12 Aug 2008

لمصر تاريخ واحد

التاريخ هو ذاكرة الشعوب. أن ضاع ضاعت الذاكرة، فلا يستطيع الشعب أن يعرف من أين جاء؟ ولا أين كان؟ ويصبح ألعوبة فى أيدى الآخرين، يوهمونه انه كان ما لم يكن؛ تماما مثلما يفقد شخص ما ذاكرته فلا يستطيع أن يحدد أن كان يوما شخصا كريما أم كان مجرما، أن كان سيدا أم عبدا.
والحفاظ على التاريخ يبدأ بالمحافظة على التواريخ القومية التى تحتفل بها الدولة. فدولة مثل فرنسا تحتفل كل عام بعيدها القومى، عيد الثورة الفرنسية، فى 14 يولية. لم يحدث أبدا أن احتفلت فرنسا شعبا أو حكومة بعيد 14 يولية فى 7 أو 15 يولية. انه العيد التى تلتف فيه كل طبقات الشعب فى كل مدنه وقراه، يعزفون الموسيقى ويرقصون، ويغنون بعد أن تابعوا صباحا العرض العسكرى السنوى. وفى نفس اليوم، تقيم كل السفارات الفرنسية فى جميع أنحاء العالم حفلاتها لاستقبال زائريها، فلا تحيد سفارة فى أى مكان، عن التاريخ، 14 يولية، الذى حفر فى ذاكرة الجميع، وأصبح رمزا لنهاية عصر، سواء كان المرء يؤيد الثورة أم يعارضها.
كذلك تحتفل الولايات المتحدة بعيدها القومى يوم 4 يولية، ليس أول يولية ولا 10 من الشهر، بل فى 4 يولية الذى تحدد ليكون هو العيد الذى يتجمع فيه مواطنو كل الولايات العشرين، رغم استقلاليتهم النسبية، ليتحدوا معا فى هذا اليوم ويشعرون بانتمائهم الى وطن واحد.
ولكن فى مصر، ضاع تاريخ 23 يولية وسط اللامبالاة، ولم يعد أحد يذكره ولا يحتفل به فى نفس اليوم. فنرى كل سفارة مصرية فى الخارج تحتفل به فى يوم مختلف، وكل سفارة تقيمه كل عام فى يوم مختلف، الى حد أن المدعوين لم يعدوا يعرفون تماما ما هو الهدف من الدعوة. أما فى مصر فيمر العيد القومى المصرى بدون أى مظهر من مظاهر الاحتفال؛ وكأنه يوم عادى، فهو بالنسبة للبعض ثورة، وبالنسبة للبعض الأخر "حركة" وبالنسبة للبعض الثالث "انقلاب". وكأننا نحاول طمس تاريخنا.
أن اخطر شئ أن يكون لشعب واحد أكثر من تاريخ، وأكثر من مفهوم للتاريخ. بل والأخطر أن يصبح للجيل الواحد أكثر من نظرة لتاريخه، وهو ما يحدث اليوم مع أبنائنا الذين انقسموا ما بين من يدرس تاريخه من وجهة النظر الأمريكية، ومنهم من يتعلمه من وجهة النظر الفرنسية أو الألمانية أو الكندية، بعدد الشهادات التى انتشرت فى مدارسنا. وحتى فى مدارسنا ومنهجنا القومى هناك محاولة لتقديم نصف الحقيقة. وبذلك سيصبح لدينا جيلا من الأبناء منقسما ما بين من يرى الناصر صلاح الدين، محررا للقدس ومنهم من يراه إرهابيا، حسب المنهج الذى يدرسه؛ ومنهم من يرى أن مصر انتصرت فى عام 1973 ولكن بدون أن يعرف من كان العدو الذى تحاربه، ومنهم من يرى إنها انهزمت؛ ومنهم من يرى أن الولايات المتحدة هى أهم دولة تحافظ على البيئة ويفخر بها، دون أن يعلم إنها الدولة الوحيدة التى لم توقع على وثيقة كيوتو للحفاظ على البيئة.
سيجد كل شخص المبرر الوجيه لتعليم أولاده فى مدارس وشهادات أجنبية، وأول تلك المبررات هو سوء التعليم وتدهور المناهج المصرية، ولكن مهما كان السبب، فليس من حقنا ان نتعامل مع تلك المسألة ببساطة وبلا مبالاة؛
ان علينا دينا للأجيال القادمة يحتم علينا أن نعلمهم تاريخهم الحقيقي من وجهة نظرنا نحن، حتى لا يوهمهم أحد بأنهم كانوا عبيدا أو خدما، وحتى لا يتفتت الشعب الواحد الى مئات القطع ويضيع منهم وطنهم، ويصبح بعد ذلك سهلا تقسيم الوطن جغرافيا، بعد أن انقسم على نفسه اجتماعيا.