10 Nov 2008

اختيارات اوباما

سعد الجميع بانتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة؛ سواء كانوا من الأمريكيين أو الأجانب، من اليسار أو اليمين، من العالم الأول أو العالم الثالث، من الأغنياء أو الفقراء، من الصهاينة أو العرب. الجميع شعر بسعادة كبيرة لخروج جورج بوش من البيت الأبيض، والجميع شعر بالأمل فى الإدارة الجديدة التى سيرأسها رجل امريكى اسود من أصول كينية وإسلامية، تربى فى عائلة بيضاء مسيحية؛ لأن كل فئة أو دولة أو مجموعة ترى فى اوباما التغيير للأفضل، ايا كان هذا الأفضل.
هذا الموقف يعيد الى الأذهان تلك اللحظة التاريخية التى أختير فيها الجنرال شارل ديجول ليتولى السلطة فى فرنسا الجمهورية الرابعة قبل أن يغير دستورها ويشكل الجمهورية الخامسة؛ فى تلك الفترة سعد الجميع بعودة ديجول الى السلطة، سواء من المدنيين أو العسكريين، من أنصار الجزائر فرنسية، أو من دعاة الاستقلال؛ هل كان هناك تناقضا فى الرؤية؟ أم سوء تقدير أو سوء فهم؟
ليس هناك سوء فهم على أى جانب. فمثلما حدث مع ديجول، يتوقع كل جانب أن ينتهج الرئيس الجديد السياسة التى يتوق إليها وتؤيده، لأن كل جانب يرى فى الرئيس الجديد نهاية عصر بث الكثير من الآلام، وبداية أخر يتمنى أن يكون أفضل. فيرى المجتمع الأسود الامريكى أن انتخاب شخص منهم يعنى أن كل شئ أصبح ممكنا، ويرى البيض أن انتخاب اوباما سيغير صورة أمريكا فى العالم بعد ان تشوهت بسبب سياسة بوش؛ ويرى اللوبى الإسرائيلى أن اختيار اوباما لرام إسرائيل امانويل رسالة الى الشرق الأوسط أن الرئيس الجديد سيسير على خطى السابقين من اجل إنهاء العملية التى بدأها شارون فى ترحيل الفلسطينيين واعلان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. بينما يرى العرب أن اوباما الذى يحمل دماء إسلامية افريقية، قد يكون أكثر تفهما لمأساة الشعب الفلسطينى التى تتفاقم كل يوم أكثر من اليوم السابق؛ تأمل أوروبا فى دور امريكى جديد تتعامل من خلاله كشريك، وليس كدولة عظمى، بينما تأمل الصين فى علاقات متغيرة مع الإدارة الجديدة.
ولكن اين اوباما من كل ذلك؟ فى أى جانب يقف؟ مثل ديجول فى عام 1958، قد يكون اوباما نفسه لا يعرف أى الطرق ينتهج، وأى الاتجاهات يختار؟ فان كانت خطبه تشير الى تمتع الرئيس الامريكى بالهدوء والثقة والتوازن الفكرى، فان اختياراته لمساعديه فى البيت الأبيض حتى الآن، تشير الى توجه أخر أكثر الى اليمين عنه الى اليسار الذى جاء منه. أن على اوباما أن يفكر كثيرا خلال الأسابيع المقبلة وقبل حلفه اليمين ليكون رسميا أول رئيس اسود فى البيت الأبيض، أن يفكر بشكل خاص فى كل هؤلاء الذين اختاروه ووضعوا أملهم فيه. لأن نجاحه كرئيس يعتمد أساسا على انتهاجه سياسته هو التى يضعها من وحى فكره وشخصيته وتوجهاته، بهدف تحقيق حلم البسطاء مثله، وليس على انتهاجه سياسة تفرضها عليه القوى الأخرى والمؤسسات الكبرى التى تعمل لصالح نفسها، وتتعهد له بفترة رئاسية ثانية.

6 Nov 2008

عصر جديد فى امريكا


لا تتوان الولايات المتحدة فى إدهاش العالم. وفى 4 نوفمبر صنعت مرة أخرى التاريخ عندما أعطت الفوز بالرئاسة لأول امريكى من أصول افريقية، ليصل عصر من العنصرية الى نهاية الطريق، ويحقق باراك اوباما "الحلم" الذى كان يحلم به مارتن لوثر كينج وجيل كامل من السود فى الستينات.
والتساؤلات تطرح بشدة: لماذا فاز اوباما الأسود؟ ما الذى يستطيع أن يغيره من سياسات أمريكا فى الخارج؟ هل الرسالة ستبقى والذى يتغير هو حامل الرسالة؟ إن فوز اوباما يعنى أن الناخب الامريكى رفض كل ما يمثله جون ماكين، وهو أساسا شيئين مهمين: فقد رفض الناخب الامريكى الفكر الجمهورى الذى يمثله ماكين والذى بالضرورة سيكون امتدادا لسياسات جورج بوش، الذى اعتبر فى كل الاستطلاعات أسوأ رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة. وهو الفكر الذى يمتد من الهيمنة الإمبريالية فى العالم الى اقتصاد السوق الحر بالكامل؛ والذى يمتد من العنجهية وعقاب كل من يعارض سواء كانت دولة صغيرة أو كبيرة، الى خلق مناخا من الخوف فى الداخل وفى الخارج للحصول على تفويض لتطبيق سياسات غير شعبية؛ والذى يمتد من ممارسة الأكاذيب الدائمة والمستمرة على كل المستويات لإقناع الرأى العام بشرعية سياساته، الى إعطاء العالم صورة كريهة للولايات المتحدة فى أنحاء العالم.
كما رفض الناخب الامريكى بأغلبيته الساحقة ما يمثله جون ماكين من توجه عسكرى، رافضا بذلك سياسة الحرب التى انتهجها بوش على جميع الجبهات، بعد أن شن حربه الشهيرة ضد الإرهاب. فلم يتوان جون ماكين على امتداد حملته الانتخابية فى التركيز على تاريخه العسكرى فى فيتنام وعلى فترة أسره فى سجونها وعذابه وتعذيبه، فى محاولة لان يستمد شرعيته من العسكرية. ولكن فى 4 نوفمبر كانت رسالة الناخب الامريكى رفض تلك الشرعية التى ورطت جنوده وأبناءه فى حروب غير كريمة فى أفغانستان وفى العراق بكل ما تكشف عن خبايا تلك الحروب من ممارسات دونية شوهت صورة الشرف العسكرى، سواء من جنودها المرتزقة أو قواتها النظامية.
لذلك كان توجه الناخب الامريكى الى المرشح الديمقراطى الذى قرر أن يكون ما يمثله هو العكس تماما عما يمثله غريمه الجمهورى. فان اوباما هو امتداد لتاريخ من الصراع العرقى للحصول على الحقوق المدنية وانتزاع الاحترام لأمريكيين من أصول افريقية، وان كان اوباما من أب أفريقى فهو يتمتع بميزة كبيرة، وهو انه ليس من سلالة عبيد، فان والده كان كينيا حرا جاء الى الولايات المتحدة ليدرس، وتلك نقطة مهمة فى اختياره؛ ولكن اوباما ليس الماضى، بل هو يمثل أيضا المستقبل، سواء من خلال الجيل الذى ينتمى إليه حسب عمره، 47 عاما، أو مستقبل بلاد قال عنها اوباما: "إنها ليست ولايات بيضاء أو ولايات سوداء أو ولايات زرقاء، بل هى الولايات المتحدة" التى تضم كل أنواع الجنسيات والأعراق والمذاهب، والتى صنعت من قبل وتصنع دائما ما تتميز به.
هل ستتغير أمريكا فى ظل رئاسة اوباما؟ فى الداخل ستتغير أمريكا بكل تأكيد، فان السياسة الاجتماعية والاقتصادية والمالية التى سينتهجها باراك اوباما الديمقراطى هى مختلفة عن سياسة الجمهورى؛ فإن كان الأخير يهتم بالطبقات الرأسمالية على أساس أن الخير الذى يعم فى القمة سوف ينتقل بالضرورة الى أسفل، فإن الديمقراطيين يعملون مباشرة مع الطبقات الأقل حظا فى تطبيق سياسات الضرائب أو التأمين الاجتماعى، كما أن تدخل الإدارة الفيدرالية سيأخذ حيزا اكبر مما كان عليه الوضع فى عصر رئاسة الجمهوريين، خاصة بعد أن اعترف آلان جرينسبان، وزير الخزانة الأمريكي السابق والرجل الذى تبنى سياسة السوق الحر بكل حذافيرها، بفشل تلك السياسة.
أما خارجيا، فهناك الكثير من علامات الاستفهام. خاصة فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين وفى سياساتها تجاه القوى الواعدة الأخرى مثل الصين وروسيا والهند، أو فى الشرق الأوسط، أكثر المناطق التهابا. أن السياسات الكبرى بالنسبة للدول، لا يمكن أن تتغير بسرعة مع تغيير القاطن فى مبنى الرئاسة، لأنها تحكمها بالضرورة التزامات دولية كبرى من الصعب تغييرها ما بين ليلة وضحاها. وذلك ينطبق أيضا على البيت الأبيض. ولكن أن كان هناك مؤسسة تضع السياسات الأمريكية وعلى الرئيس تطبيقها، فان من المتوقع أن يضع باراك اوباما بصمته وأسلوبه على تلك السياسة، من خلال اختياره لمستشاريه ومن خلال شخصيته الايجابية.
لذلك فمن المتوقع أن تبقى السياسات التى وضعها بوش من قبل، وبالذات الحرب ضد الإرهاب وملاحقة القاعدة، ولو الى حين؛ ولكن أمريكا ستحاول فى الفترة المقبلة أن تحسن من صورتها التى تشوهت تماما فى عصر بوش. لذلك فان اوباما سيغير الأسلوب الذى تتعامل به أمريكا مع الخارج، ويصبح الحوار والنقاش هو السمة الأساسية فمع حلفاءه الأوروبيين. من المتوقع أن يكون هناك حوارا أكبر ونقاشا بين الآراء مع الحق فى الاختلاف بدون الخوف من العقاب.
أما بالنسبة للشرق الأوسط والعلاقات مع إسرائيل، فان عوامل كثيرة تحكمها، وتربطها علاقات عضوية خارجية وداخلية، تزيد تعقيداتها. فلن ننسى أن أول خطاب ألقاها اوباما بعد إعلانه رسميا ترشيحه للرئاسة كان فى اكبر مركز للوبى الإسرائيلى فى الولايات المتحدة، الايباك، حيث أعلن انه سيعمل من اجل أن تكون القدس العاصمة الموحدة لإسرائيل. هل كان ذلك محاولة لجذب الاهتمام والمساندة اليهودية؟ هل هى ذلة لسان؟ أم إنها سياسة حقيقية؟ ذلك ما يجب أن تعمل الدول والحكومات العربية والفلسطينية على اكتشافه.
أن على باراك اوباما مهمة صعبة لتغيير ثمانى سنوات من السياسة الخطأ، وحملا ثقيلا لأجيال وأجيال من الصراع العرقى، ومسئولية وضعت على عاتقه يجب أن ينجح فيها وإلا سيقال انه فشل لأنه أسود وليس لأى سبب أخر.

الهدية المسمومة

قدم صندوق النقد الدولى عرضا سخيا الى دول العالم الثالث، فتعهد رئيسه دومينيك ستراوس- كان، باستخدام كل موارد المؤسسة المالية الدولية لمساعدة الدول النامية على تقوية اقتصادياتها وتعزيز أنظمتها المالية وحماية المتضررين من تداعيات الأزمة المالية العالمية. ولكن يأتى العرض بعد أيام قليلة من تحذيرات رئيس البنك الدولى ريتشارد زوليك، من أن العالم الثالث والدول النامية هى أكثر المتضررين من الأزمة المالية وكأن الأخير قد مهد الطريق عن طريق بث الخوف فى النفوس، حتى لا تستطيع الدول النامية رفض العرض السخى.

ولكن لماذا ترفض الدول النامية هدية صندوق النقد الدولى؟ لماذا تدير ظهرها لكل تلك الأموال الغزيرة، التى سوف تساعدها بلا شك، فى مواجهة الأزمة؟ ولماذا التشكيك فى هذا الكرم الدولى؟ لأنه فى خارجه كرما، وفى جوهره يحمل الكثير من السموم. لأن الهدية هى فى الحقيقة فصل جديد من الفصول التى كتب عنها جون بيركينز، الخبير الاقتصادي، وصاحب كتاب "اعترافات قاتل اقتصادى مأجور"، تهدف الى إعداد الظروف لكى تضع المؤسسة الدولية يدها على ثروات تلك الدولة؛ فتبدأ الفصول بإغراق الدولة التى وقع عليها الاختيار بالقروض، وبالتالى بالديون، الى أن تصبح غير قادرة على السداد. ثم يبدأ الفصل الثانى بتوجيه إنذار شديد اللهجة الى تلك الدولة، بضرورة الدفع وإلا...، ويبدأ الفصل الأخير بالتهديد بالقتل أو إثارة إضطرابات شعبية تؤدى الى إسقاط النظام الحاكم، إلا إذا وافق النظام على التنازل عن سيادته على ثرواته. ولا ننسى أيضا أن القروض المعروضة لن تذهب الى شركات وطنية، بل الى شركات كبرى تعددية متعددة الجنسيات التى ستقوم بالاستثمار فى الدولة.
أن السيناريوهات المختلفة التى تم الإعلان عنها تتطابق مع نظرية نعومى كلاين التى كتبت عنها فى كتاب "عقيدة الصدمة" ووصفت كيف تقوم الشركات الكبرى باستغلال الأزمات والإضطرابات التى تحدث فى مكان ما، أو التى تثيرها فى أحيان أخرى، من اجل أن تتدخل لتحول المكان لصالحها، أى لصالح حفنة من الأشخاص، وغالبا ما يكون الفقراء هم دائما الضحية. وتعطى كلاين أمثلة عما حدث فى دول تعرضت لكوارث طبيعية مثل التسونامى الذى دمر وأغرق مدنا كاملة فى جنوب شرق أسيا، فتدخلت الشركات الكبرى بحجة الاستثمار لإعادة بناء المدن، فقامت بالفعل بإعادة البناء ولكن ليس منازل للصيادين بل منتجعات مرفهة، ومراكز تجارية ضخمة، أما الصيادون فقد وجدوا أنفسهم بلا مأوى فى المنطقة التى كانوا يعملون فيها ويحصلون منها على رزقهم. نفس الشئ حدث فى نيو اورليانز بالولايات المتحدة التى غرقت أيضا بعد إعصار كاترينا، فكانت فرصة لإلقاء السكان الأصليين الفقراء خارج المنطقة وأعيد بناء المدينة لصالح طبقة أخرى تماما.
من جهة أخرى يتم إثارة إضطرابات مقصودة، مثلما حدث فى بعض دول أمريكا اللاتينية مثل شيلى أو كما حدث فى العراق، وتستغل تلك الإضطرابات لإزالة كل ما كان فى السابق، وإعادة البناء حسب مصلحة الإدارة الأمريكية والشركات متعددة الجنسيات، حتى ولو كان ما أزالوه حضارات عريقة.
لذلك فان الأزمة المالية التى نشهدها الآن ليست بعيدة تماما عن السيناريوهات التى وصفها بيركينز وكلاين، ويمكن توقع ما سوف يحدث فى الأيام المقبلة، خاصة بعد تحذير رئيس البنك الدولى والعرض السخى الذى تلاه مقدما من رئيس صندوق النقد الدولى.

فما العمل؟ هل نستسلم الى إغراء الأموال المتدفقة؟ أم نستسلم لعواقب الأزمة الطاحنة؟ أننا لسنا بحاجة لا للحل الأول ولا للثانى، بل يمكن تأمل حلولا أخرى كثيرة سبقتنا إليها دول أخرى فى أمريكا اللاتينية والصين وغيرها، يمكن أن نختار منها ما يناسبنا. وبداية علينا وضع الأسس التى سوف نسير عليها، والتى يمكن تلخيصها فى نقطتين: أولا الاعتماد على أنفسنا وعلى قدراتنا الذاتية مهما كانت متواضعة للتخلص من قبضة المؤسستين الدوليتين؛ وثانيا، تأمل الفكرة التى يطرحها محمد يونس الحائز على جائزة نوبل فى السلام فى العام الماضى، وصاحب بنك الفقراء فى بنجلادش. فيعترض يونس على الرأسمالية التى تضع الربح والنمو السريع فى أولوياتها الأساسية، ويرى أن ذلك هو ما أفرز الأزمة الحالية؛ ودعا الى وضع الفائدة الإنسانية والبشرية لتكون هى الهدف والحافز الأساسى للرأسمالية، بجانب الربح المعقول؛ ودعا الى استثمار الأموال فى شئ ذات معنى من اجل تحسين نوعية الحياة للمجتمع كله وليس فئة واحدة منه.
يرى محمد يونس ان الرأسمالية الحالية تدهورت لتصبح مجرد ناديا للقمار، فساد الجشع الأسواق المالية، ووصلت المضاربات الى نسب كارثية، ودعا الى وقف كل ذلك، وربط الاستثمارات بالاقتصاد الحقيقي وبأصول واقعية، وليس بقصور فى الهواء. لان الأزمة الحقيقية تظهر عندما يعيش المواطن يحلم بقصور فى الهواء، ثم يدرك فى لحظة أن تلك القصور ليس لها وجود.