التدخل الأمريكى فى العراق افتقد لاخطة استراتيجية مترابطة ومتماسكة
كوريا الشمالية وإيران اكبر دليل على عدم قدرة بوش فى الرؤية الشاملة
إرسال القوات الأمريكية الى العراق جعلتهم رهينة لدى إيران والشيعة
العجرفة والجهل بتاريخ وسياسة المنطقة جعل بوش يفشل فى خطته
بعد الانتخابات التشريعية فى الولايات المتحدة، وفوز الحزب الديمقراطى بأغلبية المقاعد فى مجلسى النواب والشيوخ، ضحى الرئيس جورج بوش بوزير دفاعه دونالد رامسفيلد، لأنه المسئول عما آل إليه الوضع الأمريكى فى العراق، وليس لأنه المسئول عما آل إليه الوضع فى العراق نفسها. وبدأ الحديث فى واشنطن عن أنسب وسيلة للخروج من هذا المأزق.
لقد ظلت الولايات المتحدة تبرر وجودها فى العراق طوال السنوات الخمس الماضية ومنذ الحرب فى 2003 وانهيار الأوضاع فى البلاد، بأن انسحابها سوف يلقى بالبلاد فى آتون الحرب الأهلية، ويقسم العراق. ولكن فى حقيقة الأمر فان العراق تعيش حربا أهلية مدمرة، وتقسمت أراضيها فعليا، وان لم تقسم بعد رسميا، ففى الشمال تشكلت دولة الأكراد المستقلة فعليا، وفى الجنوب قام الشيعة بتأسيس دولتهم الإسلامية، أما السنة فقد تجمعوا وسط العراق، حيث تبلور فراغ سياسى كبير، لا يحكمه أى سلطة سياسية بل قبائل وعشائر وبعثيون سابقون ومجموعات من القاعدة. هذا التقسيم الفعلى يشير الى أن العراق التى كانت، لم تعد قائمة، وإننا نشهد على أرض الواقع "نهاية العراق".
فى كتاب يحمل نفس العنوان "نهاية العراق" للسياسى الأمريكى بيتر جالبريث عضو مركز الحد من التسلح والانتشار، وخبير فى الشئون العراقية منذ الثمانينات عندما كان عضوا فى لجنة العلاقات الدولية فى مجلس الشيوخ، وقام بعدة زيارات الى العراق بعد حرب 2003، يحلل جالبريث أخطاء الإدارة الأمريكية فى العراق التى أدت الى تلك النتائج. ففى الكتاب يوضح جالبريث كيف غزت الولايات المتحدة العراق بفكرة مسبقة هى قدرتها على القضاء على رأس النظام، وبعد نهاية النظام سيستأنف الجميع فورا، العمل من جديد؛ وأوضح كيف أن الغزو كان يهدف أساسا الى بث الخوف لدى الدول "المارقة" كما كان يحب بوش وصفها، مثل إيران وكوريا الشمالية وسوريا، والى إجبارهم جميعا على التخلى عن الأسلحة "ذات الدمار الشامل" التى يتصور أنهم يملكونها، وعن مساندة التطرف.
ولكن جالبريث يؤكد أن غزو العراق، والتى وصفها بـ "تجربة" أمريكا فى العراق، أدت بلا شك الى تقوية إيران وكوريا الشمالية، بدلا من إخافتهما. وفى نفس الوقت يقول أن هؤلاء الذين وضعوا خطط الغزو لم يضعوا خطة مساندة، أى خطة بديلة فى حالة فشل الغزو وانهيار المجتمع فى العراق، أو فى حالة توقف ضخ البترول وتوقف الدخل المتوقع منه، أو فى حالة تقسيم البلاد وتفجر حرب العصابات فى كل مكان، كما هو الحال الآن.
واليوم أصبح الهم الأكبر بالنسبة للإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية، هو: كيف يمكن الخروج من المآزق العراقى؟
تعهدات سابقة وأخطاء جديدة
فى عام 1991 شنت الولايات المتحدة حربها الأولى ضد العراق لإخراجها من الكويت. يقول جالبريث أن الحرب فى هذا العام كانت ملتصقة بالشرعية فى الولايات المتحدة، بعد أن حصل الرئيس بوش الأب على موافقة الكونجرس؛ وعلى الشرعية الدولية، بعد أن حصل على تأييد الأمم المتحدة، ومشاركة 35 دولة من أنحاء العالم منهم فرنسا وبريطانيا ومن الدول العربية مصر والسعودية والإمارات وسوريا. ولم يكن غريبا أن تفوز الأسلحة الحديثة التى لم يشهد احد مثيلها بعد فى ساحات الحروب، على جيش صدام حسين.
ولكن بعد حرب الخليج الأولى، تمرد الشيعة والأكراد ضد صدام حسين، ظنا منهم أن الرئيس الامريكى سوف يساعدهم فى ثورتهم. ولكن ما حدث كان العكس، فقد رفضت الإدارة الأمريكية التدخل لمساندة الشيعة والأكراد، عندما قام صدام حسين وقواته بقمع الثورة بكل قسوة فراح ضحية الثورة أكثر من 300 ألف شيعى.
فما حدث فى ذلك الوقت أن قام الرئيس بوش الاب، فى فبراير عام 1991 بزيارة مصنع صواريخ باتريوت التى كانت السبب فى الانتصار الساحق، ليشكر العمال. وفى المصنع القى بوش خطابه الشهير الذى قال فيه: "هناك طريق أخر لحقن الدماء، وهذا الطريق هو أن يأخذ الجيش والشعب العراقى الأمور فى أيديهم، ويجبرون صدام حسين، الديكتاتور، على ان يتنحى عن منصبه، ثم يلتزموا بقرارات الأمم المتحدة وينضموا الى الدول المحبة للسلام".
حرص البيت الأبيض على نشر كلمة بوش على أوسع نطاق، ليصل الى أكبر عدد من المشاهدين، فعرضتها كل القنوات القومية داخل الولايات المتحدة، وكل القنوات الدولية عبر السى أن أن والبى بى سى فى أنحاء العالم والإعلام العربى، كما أذاعت المحطات الإذاعية الحكومية الأمريكية مثل "صوت أمريكا" والاذاعة السرية التى تبثها وكالة المخابرات الأمريكية داخل العراق، الخطاب الى كل مكان فى المنطقة. وكان ذلك الخطاب هو ما اعطى للشيعة والأكراد الانطباع بأن أمريكا تعطيهم الضوء الأخضر للتمرد على زعيمهم.
ولكن فى مذكراته التى كتبها بالاشتراك مع برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومى الامريكى فى ذلك الحين، قال الرئيس بوش انه لم يكن يقصد هذا المعنى، وانه أضاف بشكل تلقائى هذه الفقرة الى خطابه. وفى نفس الصفحة قال سكوكروفت أن بوش قد يكون أراد بالفعل إسقاط صدام حسين، ولكنه لم يفكر أبدا أن ذلك يمكن أن يحدث خارج المؤسسة العسكرية، ولم يحاول أبدا إثارة الشعب ضد رئيسه. وأضاف سكوكروفت قائلا انه من المبالغة التصور أن "خطابا روتينيا" يلقى فى واشنطن، يصل الى الفئات التى ترفض نظام صدام، ويصبح الخطاب مسئولا عن التمرد التى قام به الشيعة والأكراد فيما بعد.
ولكن يقول جالبريث أن "الخطاب قد يكون روتينيا" ولكن جورج بوش لم يكن "سياسى أمريكى روتينيا" فقد كان رئيس الولايات المتحدة، الدولة التى تقود التحالف الدولى فى الحرب ضد العراق فى ذلك الحين. لهذا السبب فهم الأكراد والشيعة من تلك الخطبة أن الولايات المتحدة سوف تساندهم أن هم قاموا بالثورة ضد صدام حسين. تصور الشيعة والأكراد أن الرئيس الأمريكى كان يعنى ما قاله. ولكن نتائج الخطاب كان مذبحة. المذبحة الاولى قامت بها القوات الأمريكية ضد الجيش العراقى فى أثناء انسحابه من الكويت متوجها الى البصرة. ووصف الصحفيين هذا الطريق السريع الذى انسحب منه الجيش العراقى بأنه "طريق الموت السريع". ووصف احد قادة الطائرات الحربية الامريكى ما حدث بقوله انه قام بعملية "قصف الديوك"؛ فى هذا الوقت ثار غضب الصحف الأمريكية، وقرر الرئيس بوش وقف المعارك الأرضية، وقال جالبريث أنه يبدو أن بوش اختار هذا التوقيت بالذات لأسباب تتعلق بعلاقات عامة شخصية تخص الرئيس نفسه فقط.
والمذبحة الثانية كانت تلك التى قام بها صدام حسين ضد الشيعة والأكراد الذين ظنوا أن القوات الأمريكية سوف تساندهم فى ثورتهم ضد النظام البعثى. ويعتقد الشيعة العراقيون أن بوش الأب شجع الثورة ثم ترك صدام يقمعها، لأن فى رأيهم ان بوش أراد قتل الشيعة.
فى نفس الوقت الذى تفجر فيه التمرد الشيعى، تفجر أيضا تمردا من جانب الأكراد العراقيين، دون أن يحصلوا هم أيضا على مساندة الأمريكيين. ولكن كان مصيرهم مختلفا. ففى ابريل عبر أكثر من 500 ألف كردى الجبال التى تفصل بين العراق وتركيا، وأقاموا معسكراتهم فى المنطقة التركية. ولكن فى ظل الظروف الجوية الباردة ووسط الأمطار المستمرة، بدأ الأكراد يموتون بالمئات، بينما رفض الرئيس التركى أوزال، السماح لهم بالنزوح الى تركيا، وان يتقدمون أبعد من المنطقة التى كانوا فيها. وعندما قامت شبكة التليفزيون الامريكية السى أن أن بتصوير الأكراد وهو يدفنون موتاهم من الأطفال، ثار الرأى العام الامريكى والاوروبى خاصة البريطانى، وظهر التناقض كبيرا بين مأساة الأكراد وقيام الرئيس بوش الاب بقضاء عطلته فى ولاية فلوريدا. فقرر بوش سحب قوات من الجنوب وإرسالهم الى شمال العراق والإعلان عن منطقة آمنة فى الشمال محظورة على الطائرات العراقية العسكرية. وظلت الطائرات الأمريكية والبريطانية تطير فوق تلك المنطقة طوال السنوات التالية وحتى الحرب ضد العراق فى عام 2003.
الغرور والجهل
فى فصل تحت عنوان "الغرور والجهل" كتب جالبريث أن فى 29 يناير عام 2002 القى الرئيس جورج بوش الإبن خطابه الشهير أمام مجلسى الكونجرس والذى طرح فيه استراتيجيته فى عالم ما بعد 11 سبتمبر، وهو الخطاب الذى طرح فيه لأول مرة تعبير "محور الشر" فقال: "أن هدفنا الثانى هو منع النظم التى تدعم الإرهاب من تهديد أمريكا أو أصدقائنا وحلفائنا بأسلحة الدمار الشامل..." كوريا الشمالية وإيران والعراق.."دول مثل تلك وحلفائهم الإرهابيين، يمثلون محور الشر، ويتسلحون من اجل تهديد السلام فى العالم.." وبعد ذلك وجه بوش تحذيره: "على كل الدول أن تعلم أن أمريكا سوف تقوم بكل ما هو ضرورى من اجل ضمان أمنها القومى.. لن انتظر الأحداث، بينما المخاطر تتجمع. ولن أقف متفرجا بينما الخطر يقترب تدريجيا. الولايات المتحدة لن تقبل أن تهددها أكثر النظم العالمية خطرا، بأكثر الأسلحة فتكا."
أول نقاط الجهل بالهندسة وبالتاريخ، هو تعبير "محور الشر". فيقول جالبريث أن هذا التعبير جذب اهتمام الرأى العام، ولكن فى حقيقة الأمر فان كلمة "محور" تمثل خط مستقيم يربط بين نقطتين. وبالتالى فانه لا يمكن أن تكون كل من كوريا الشمالية وإيران والعراق محورا من وجهة النظر الهندسية. كما ان من وجهة النظر التاريخية، المحور يضم دولا حليفة، مثل ألمانيا وايطاليا إبان الحرب العالمية الثانية على سبيل المثال، ولكن فى حالة العراق وإيران، لا يمكن أن تتحالف الدولتان اللتان كانتا من ألد الأعداء فى 2002، ولم يتكون المحور بين بغداد وطهران إلا بسبب جورج بوش وسياساته التى أدت الى فوز حلفاء إيران فى العراق فى انتخابات يناير 2005 التى قيل عنها إنها انتخابات ديمقراطية. أما كوريا الشمالية فهى ليست حليف لأى من الدولتين، إيران أو العراق، رغم إنها باعت صواريخ وتكنولوجيا نووية الى إيران وقتا ما. يقول جالبريث أن تعبير "محور الشر" قد يكون له تأثير جيد على مشاعر الرأى العام، ولكن بلا شك، لم يكن له أى فائدة فى مجال الأمن القومى.
فيما يبدو، حسب قول جالبريث، أن تعبير "محور الشر" تم إضافته خلسة على خطاب الرئيس، من قبل شخص يدعى ديفيد فروم، وهو كندى الجنسية يعمل فى مكتب كتابة خطب البيت الأبيض، بدون الرجوع الى أو الموافقة عليها من قبل وزير الخارجية فى ذلك الوقت كولين باول أو أى شخص أخر مسئول عن السياسة الخارجية الأمريكية.
يقول جالبريث أن استراتيجية الأمن القومى تكون ناجحة عندما تكون الأهداف واضحة، وعندما يتم وضع اولويات وتؤخذ فى الاعتبار المخاطر والوسائل المطلوبة للمضى فى طريق محدد، وعندما يكون هناك تخطيط دقيق لها. ولكن خطاب بوش، والطريقة التى تم كتابته، والإجراءات التى اتخذت بعد ذلك، تؤكد على غياب أى استراتيجية متماسكة يمكن أن تكون الأساس الذى قام عليه الغزو الأمريكى للعراق.
وان كان الرئيس بوش فى خطابه عام 2002 قد حدد هدفا للولايات المتحدة، وهو منع الدول الأكثر خطورة من الحصول على أسلحة الدمار الشامل، فان هذا الهدف كان، حسب قول جالبريث، غير واضح بشكل خطير. فان الأسلحة ذات الدمار الشامل، لا تحمل كلها نفس المخاطر، فالأسلحة البيولوجية والكيماوية، رغم بشاعتها، إلا إنها لا تقارن فى قدرتها على التدمير بالأسلحة النووية. وكان لابد، كما يقول جالبريث، أن يحدد بوش هدف الولايات المتحدة بمنع وصول الأسلحة "النووية" الى الدول التى يمكن أن تستخدمها أو تعطيها الى الإرهابيين.
هذا الغموض فى تحديد الأهداف الاستراتيجية ساهم فى اتخاذ القرار بتوجيه كل الوسائل العسكرية والدبلوماسية الأمريكية الى العراق، والتى كانت، والى حد كبير، اقل الدول الثلاثة التى تكون "محور الشر" خطورة. ففى الوقت الذى القى فيه بوش خطابه، كانت العراق تقع تحت طائلة العقوبات الشاملة التى فرضتها الأمم المتحدة عليها لأكثر من 11 عاما. ورغم أن صدام حسين قد طرد المفتشين الدوليين فى عام 1998، إلا انه كان من الممكن أن تثق الولايات المتحدة ثقة كبيرة فى أن العراق لم يكن لديها برنامجا نووية مهما فى عام 2002. لان فى تلك الفترة لم يكن هناك أية معلومات من المخابرات الأمريكية تفيد بان العراق لا تزال تملك أسلحة كيماوية التى كانت تملكها فى الثمانينات، كما أن المعلومات الخاصة بالأسلحة البيولوجية، ظلت هى أيضا غير واضحة.
ولكن بعكس العراق، كانت كل من إيران وكوريا الشمالية، تملك برامج نووية نشطة. وكان من الممكن أن يكون للتركيز الامريكى على العراق معنى استراتيجى، إن كان سيخيف تلك الدولتين. ولكن فى حقيقة الأمر، فان القلق الذى أبدته واشنطن تجاه العراق، دعم وشجع كوريا الشمالية وإيران، بدلا من إخافتهما.
واشنطن تثير غضب كوريا الشمالية وايران
فى عام 2002 كانت كوريا الشمالية جزءا من اتفاقية منع الانتشار النووى، وكانت تملك مخزونا من البلوتونيوم ولكنه كان يقع تحت إشراف وحماية وكالة الطاقة النووية الدولية. وكانت كوريا الشمالية قد وقعت فى عام 1994 اتفاقية مع كل من الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية وروسيا والصين واليابان، بتجميد كل أنشطتها النووية مقابل حصولها على البترول وبناء مفاعلين للطاقة النووية من المياه الخفيفة، لا يهددان بان تتحولا الى برنامج تسلح. ولكن إدارة بوش قررت فى عام 2002 اتهام كوريا الشمالية بانتهاك اتفاقية عام 1994 وإقامة برنامج سرى لتخصيب اليورانيوم. وهو ما لم يكن ممكنا حسب تحليل جالبريث.
وهكذا، أثارت واشنطن أزمة، بدون أن يكون لديها خطة بديلة. فقد قررت إدارة بوش وقف إمداد كوريا الشمالية بالبترول الذى نصت عليه الاتفاقية، ففى المقابل قامت كوريا الشمالية بالانتقام وانسحبت من اتفاقية منع الانتشار النووى فى 31 ديسمبر عام 2002، لتكون أول دولة تقوم بتلك الخطوة. ومنذ ذلك الحين قامت كوريا الشمالية بانتاج ما بين ست وثمانية أسلحة نووية من البلوتونيوم الذى كان يقع تحت إشراف وحماية الوكالة الدولية. ويؤكد جالبريث أن قيام كوريا الشمالية بالتحول لتكون قوة نووية كبرى هى نتيجة مباشرة للاستراتيجية الأمريكية المركزة على العراق.
كما أن الوضع فى إيران دليلا أكبر على عدم قدرة بوش على التفكير بشكل استراتيجيى. فمن وجهة نظر جالبريث، كان لابد على الخبير الاستراتيجى أن يأخذ فى اعتباره وضع إيران قبل اتخاذ قرار غزو العراق. فقد كان لابد أن يدرك أن إيران قامت بتمويل الأحزاب الشيعية فى العراق، أن لم تكن قد ساهمت فى تكوينهم، كما أن الجزء الجنوبى فى العراق يقيم فيه أغلبية شيعية، وبالتالى فانه من المتوقع أن يكون لإيران تأثيرا كبيرا على عراق ما بعد صدام حسين. حتى ولو كانت إيران تعد فى الخطط الأمريكية هدفا محتملا فى المستقبل، إلا انه كان لابد للخبير الاستراتيجى أن يقلل من معارضة إيران للجهود التى تبذلها أمريكا فى العراق، وعلى الأقل أن تقوى وضعها فى العراق الى أن تصبح على استعداد للتحرك ضد إيران.
أن إيران هى الدولة التى لديها كل الأسباب التى من اجلها تريد طرد صدام حسين خارج السلطة، أكثر كثيرا من الرئيس بوش. فقد كانت إيران هى التى شن صدام حسين ضدها حربا راح ضحيتها أكثر من 500 ألف شخص، والتى استخدم ضدها صدام حسين، حسب رأى جالبريث، الأسلحة الكيماوية، وكانت إيران، وليست الولايات المتحدة، التى يمكن أن تكون الهدف المحتمل لحرب بالأسلحة ذات الدمار الشامل التى قد يعيد صدام حسين انتاجها.
ويرى جالبريث أنه كان من الممكن أن تتعاون إيران مع الولايات المتحدة فى قلب نظام صدام، لان فقط إيران وحلفاءها الشيعة العراقيين الذين يمكن أن يستفيدوا من عراق ديمقراطى. لذلك فقد كان من الممكن أن تساعد إيران الولايات المتحدة فى انتصار سريع وخروج سريع من العراق. وحتى قبل خطاب بوش الذى تحدث فيه عن "محور الشر" كانت إيران تتعاون مع الولايات المتحدة فى حربها ضد افغانستان، وكانت تتبادل معها المعلومات السرية حول القاعدة، وكانت تمنع هروب أعضائها عبر إيران، وتسمح للولايات المتحدة بالقيام بعمليات بحث على أرضها عن الطيارين الذين يقعون فى حرب افغانستان. فقد كان للولايات المتحدة وإيران عدوا مشتركا: هو القاعدة وطاليبان، الذين كانوا يحاربون الشيعة.
بعد خطاب "محور الشر" أوقفت إيران تعاونها مع الولايات المتحدة فى أفغانستان، وأعطتهم كل المبررات للعمل على إفشال الخطة الأمريكية فى العراق. أما بوش فلم يفهم أبدا مدى تأثير إيران فى العراق، أو ربما لم يعتقد أن تأثيرها كان مهما.
فى يناير الماضى، صرح أكبر عالمى، نائب برلمانى ايرانى فى حديث نشرته صحيفة النيويورك تايمز قائلا: "أن أمريكا فى الوقت الحالى فى أضعف حالاتها. وان اتخذت أية تحرك غير حكيم (لمعاقبة إيران لأنها مستمرة فى برنامجها النووى) فمن المؤكد أن الولايات المتحدة ودول أخرى سوف تعانى من الضرر الذى سيقع عليهم". ويفسر جالبريث تصريحات عالمى بأنها تحذير من قدرة إيران فى إشعال ثورة شيعية ضد القوات الأمريكية فى جنوب العراق وفى بغداد.
فى رأى جالبريث أن قرار بوش بإرسال القوات الأمريكية الى العراق جعلتهم رهينة لدى إيران وحلفائها الشيعة. وبالتالى فان الإدارة الأمريكية لا تملك الان خطة عسكرية جيدة لوقف إيران من الحصول على أسلحة نووية.
هذا الفشل الاستراتيجى هو نتيجة لعملية غير منظمة فى اتخاذ القرارات، حيث اهتمت الإدارة الأمريكية بالعقيدة أكثر من اهتمامها بالتحليل، وحيث كان لكاتب الخطب تأثيرا أكثر مما لوزير الخارجية.
فشل الشرق الأوسط الكبير
اوضح بيتر جالبريث أنه من اجل أن يكون للعراق دورا فى استراتيجية جورج بوش فى الشرق الأوسط الديمقراطى الكبير، كان يجب تحقيق ثلاثة شروط: اولا كان يجب أن تنجح عملية إرساء الديمقراطية فى العراق؛ وثانيا أن تؤثر الديمقراطية فى العراق فى إجراء تغييرات ديمقراطية فى دول الشرق الأوسط الأخرى؛ وثالثا، أن على الحكومات الديمقراطية فى الشرق الأوسط أن تتصرف بشكل يتناسب مع المصالح الأمريكية أكثر مما يتناسب مع مصالح النظم المستبدة السابقة.
تصور بوش أن كل تلك الشروط ستتحقق. لذلك لم تحاول إدارته وضع خطط لدعم فرصة تحول ديمقراطى ناجح فى العراق، ولم تدرس ظروف العراق لترى أن كان من الممكن بناء دولة متحدة وديمقراطية يمكن أن تكون مثلا وقدوة للدول الأخرى فى المنطقة. ولم تخطط إدارة بوش لأى احتمالات بالفشل فى العراق. وأصبحت احتمالات التقسيم والحرب الأهلية والتدخل الايرانى فى أجزاء من العراق من الأمور الواردة والتى بكل تأكيد سوف ترفضها الدول الأخرى. فكانت النتيجة أن جاءت الانتخابات التى جرت فى المنطقة منذ حرب العراق عن نتائج لم تكن فى حسبان الإدارة الأمريكية. ففى إيران جاءت الانتخابات فى عام 2005 بشخصية محافظة مثل احمد نجاد بدلا من الاصلاحى محمد خاتمى، وفى فلسطين جاءت الانتخابات البرلمانية بحركة حماس الإسلامية.
ولكن من أسباب فشل خطة بوش فى إقامة الشرق الأوسط الكبير هو جهله بالمنطقة. ففى عام 2002 وبعد خطابه الشهير الذى تحدث فيه عن "محور الشر"، التقى الرئيس بوش مع ثلاثة من الشخصيات العراقية الأمريكية ليتحدث معهم عن الوضع فى العراق. ولكن فى الحديث اكتشف العراقيون الثلاثة أن بوش ليس لديه أية فكرة عن المذاهب الإسلامية: السنة والشيعة، ولا التقسيم الذى حدد تاريخ العراق وسياستها، كما لم يفهم أبدا لماذا تقوم دولة غير عربية مثل إيران، بمساندة العراق ما بعد صدام حسين.
هذا الجهل بالشعب العراقى، جعل بوش يضع قواته فى وسط حرب أهلية مشتعلة بين مذهبين اسلاميين. وحتى اليوم، فى عام 2006، وبينما الحرب الأهلية مستعرة فى العراق، لازال الرئيس الأمريكى وكبار مستشاريه يتحدثون عن الشعب العراقى وكأنه شعب واحد.
ولكن ما الحل؟
لا يجد بيتر جالبريث أى حل جيد للفوضى التى سادت العراق. فقد انقسمت البلاد فى حرب أهلية مدمرة، ولا تستطيع الولايات المتحدة إعادتها الى ما كانت عليه فى الماضى، ولا تستطيع وقف الحرب الأهلية. وان كانت الولايات المتحدة تصورت إنها تستطيع تغيير الشرق الأوسط، فقد حققت ذلك بالفعل، ولكن بشكل أخر!!!