرية. والسبب الثانى هو أن تامرا كانت مجتمعا صغيرا، وكان لها تاريخ من التعاون مع السلطات اليهودية التى كانت موجودة قبل إقامة الدولة ومع التجار اليهود المتواجدون فى تلك الفترة. لذلك فقد اعتبرت السلطات الإسرائيلية قرية تامرا مركزا مهما للعمالة الرخيصة فى المنطقة، وبعد فترة قصيرة تحول المزارعون فى تامرا الى العمل فى التعاونيات الزراعية اليهودية التى عرفت باسم كيبوتزيم، أو تحول المزارعون الى أيدى عاملة رخيصة فى مجال البناء لبناء المساكن الرخيصة للاجئين اليهود الذين كانوا يتدفقون الى اسرائيل من أوروبا.
وهكذا لم تدمر تامرا، وبسرعة بدأت تستقبل مئات اللاجئين الفلسطينيين الذين جاءوا هاربين من البطش العسكرى الإسرائيلى فى قراهم مثل دامون وعين هود وبلد الشيخ وهاديثا. فى البداية كان اللاجئون مسئولية الصليب الأحمر، ولكن بسرعة قرر المجتمع الدولى تحويل مسئوليتهم الى الدولة الإسرائيلية. ولكن الدولة الإسرائيلية لم تعمل على تخطيط المدينة لتناسب الاعداد الكبيرة القادمة اليها، بل أعادت تحديد المنطقة لتكون منطقة سكنية ويفقد السكان الاراضى الزراعية فيها. وبعد أن فقد معظم اللاجئين كل ممتلكاتهم بدأوا يعملون من اجل بناء مساكن تأويهم بدلا من المخيمات، وهكذا تحولت القرية الصغيرة الى مدينة ذات كثافة سكانية عالية، فقد زادت عدد السكان بدون أن تسمح لهم إسرائيل بتوسيع رقعة الأرض. وذلك ما يفسر البناء العشوائى لمدينة تامرا ومعظم المدن العربية الآخرى فى إسرائيل.
مدينة لها صفة قرية
وان كانت تامرا تعتبر مدينة بالمعايير الرسمية، فهى، بالمعايير الواقعية، تعمل كقرية صغيرة. فرغم أنها فقدت الاراضى الزراعية بقرارات إدارية من الحكومة، إلا أن المزارعين احتفظوا بحيواناتهم المنزلية مثل الجياد والطيور والمواشى الأخرى التى تقيم فى الحديقة الخلفية لكل منزل. وفى نفس الوقت لا يوجد فى تامرا طريقا تجاريا، به متاجر كبيرة أو مطاعم سريعة مثل ماكدونالد أو غيره. فكل المتاجر الموجودة هى محلية فقط وتختبئ بين المنازل لا يستطيع الزائر العثور عليها بسهولة. أما أن أراد السكان القيام بالتسوق الحقيقى فان عليهم التوجه الى المدن الكبيرة القريبة منهم.
أما بالنسبة للطرق، فهى غير ممهدة ولم يتم التخطيط لها؛ لذلك، فان المجالس المحلية لم تهتم بوضع أسماء للطرق أو أرقام للمنازل. وتقول سوزان، إنها فى البداية تصورت إنها لن تستطيع أبدا التوصل الى فهم الطرق أو معرفة الطريق الذى يؤدى من نقطة الى أخرى، وكانت تسير يوميا على أقدامها بالساعات حتى تستطيع أن تفهم كيف تتحرك بين تلك الطرق الملتوية أو تلك التى توقف العمل فيها فبقت نصف ممهدة، وفى بعض الأحيان تفاجأ سوزان أن الطريق الذى تصورت انه يؤدى الى نقطة معينة، قد تم بناء جدارا فى نهايته لان إحدى العائلات قررت بناء مسكنها فى المساحة الوحيدة التى تبقت لديها.
تقاليد عربية/يهودية
تقول سوزان أن إسرائيل والغرب يقضون معظم الوقت يحذرون اليهود من العرب ويثيرون فيهم الخوف من "الفكر العربى" ومن ثقافاتهم، ويثيرون فيهم الخوف من الثقافة العربية والإسلامية، من خلال التركيز على الاختلافات بينهم وبين الغرب وإسرائيل. وتقول سوزان انه رغم إنها كانت على علم من أن العرب واليهود جاءوا من أصول سامية واحدة، ومن نفس المنطقة، إلا إنها دهشت كثيرا لاكتشاف مدى التقارب بين التقاليد العربية واليهودية، خاصة فى احتفالاتهم بالزواج أو بالجنازات. فبالنسبة للموت، تقول سوزان أن المتوفى فى الدين الإسلامي واليهودى يجب أن يدفن فى نفس اليوم قبل غروب الشمس. ويقام المأتم فى الحالتين لمدة ثلاثة أيام بالنسبة للمسلمين، وسبعة أيام لليهود، حيث يبقى المنزل مفتوحا من الصباح الى المساء، يستقبل المعزين من الرجال والنساء، كل فى مكان منفصل. والسبب فى الحالتين واحد: لكى تستطيع عائلة المتوفى أن تعبر عن حزنها بين أفراد العائلة والأصدقاء، حتى تستطيع بعد ذلك العودة الى أعمالها المعتادة. فى تلك الأيام الثلاثة تقوم العائلات الأخرى بطهى طعام لعائلة المتوفى، ويتناول منه المعزون المتواجدون فى المنزل فى وقت الغذاء. وفى الحالتين تستمر العائلة فى حزنها تعبر عنه عن طريق الامتناع عن الاحتفالات وسماع الموسيقى.
وتتشابه التقاليد أيضا فى احتفالات الزواج. فى تامرا يقيم العرس لمدة ثلاثة أيام على الأقل، يوم للاحتفال بالعروسة، ويوم للاحتفال بالعريس، واليوم الثالث هو العرس نفسه. وفى تلك الأيام يغلق الشارع الذى يجرى فيه العرس، وتصدح الموسيقى العالية وكأنها دعوة مفتوحة لكل أهل البلدة لحضور الاحتفال.
الحجاب يحترم أنوثة المرآة
لقد انتقد الغرب بشدة الحجاب الذى ترتديه المرآة المسلمة، واعتبره تعبيرا عن قمعها. ولكن تقول سوزان أن الغرب فى انتقاده للحجاب لم يتعرض قط لمعنى الحجاب فى حياة الفتاة المسلمة. كان ذلك أيضا من الأمور التى أثارت تساؤلات كثيرة لدى سوزان. وكانت دهشتها كبيرة عندما سألت سعاد التى تبلغ السابعة عشر من عمرها، أى التقاليد الإسلامية التى تعنى الكثير لها؟ فأجابتها انه الحجاب؛ فقد كانت سعاد فتاة متحررة غير محجبة، ولكن بالنسبة لها الحجاب "يجعلها فخورة بأنوثتها"، فتقول: "الحجاب هو عكس القمع، لان المرآة التى تتحجب تشعر بأنها حرة وفخورة لكونها امرأة، فهو يعطى للمرآة كرامتها. وتقول سعاد أن مشكلة الغرب انه يركز فقط على الحجاب فى تقاليد ملابس المرآة المسلمة، لأنه أكثرها وضوحا. ولكن الملابس المحتشمة سواء للمرآة أو للرجل تحافظ على كرامة المسلم، وهى من الأمور المهمة فى حياة المجتمع، والملابس من الوسائل الظاهرة التى يعلن من خلالها المرء انه يستحق الاحترام.
وبعد أن عاشت سوزان بعض الوقت فى تامرا، أصبحت صورة الفتيات فى الغرب، والذين وصفتهم سوزان بقولها: "اشعر بالصدمة كلما توجهت الى أوروبا أو أمريكا، وشاهدت كل تلك الصور العارية للفتيات، فى كل مكان."
نعم، لقد غيرت حياة سوزان فى بلدة عربية تصورها لأشياء كثيرة فى الحياة.