أزمة السويس، أسبابها الأساسية فى بريطانيا وفرنسا.. داخلية
الحملة مظهر مفاجئ للإمبريالية القديمة التى تعود الى السلاح
الضعف الاقتصادى وأزمة النظام دفعتا الحليفين الى مغامرة عسكرية خارجية غير محسوبة
كتاب "عوامل تكوين الحملة البريطانية-الفرنسية ضد مصر عام 1956" هو أول عمل يقدم دراسة وافية ومتعمقة عن الظروف المختلفة التى دفعت كل من فرنسا وبريطانيا للقيام بحملة عسكرية فى السويس عام 1956 ضد مصر بعد قيام الرئيس جمال عبد الناصر باتخاذ قرار تأميم شركة قناة السويس العالمية شركة مساهمة مصرية، وهى الحملة التى وصفها الكتاب بأنها "حملة محتومة". كما أن الدراسة التى نشرها جان- إيف برنار، الباحث فى شئون السياسة الخارجية، هى الاولى من نوعها التى تشير الى دور السياسة الداخلية فى كل من بريطانيا وفرنسا، فى قضية السويس. إذ يحاول الكاتب أن يوضح انه ليس صدفة أن أزمة السويس جاءت فى نفس الوقت الذى شهدت فيه حكومتا كل من بريطانيا وفرنسا أزمات داخلية: أزمة حزب المحافظين فى بريطانيا وأزمة الجمهورية الرابعة فى فرنسا، وهى الأزمات التى كانت السبب المباشر فى قيام الحكومتين باتخاذ قرار التدخل العسكرى فى منطقة السويس.
قام جان-إيف برنار بدراسة وأبحاث وافية فى كل من بريطانيا وفرنسا، عبر الأرشيف الذى أصبح متاحا بعد مرور 30 عام على الأحداث، مما سمح بملء الفراغات فى الصورة العامة، واستكملها بلقاءات مع شخصيات من مختلف المجالات شاركت فى الحملة، أو كانوا فى الحقل السياسى فى ذلك الوقت.
مراحل الدبلوماسية قبل الانفجار
بدت أزمة السويس وكأنها نتيجة لتسلسل الأحداث الدولية فى ذلك الوقت. وكان رفض أمريكا تمويل بناء السد العالى هو العامل المحرك لها. ولكن يرى الكاتب أن الأزمة تقع فى محور عدة ظواهر دولية: تصاعد القومية العربية؛ نهاية الاستعمار الفرنسى والبريطانى؛ الصراع العربى الاسرائيلى؛ الصراع حول أبار البترول فى الشرق الأوسط؛ الحرب الباردة. أما الرهان الذى فسرته علنيا كل من لندن وباريس يقع أساسا فى الأهمية الإستراتيجية للقناة كمجرى مائى للتجارة العالمية، وخاصة لتغذية أوروبا الغربية بالبترول.
ولكن، أن كان لأزمة السويس أسبابا أخرى غير تلك التى طرحتها القوى المعنية علنا، فان الدول الأخرى التى تورطت فيها بشكل غير مباشر، اعتبرتها فرصة لعمل سياسى عام. فأعتبرت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، الأزمة مبررا لتحرك معين، ولقد وجد الأمريكيون أنفسهم مضطرون لان يأخذوا فى اعتبارهم، طوال فترة أزمة السويس، صراعهم مع الاتحاد السوفيتى والمنافسة معهم على دول العالم الثالث، وعلاقاتهم مع حلفاءهم الفرنسيين والبريطانيين.
تم تأميم شركة قناة السويس فى 26 يوليو. ورغم أن كل من فرنسا وبريطانيا اتخذا موقفا واضحا وحاسما من قرار التأمين، إلا أن أزمة السويس لم تتفجر إلا بعد ثلاثة أشهر، وخلال تلك الفترة مرت العمليات الدبلوماسية بعدد من المراحل المختلفة. ولم يقع الصدام المسلح إلا فى شهر نوفمبر.
فى 29 يوليو اجتمع ممثلو الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا لمدة أربعة أيام، فى محاولة من الأمريكيين لتهدئة الأمور، وتقرر فى نهاية اللقاءات الدعوة الى مؤتمر تحضره الدول المعنية والمهتمة بمستقبل القناة. ولكن كل من بريطانيا وفرنسا قررا المضى قدما فى الاستعدادات العسكرية، وفى خطط الغزو المسلح ضد مصر.
فى 23 أغسطس، عقد مؤتمر لندن حيث اجتمعت 22 دولة تستخدم القناة سواء كمجرى مائى أو تجارى، ووافقوا بأغلبية 18 صوتا على الاقتراح الأمريكى، وهو وضع القناة تحت إدارة دولية. وحاول وفد من المؤتمر برئاسة روبرت مينزيس رئيس وزراء استراليا، إقناع الحكومة المصرية بضرورة الإذعان لمطالب الـ 18. ولكن مصر رفضت رفضا باتا التنازل عن سيادتها الوطنية. وخلال الأسابيع الستة التالية بدى وكأن كل من بريطانيا وفرنسا نجحا فى إقناع الولايات المتحدة بتصميمهم على التدخل العسكرى، وبدى وكأنهما حصلا على مساندة دولية. ولكن يقول الكاتب الفرنسى أن نجاحهما لم يكن حقيقيا، بل كان ظاهريا فقط.
بعد رفض مصر الاقتراح المقدم من الوفد الدولى، وبعد انسحاب المسئولين الأوروبيين من القناة، بدأت مرحلة ثانية من أزمة السويس، وخلال أسبوعين تدهور بسرعة وضع بريطانيا وفرنسا. فمن ناحية استبعدت الولايات المتحدة بشكل حاسم، احتمال ممارسة أية ضغوط عسكرية أو حتى اقتصادية على مصر؛ ومن ناحية ثانية، بدت كل من بريطانيا وفرنسا فى عزلة كبيرة خاصة فى المؤتمر الدولى الثانى الذى عقد فى 19 سبتمبر فى لندن، وضم الدول الثمانية عشر التى وافقت على اقتراح واشنطن.
لقد علقت لندن وباريس أمالهما على الحصول على تأييد دولى فى حملتهما، كان من الممكن استغلاله كعامل ضغط ضد الحكومة المصرية، وكان من الممكن تشكيل جهاز دولى لإدارة القناة فى المستقبل. ولكن الولايات المتحدة وأغلبية الدول الأخرى التى تستخدم قناة السويس وجدوا أن هذا التجمع الذى يضمهم، هو وسيلة مؤقتة للتفاوض، وأيضا للتعاون مع القاهرة. لذلك، وبعد هذا الفشل الأول، قررت باريس ولندن اللجوء الى مجلس الأمن بالأمم المتحدة.
وهكذا بدأت المرحلة الأخيرة فى أزمة السويس، قبل الصراع المسلح، الذى شاركت فيه فرنسا وبريطانيا وإسرائيل. تركزت المرحلة الأخيرة فى المحاولات الدبلوماسية مع مصر فى مجلس الأمن، وفى نفس الوقت عقدت كل من فرنسا وبريطانيا وإسرائيل لقاءا بينهم فى مدينة سيفر الفرنسية، حيث تم عقد التحالف بينهم، وعلى أساسه قامت إسرائيل بمهاجمة مصر أولا فى 29 أكتوبر عام 1956، تلاه تحذير من فرنسا وبريطانيا ضد مصر وإسرائيل للانسحاب الى عشرة كيلومترات من ضفتى قناة السويس، فى 30 اكتوبر، وأدى رفض مصر الى تدخل القوتين الاوروبيتين، وقيام القوات الجوية البريطانية بقصف المطارات المصرية.
يقول الكاتب أن فى الفترة التى سبقت الحملة العسكرية، تغيرت الأوضاع الدولية، فقد شهدت كل من فرنسا وبريطانيا تدهور وضعهما فى قلب المجتمع الدولى، بينما تغيرت العلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة، وحتى التفاهم بين فرنسا وبريطانيا أصابه اهتزازا. كما بدا دخول إسرائيل الى التحالف مع بريطانيا وفرنسا غريبا، خاصة وان القوتين الأوربيتين ابقيا طوال الشهرين السابقين، إسرائيل بعيدا عن الإستعدادات التى كانا يقومان بها للحرب. ويقول الكاتب أن خلال تلك الفترة بدا نشاط بريطانيا وفرنسا وكأنه عملية تآمرية، وفى نظره أن ما حدث فى نوفمبر لم يكن حقيقة إلا مظهر مفاجئ للإمبريالية البريطانية والفرنسية البالية، التى عادت الى استخدام السلاح.
القرارات الفرنسية والبريطانية
يرى الكاتب أن كل التفسيرات التى ترددت حول العدوان الثلاثى ضد مصر، والتى تنصب أساسا على السياسة الخارجية، لم تكن كافية. فقد خلص معظم المحللين السياسيين الى أن تلك الحملة وقعت نتيجة لخمسة عوامل أساسية: اولا: الفشل المستمر للسياسة البريطانية فى الشرق الأوسط؛ وثانيا: النتائج الاقتصادية المباشرة لتأميم شركة قناة السويس على الدول المعنية، بعد أن وضعت مصر يدها على شركة أوروبية كبيرة وفرضت سيطرتها على طريق البترول؛ وثالثا: الجانب النفسى للأزمة؛ ورابعا: العلاقة بين مصر والجزائر من وجهة النظر الفرنسية؛ وخامسا: رغبة الحكام الفرنسيين فى منع مصر من القضاء على الدولة الإسرائيلية.
فى نفس الوقت، بدأت بريطانيا، التى كان لازال لها وجود فى الشرق الأوسط، بشعر بقلق متزايد إزاء تصاعد المشاعر القومية فى مصر. لذلك، كان هدفها من الحملة العسكرية هو أساسا القضاء على ناصر وإعادة بناء سياستها العربية التى بدأت تتجه الى حافة الكارثة. وكان قد بدأ يشير بعض الكتاب البريطانيين الى تزايد كراهية بريطانيا وعداءها لعبد الناصر خلال الفترة التى سبقت الأزمة ومع كل حدث وقع فى تلك الفترة، من مفاوضات الاتفاقية عام 1954، الى صفقة الأسلحة من تشيكوسلوفاكيا، وطرد جلوب والإضطرابات التى صاحبت عملية تمويل بناء السد العالى. وفى عام 1956، ومع وضع بريطانيا المهدد فى الشرق الأوسط، أرادت لندن أن تضمن هزيمة عبد الناصر حتى لا يسيطر ويهيمن على المنطقة وعلى ثرواتها من البترول. ولقد شارك معظم السياسيين البريطانيين هذا الرأى خاصة هارولد ماكميلان، وزير المالية فى ذلك الوقت، وسيلوين لويد وزير الخارجية البريطانيين. ولكن كان السياسيون البريطانيون يرون أن لناصر طموحات أكثر كثيرا من الحقيقة، تجسدت فى سياسته العربية ونضاله ضد القوى الأوروبية. كما تزايد قلق بريطانيا من احتمالات تغلغل النفوذ السوفيتى فى الشرق الأوسط.
من وجهة النظر الأكثر ضيقا، يقول الكاتب أن كل من فرنسا وبريطانيا اعتبرا أن تأميم شركة قناة السويس هو المشكلة الحقيقية، فمن وجهة نظرهما اختفت شركة مساهمة يحمل البريطانيون والفرنسيون الغالبية العظمى من أسهمها، ورغم انها قانونيا شركة مصرية وتخضع للقوانين المصرية حسب قرار التنازل لعام 1856، إلا أن المسئولين فى كل من لندن وباريس اعتبروا أن أهمية الشركة تكمن فى كونها شركة عالمية تتبع القوانين الفرنسية، ويقع مقرها فى العاصمة الفرنسية. ويقول مديرها، فرانسوا شارل روو، أنها "مؤسسة ذات صفة دولية تقدم خدمة دولية".
ومن الأمور التى أثارت غضب بريطانيا وفرنسا ان عملية التأميم تمت من جانب واحد، بلا مفاوضات مع الأطراف الأخرى. فقد اتهمت الدولتان الأوروبيتان مصر بالاستيلاء على ملكية أوروبية، ورأوا أنها قامت بعمل سياسى ليس له أى سند شرعى. وأشار الكتاب أن حكومة جى موليه الفرنسية زعمت انه من بين أهدافها رغبتها فى حماية أسهم الشركة، متجاهلة أن مصر قامت بالالتزام بشراء جميع الأسهم. كما تجاهل السياسيون الذين كانوا ينتقدون سياسة عبد الناصر، ويرون انه يعمل لأهداف متطرفة، أن مصر التى تعانى من الفقر، وان عائد القناة، والذى وصل فى عام 1955 الى نحو 8،7 مليار فرنك فرنسى صافى أرباح، يمكن أن يحل مشاكلها الكثيرة.
وفى النهاية اتفق أعضاء "التفاهم الودى" بالإجماع على أن سيطرة مصر على القناة، التى تعتبر الشريان الاساسى للتجارة بين الغرب والشرق، والطريق الأهم للمواصلات بين دول الكومنولث، وطريق مرور ناقلات البترول، يمثل بالنسبة للغرب تهديدا استراتيجيا غير مقبول، لان بالنسبة لسلوين لويد فان: "فكرة أن يكون ناصر هو الذى يسيطر على العلاقات البحرية والإمدادات البترولية خاصة لبريطانيا، مسألة غير محتملة"!!! وأوضح رئيس الوزراء انطونى إيدن فى البرلمان البريطانى موقفه منذ بداية الأزمة، والذى يقوم على مبدأ أن حكومته لن تترك القناة فى يد قوة واحدة. وفى فرنسا، اكد بينو، وزير الخارجية، تأييده لموقف إيدن، مشيرا الى أن السفن الإسرائيلية، على سبيل المثال، ممنوعة من المرور من قناة السويس، كما المح المسئولون فى كل من بريطانيا وفرنسا الى احتمالات تدهور القناة، أن هى انتقلت الى إدارة مصرية.
مبررات فرنسية للحرب
على الجانب الفرنسى، يرى الكاتب أن غالبية المراقبين أكدوا على وجود رابطة قوية بين حملة السويس والمشكلة الجزائرية. فقد كتب جاك فوفيه، الصحفى بصحيفة لوموند الفرنسية والمسئول عن السياسة الخارجية فى الصحيفة، قائلا: "لقد كان جى موليه يعتقد انه سيجد فى القاهرة مفاتيح السلام فى الجزائر". وذلك رغم أن وزير الخارجية الفرنسية فى ذلك الوقت، نفى ربط حملة السويس بالحرب فى الجزائر. ولكن، فى نفس الوقت، ذكر الكاتب الفرنسى، أن الأخوان برومبيرجيه، ميرى وسيرج، نشرا كتابا موثقا، يرى الكاتب أن وزارة الدفاع الفرنسية هى التى شجعتهما على نشره، اتهما فيه ناصر بأنه يشن فى الجزائر حربا ضد فرنسا، وبالتالى فقد اعتبر العمل العسكرى الفرنسى ضد مصر فى عام 1956 بمثابة عملية انتقامية من ناصر.
من جهة أخرى، يرى العديد من المؤرخين، خاصة الفرنسيين منهم، أن أهم الدوافع الفرنسية لخوض حربا ضد مصر فى منطقة القناة، هو رغبة فرنسا فى حماية إسرائيل خاصة من مصر التى، كما يقول المؤرخون، أبدت عداءا ضد إسرائيل وتوجهت الى الاتحاد السوفيتى للتسلح. فقد أشار بينو وزير الخارجية الفرنسية، الى مشكلة إسرائيل بقوله: "أن المسألة الحاسمة، هى مسالة إسرائيل.. التى لن تسمح فرنسا بأن تختفى". ونشر أبيل توما، نائب وزير الخارجية كتابا يعرب عنوانه عن نفس تلك النظرية، فقد نشره بعنوان: "كيف يمكن إنقاذ إسرائيل؟". وذلك رغم أن جان-إيف برنار أكد فى كتابه، أن إسرائيل لم تكن مهددة عسكريا فى فترة حملة السويس، بل إنها كانت قادرة على أن تضمن انتصارها فى سيناء، بسبب المظلة الجوية التى كانت تتمتع بها، والمساعدات العسكرية التى حصلت عليها.
الحرب لإنقاذ حكومات لندن وباريس
يجد جان-إيف برنار أن المبررات الخارجية لحملة السويس، سواء من الجانب البريطانى أو الفرنسى، ليست قوية بشكل يدفع القوتين الكبريتين الى خوض حرب ضد مصر. لذلك، سعى برنار الى التخلص من المبررات الكلاسيكية ومن مجال السياسة الخارجية، وحاول فهم الدوافع الحقيقية التى دفعت بريطانيا وفرنسا الى اتخاذ قرارهما بشأن الحرب، دون أن يقلل من أهمية مخاوف أوروبا من تأميم القناة.
قام الكاتب بإلقاء الضوء على تأثير السياسات الداخلية فى كل من بريطانيا وفرنسا على قرار الحكومتين. وقال برنار كيف أن انطونى ناتنج، وزير الدولة للشئون الخارجية البريطانية، فى ذلك الوقت، ربط بشكل مباشر مصير رئيس الوزراء بضرورة اتخاذ موقفا مضادا لتحرك ناصر فى القناة. وفى نفس الوقت، اكد ديفيد كارلتون، فى السيرة الذاتية التى كتبها عن إيدن، والتى انتقد فيها رئيس الوزراء بشدة، أن " الإجراءات التى اتخذت من اجل إسقاط ناصر، كانت بلا شك، إجراءات مفاجئة لرجل سياسة يتعرض لضغوط داخلية غير محتملة".
وبالنسبة للوضع فى فرنسا، أشار الكاتب الى أن المؤرخين لم يقوموا بدراسة وافية لقرارات الحكومة الفرنسية فى السويس، انطلاقا من السياسة الداخلية والضغوط التى تعرضت لها، وذلك، رغم وجود ظواهر عديدة تشير الى هذا الاتجاه. فقد قال بورجيز- مونورى، وزير الدفاع الفرنسى فى عام 1956، لتبرير التشدد من الجانب الفرنسى فى المفاوضات التى جرت فى نيويورك، أن "التوصل الى اتفاق من شأنه أن يؤدى الى سقوط موليه فورا".
أكد برنار أن السياسة الداخلية فى كل من بريطانيا وفرنسا، كان لها تأثيرا حاسما فى اختيارات وقرارات السياسيين فى الدولتين، وفى تنظيم الحملة البريطانية/الفرنسية فى نوفمبر عام 1956 ضد مصر. فقد تعرضت الحكومتان لضغوط داخلية كبيرة، جعلت من الصعب على السياسيين فى الدولتين أن ينتهجوا سياسة خارجية متآنية، أو أن يتخذوا قرارات بعد تفكير متعمق، يضمن نتائجها المستقبلية.
بريطانيا والمحافظون قبل الحرب
فى بريطانيا، تعود جذور الحرب الى عام 1955، عندما فاز إيدن فى الانتخابات العامة البريطانية بأغلبية 49،7% من الأصوات، وحصل فى البرلمان على أغلبية من المحافظين جعلت موقفه قويا. ولكن بسرعة تكشفت المشاكل الاقتصادية الخطيرة التى كان على الحكومة الجديدة مواجهتها. فقد أدت سياسة وزير المالية التوسعية، الى تشجيع الاستثمار والاستهلاك، مما أدى الى رفع الأسعار وتفشى التضخم. ولقد دفع الوضع الاقتصادي المتدهور، الحكومة الى زيادة الضرائب على الأدوات المنزلية فأطلق على الميزانية الإضافية لقب "ميزانية الحلل والطواجن". ولقد أدت تلك السياسة الى انقسام داخل الحزب نفسه فى مؤتمر الحزب الذى أقيم فى خريف عام 1955. ودعا الأعضاء الى العودة الى الاقتصاد الكلاسيكى التقليدى، وخفض الإنفاق العام. كما قاموا بإدانة التوجهات الأساسية الخاصة باستعداء "الطبقة المتوسطة" والتى تعتبر عمادا أساسيا فى الانتخابات.
وفى يناير عام 1956 تحول الانقسام الداخلى الى إدانة حقيقية للسياسة الاقتصادية والاجتماعية التى انتهجها أنطونى إيدن، وحذرت صحيفة تايمز الحكومة من خطر الانفصال عن ارض الواقع. وفى نفس الوقت، هاجمت صحيفة الديلى تليجراف الحكومة ورئيس الوزراء بشكل عنيف، وكتبت تقول أن "خلال سبعة اشهر فقدت الحكومة مكانتها وإصرارها، ومن اجل استعادة ثقتها بنفسها مرة أخرى وثقة الناخبين فيها، على الزعماء أن يعودوا الى أهداف حزب المحافظين الاولى فى عام 1951، ووضع نهاية للأزمة الاقتصادية التى ورثوها من حزب العمال، وإنهاء بسرعة سيطرة الاشتراكيين على الاقتصاد". ودعت صحيفة الديلى تليجراف الحكومة الى تطبيق سياسة محافظة فعالة فى الشئون الداخلية، خاصة فى مجالات التضخم والضرائب والرواتب، كما فى الشئون الخارجية فى الشرق الأوسط. وهكذا كانت الصحيفة هى أول من ربط بين المشاكل الداخلية والسياسة الخارجية.
فرنسا والاشتراكيون قبل الحرب
أما فى فرنسا، ففى خريف عام 1955، بدأ التحالف بين اليمين ووسط اليمين الذى كان يشكل الأغلبية ويساند ادجار فور، يتفكك بسبب المشكلة المغربية. وفى نفس الوقت تدهورت الأوضاع فى الجزائر، وأصبح من الضرورى إجراء انتخابات تشريعية مبكرة على أمل أن يحصل تحالف ادجار فور على أغلبية جديدة. وفى نفس الوقت تزايد الغضب الشعبى ضد الشلل الحكومى.
تمت الانتخابات فى بداية عام 1956 ولكن لم يحصل أى من الأحزاب على الأغلبية، وهزمت حكومة ادجار فور، وبدت "الجبهة الجمهورية" فى موقف أفضل. ومن جهة أخرى، تطور الوضع فى الجزائر مما أدى الى انقسام التحالف وهاجمت المجموعة السلمية الموالية لمنديس فرانس، سياسة الحكومة. هذا الانقسام بين مؤيدى ومعارضى منديس فرانس أدى الى اضعاف الحزب، وبالتالى الى اختيار جى موليه لتشكيل الحكومة الجديدة فى بداية عام 1956. وهكذا قام جى موليه بتشكيل الحكومة الجديدة بدلا من منديس فرانس.
وهكذا، فى الوقت الذى بدأت تتطور فيه أزمة السويس، لم يكن فى فرنسا حكومة قوية، أو جبهة جمهورية فعالة تستطيع اتخاذ قرارات حاسمة. فقد كانت الحكومة الموجودة تقع تحت ضغوط عنيفة داخلية، بعد ان تدهورت الأوضاع فى الجزائر، وبدا موقف جى موليه ضعيفا أمام اليمين الذى يرى أن "الجزائر يجب أن تظل فرنسية". لقد أدت أزمة الجزائر الى إضعاف اليسار، وانقسام الحزب الاشتراكى من الداخل، حيث تزايدت مشاعر عدم الرضا.
فى يولية عام 1956 ناقشت الجمعية الوطنية الفرنسية الميزانية الجديدة خاصة ميزانية وزارة الدفاع حيث تم طرح مسالة الحرب فى الجزائر وتمويلها خلال العام الجارى. فدعت الحكومة الى فرض ضرائب اضافية حتى يمكنها الحصول على مئة مليار من الفرنكات من اجل العملية السلمية. لهذا الهدف اقترح بول رامادييه وزير المالية فرض ضرائب جديدة، خاصة على الدخان كما طرح اقتراحا بفرض ضرائب على الدخل العام. ولكن تلك الضرائب أعطت اليمين الفرصة الذهبية لسحب الثقة من الحكومة التى يرأسها الاشتراكيون. ووجدت الحكومة الفرنسية وبالأخص الجمهورية الرابعة، نفسها فى مأزق عليها الخروج منه بسرعة.
وهكذا اجتمعت لدى كل من بريطانيا وفرنسا الأسباب الداخلية التى دفعت حكومة الدولتين الى البحث عن مغامرة خارجية للخروج من المأزق. كما اجتمعت لدى الدولتين المبررات الخارجية التى دفعتهما الى اتخاذ موقفا واحدا ضد مصر وضد قرار عبد الناصر بتأميم القناة. ولكن مع تطور الأوضاع الخاصة بالحملة ضد مصر، تغيرت الأهداف تدريجيا، ومع الوقت لم يعد الهدف هو إسقاط عبد الناصر، ولكن أن يؤدى التدخل العسكرى الى إحداث اقل الأضرار المدنية والمادية الممكنة، والحصول منها على ضمان بالاستمرارية فى الحكم أطول وقت ممكن.
3 Dec 2006
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment