31 Dec 2008

يد الغدر تضرب فى غزة

لم يكن غريبا أن تضرب إسرائيل بيد الغدر على سكان غزة بعد أن أعدت الأرضية فى البلاد العربية وفى الخارج لتبرر أعنف هجوم دموى تقوم به ضد أبناء غزة العزل منذ حرب 1967.
نفس السيناريو الذى وضعته الولايات المتحدة لضرب العراق فى عام 2003 قامت إسرائيل بتطبيقه فى غزة. فقد وضعت أولا القطاع الفلسطينى تحت الحصار المشدد لأكثر من 19 شهرا الى أن حولت الشعب الفلسطينى فى القطاع الى "شحاذين" كما قال احد الكتاب، فهم يأكلون الحشائش ويموتون فى المستشفيات بسبب غياب الدواء وانقطاع الكهرباء عن الأجهزة الطبية؛ ومنعت المعونات من الوصول إليهم سواء من البحر أو من البر. ويصف المراقبون الأطفال الجوعى والمرضى بأنهم "جيل من الجفاف".
ثم فرضت إسرائيل تعتيما إعلاميا على القطاع، فمنعت الصحافة الأجنبية من تغطية الأحداث داخل القطاع؛ كما منعت مسئولا من المفوضية السامية لحقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة من دخول غزة، بل وقامت باعتقاله عند دخوله البلاد ومنعته من القيام بمهامه الرسمية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، ثم رحلته.
وتأتى الخطوة الثالثة عندما بدأت إسرائيل فى تخدير الرأى العام العالمى، عن طريق طرح أراء حول التهدئة والسلام، كما فعل ايهود اولمرت رئيس الوزراء المستقيل الذى أعلن فى شهر سبتمبر الماضى، "تراجعه عن فكرة تمسك إسرائيل بالضفة الغربية وقطاع غزة وقال أن تصور "إسرائيل الكبرى" قد انتهى، ليس هناك شيئا مماثلا. واى شخص يتحدث عن مثل تلك الرؤية فهو يعيش فى الوهم". وفى نفس الشهر قال اولمرت فى تصريحات صحفية أن على إسرائيل أن تغادر كل الأراضى التى احتلتها عام 1967 مقابل السلام مع الفلسطينيين، بما فيها الضفة الغربية وهضبة الجولان وأيضا القدس الشرقية. مؤكدا انه يطرح ما لم يطرحه أى مسئول إسرائيلى من قبل. تماما مثلما عرض ايهود باراك رئيس الوزراء الأسبق على الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات فى 2002 السلام وإعادة كافة الأراضى الفلسطينية.
ومثلما حدث فى 2002 حدث مرة أخرى فى 2008، بعد تلك الهدية المسمومة، انقلب فى المرة الاولى أرييل شارون على الوضع ودخل ساحة المسجد الاقصى بألف جندى، مما أدى الى تفجر الانتفاضة الثانية؛ واليوم، بعد اشهر قليلة دكت القوات الجوية الإسرائيلية قطاع غزة فيما وصف بأنها أسوأ عملية عسكرية دموية منذ حرب 67. وذلك حتى يلقى اللوم كله على الفلسطينيين.
ولكن كل شئ كان معدا لهذا اليوم خاصة بعد أن أعلن الرئيس الامريكى المنتخب، باراك اوباما أن إسرائيل هى أهم حليف لها فى المنطقة، وبعد أن أعلن الاتحاد الأوروبى تحت الرئاسة الفرنسية رفع مستوى التعامل مع إسرائيل.
واليوم عندما قامت إسرائيل بدك غزة فى منتصف النهار، بينما كان أطفال المدارس فى طريقهم من والى مدارسهم، وكانت الشوارع تعج بالمارة والمدنيين، ليسقط المئات قتلى وجرحى، لم ترفع أى حكومة مسئولة فى أوروبا أو الولايات المتحدة صوتها لكى تدين العدوان. فهم لازالوا تحت تأثير التخدير.

فى عام 2001، وضعت الولايات المتحدة تفسيرها للإرهاب، فى الأمر التنفيذى رقم 13224 ووصفته بأنه: نشاط يضم عملا عنيفا أو خطيرا يضر بحياة الإنسان أو الملكية أو البنية التحتية؛ وهو نشاطا مقصودا ذا نية مبيتة يهدف الى تخويف أو قمع السكان المدنيين، والتأثير على سياسة الحكومة من خلال التخويف أو القمع؛ أو التأثير على تصرف الحكومة من خلال التدمير على نطاق واسع، أو القتل أو الخطف أو احتجاز رهائن. هذا الأمر التنفيذى وقعه جورج بوش فى 23 سبتمبر عام 2001، ويستخدم للقضاء على أى منظمة أو شخص أو دولة لا تريده. ولكن نفس التفسير ينطبق على إسرائيل وتصرفاتها مع الفلسطينيين على مدى ستين عام، ولكن لم يتهمها احد أبدا بالإرهاب؛ برغم خطتها الواضحة فى عملية التطهير العرقى المستمر حتى اليوم.

10 Nov 2008

اختيارات اوباما

سعد الجميع بانتخاب باراك اوباما رئيسا للولايات المتحدة؛ سواء كانوا من الأمريكيين أو الأجانب، من اليسار أو اليمين، من العالم الأول أو العالم الثالث، من الأغنياء أو الفقراء، من الصهاينة أو العرب. الجميع شعر بسعادة كبيرة لخروج جورج بوش من البيت الأبيض، والجميع شعر بالأمل فى الإدارة الجديدة التى سيرأسها رجل امريكى اسود من أصول كينية وإسلامية، تربى فى عائلة بيضاء مسيحية؛ لأن كل فئة أو دولة أو مجموعة ترى فى اوباما التغيير للأفضل، ايا كان هذا الأفضل.
هذا الموقف يعيد الى الأذهان تلك اللحظة التاريخية التى أختير فيها الجنرال شارل ديجول ليتولى السلطة فى فرنسا الجمهورية الرابعة قبل أن يغير دستورها ويشكل الجمهورية الخامسة؛ فى تلك الفترة سعد الجميع بعودة ديجول الى السلطة، سواء من المدنيين أو العسكريين، من أنصار الجزائر فرنسية، أو من دعاة الاستقلال؛ هل كان هناك تناقضا فى الرؤية؟ أم سوء تقدير أو سوء فهم؟
ليس هناك سوء فهم على أى جانب. فمثلما حدث مع ديجول، يتوقع كل جانب أن ينتهج الرئيس الجديد السياسة التى يتوق إليها وتؤيده، لأن كل جانب يرى فى الرئيس الجديد نهاية عصر بث الكثير من الآلام، وبداية أخر يتمنى أن يكون أفضل. فيرى المجتمع الأسود الامريكى أن انتخاب شخص منهم يعنى أن كل شئ أصبح ممكنا، ويرى البيض أن انتخاب اوباما سيغير صورة أمريكا فى العالم بعد ان تشوهت بسبب سياسة بوش؛ ويرى اللوبى الإسرائيلى أن اختيار اوباما لرام إسرائيل امانويل رسالة الى الشرق الأوسط أن الرئيس الجديد سيسير على خطى السابقين من اجل إنهاء العملية التى بدأها شارون فى ترحيل الفلسطينيين واعلان القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل. بينما يرى العرب أن اوباما الذى يحمل دماء إسلامية افريقية، قد يكون أكثر تفهما لمأساة الشعب الفلسطينى التى تتفاقم كل يوم أكثر من اليوم السابق؛ تأمل أوروبا فى دور امريكى جديد تتعامل من خلاله كشريك، وليس كدولة عظمى، بينما تأمل الصين فى علاقات متغيرة مع الإدارة الجديدة.
ولكن اين اوباما من كل ذلك؟ فى أى جانب يقف؟ مثل ديجول فى عام 1958، قد يكون اوباما نفسه لا يعرف أى الطرق ينتهج، وأى الاتجاهات يختار؟ فان كانت خطبه تشير الى تمتع الرئيس الامريكى بالهدوء والثقة والتوازن الفكرى، فان اختياراته لمساعديه فى البيت الأبيض حتى الآن، تشير الى توجه أخر أكثر الى اليمين عنه الى اليسار الذى جاء منه. أن على اوباما أن يفكر كثيرا خلال الأسابيع المقبلة وقبل حلفه اليمين ليكون رسميا أول رئيس اسود فى البيت الأبيض، أن يفكر بشكل خاص فى كل هؤلاء الذين اختاروه ووضعوا أملهم فيه. لأن نجاحه كرئيس يعتمد أساسا على انتهاجه سياسته هو التى يضعها من وحى فكره وشخصيته وتوجهاته، بهدف تحقيق حلم البسطاء مثله، وليس على انتهاجه سياسة تفرضها عليه القوى الأخرى والمؤسسات الكبرى التى تعمل لصالح نفسها، وتتعهد له بفترة رئاسية ثانية.

6 Nov 2008

عصر جديد فى امريكا


لا تتوان الولايات المتحدة فى إدهاش العالم. وفى 4 نوفمبر صنعت مرة أخرى التاريخ عندما أعطت الفوز بالرئاسة لأول امريكى من أصول افريقية، ليصل عصر من العنصرية الى نهاية الطريق، ويحقق باراك اوباما "الحلم" الذى كان يحلم به مارتن لوثر كينج وجيل كامل من السود فى الستينات.
والتساؤلات تطرح بشدة: لماذا فاز اوباما الأسود؟ ما الذى يستطيع أن يغيره من سياسات أمريكا فى الخارج؟ هل الرسالة ستبقى والذى يتغير هو حامل الرسالة؟ إن فوز اوباما يعنى أن الناخب الامريكى رفض كل ما يمثله جون ماكين، وهو أساسا شيئين مهمين: فقد رفض الناخب الامريكى الفكر الجمهورى الذى يمثله ماكين والذى بالضرورة سيكون امتدادا لسياسات جورج بوش، الذى اعتبر فى كل الاستطلاعات أسوأ رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة. وهو الفكر الذى يمتد من الهيمنة الإمبريالية فى العالم الى اقتصاد السوق الحر بالكامل؛ والذى يمتد من العنجهية وعقاب كل من يعارض سواء كانت دولة صغيرة أو كبيرة، الى خلق مناخا من الخوف فى الداخل وفى الخارج للحصول على تفويض لتطبيق سياسات غير شعبية؛ والذى يمتد من ممارسة الأكاذيب الدائمة والمستمرة على كل المستويات لإقناع الرأى العام بشرعية سياساته، الى إعطاء العالم صورة كريهة للولايات المتحدة فى أنحاء العالم.
كما رفض الناخب الامريكى بأغلبيته الساحقة ما يمثله جون ماكين من توجه عسكرى، رافضا بذلك سياسة الحرب التى انتهجها بوش على جميع الجبهات، بعد أن شن حربه الشهيرة ضد الإرهاب. فلم يتوان جون ماكين على امتداد حملته الانتخابية فى التركيز على تاريخه العسكرى فى فيتنام وعلى فترة أسره فى سجونها وعذابه وتعذيبه، فى محاولة لان يستمد شرعيته من العسكرية. ولكن فى 4 نوفمبر كانت رسالة الناخب الامريكى رفض تلك الشرعية التى ورطت جنوده وأبناءه فى حروب غير كريمة فى أفغانستان وفى العراق بكل ما تكشف عن خبايا تلك الحروب من ممارسات دونية شوهت صورة الشرف العسكرى، سواء من جنودها المرتزقة أو قواتها النظامية.
لذلك كان توجه الناخب الامريكى الى المرشح الديمقراطى الذى قرر أن يكون ما يمثله هو العكس تماما عما يمثله غريمه الجمهورى. فان اوباما هو امتداد لتاريخ من الصراع العرقى للحصول على الحقوق المدنية وانتزاع الاحترام لأمريكيين من أصول افريقية، وان كان اوباما من أب أفريقى فهو يتمتع بميزة كبيرة، وهو انه ليس من سلالة عبيد، فان والده كان كينيا حرا جاء الى الولايات المتحدة ليدرس، وتلك نقطة مهمة فى اختياره؛ ولكن اوباما ليس الماضى، بل هو يمثل أيضا المستقبل، سواء من خلال الجيل الذى ينتمى إليه حسب عمره، 47 عاما، أو مستقبل بلاد قال عنها اوباما: "إنها ليست ولايات بيضاء أو ولايات سوداء أو ولايات زرقاء، بل هى الولايات المتحدة" التى تضم كل أنواع الجنسيات والأعراق والمذاهب، والتى صنعت من قبل وتصنع دائما ما تتميز به.
هل ستتغير أمريكا فى ظل رئاسة اوباما؟ فى الداخل ستتغير أمريكا بكل تأكيد، فان السياسة الاجتماعية والاقتصادية والمالية التى سينتهجها باراك اوباما الديمقراطى هى مختلفة عن سياسة الجمهورى؛ فإن كان الأخير يهتم بالطبقات الرأسمالية على أساس أن الخير الذى يعم فى القمة سوف ينتقل بالضرورة الى أسفل، فإن الديمقراطيين يعملون مباشرة مع الطبقات الأقل حظا فى تطبيق سياسات الضرائب أو التأمين الاجتماعى، كما أن تدخل الإدارة الفيدرالية سيأخذ حيزا اكبر مما كان عليه الوضع فى عصر رئاسة الجمهوريين، خاصة بعد أن اعترف آلان جرينسبان، وزير الخزانة الأمريكي السابق والرجل الذى تبنى سياسة السوق الحر بكل حذافيرها، بفشل تلك السياسة.
أما خارجيا، فهناك الكثير من علامات الاستفهام. خاصة فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين وفى سياساتها تجاه القوى الواعدة الأخرى مثل الصين وروسيا والهند، أو فى الشرق الأوسط، أكثر المناطق التهابا. أن السياسات الكبرى بالنسبة للدول، لا يمكن أن تتغير بسرعة مع تغيير القاطن فى مبنى الرئاسة، لأنها تحكمها بالضرورة التزامات دولية كبرى من الصعب تغييرها ما بين ليلة وضحاها. وذلك ينطبق أيضا على البيت الأبيض. ولكن أن كان هناك مؤسسة تضع السياسات الأمريكية وعلى الرئيس تطبيقها، فان من المتوقع أن يضع باراك اوباما بصمته وأسلوبه على تلك السياسة، من خلال اختياره لمستشاريه ومن خلال شخصيته الايجابية.
لذلك فمن المتوقع أن تبقى السياسات التى وضعها بوش من قبل، وبالذات الحرب ضد الإرهاب وملاحقة القاعدة، ولو الى حين؛ ولكن أمريكا ستحاول فى الفترة المقبلة أن تحسن من صورتها التى تشوهت تماما فى عصر بوش. لذلك فان اوباما سيغير الأسلوب الذى تتعامل به أمريكا مع الخارج، ويصبح الحوار والنقاش هو السمة الأساسية فمع حلفاءه الأوروبيين. من المتوقع أن يكون هناك حوارا أكبر ونقاشا بين الآراء مع الحق فى الاختلاف بدون الخوف من العقاب.
أما بالنسبة للشرق الأوسط والعلاقات مع إسرائيل، فان عوامل كثيرة تحكمها، وتربطها علاقات عضوية خارجية وداخلية، تزيد تعقيداتها. فلن ننسى أن أول خطاب ألقاها اوباما بعد إعلانه رسميا ترشيحه للرئاسة كان فى اكبر مركز للوبى الإسرائيلى فى الولايات المتحدة، الايباك، حيث أعلن انه سيعمل من اجل أن تكون القدس العاصمة الموحدة لإسرائيل. هل كان ذلك محاولة لجذب الاهتمام والمساندة اليهودية؟ هل هى ذلة لسان؟ أم إنها سياسة حقيقية؟ ذلك ما يجب أن تعمل الدول والحكومات العربية والفلسطينية على اكتشافه.
أن على باراك اوباما مهمة صعبة لتغيير ثمانى سنوات من السياسة الخطأ، وحملا ثقيلا لأجيال وأجيال من الصراع العرقى، ومسئولية وضعت على عاتقه يجب أن ينجح فيها وإلا سيقال انه فشل لأنه أسود وليس لأى سبب أخر.

الهدية المسمومة

قدم صندوق النقد الدولى عرضا سخيا الى دول العالم الثالث، فتعهد رئيسه دومينيك ستراوس- كان، باستخدام كل موارد المؤسسة المالية الدولية لمساعدة الدول النامية على تقوية اقتصادياتها وتعزيز أنظمتها المالية وحماية المتضررين من تداعيات الأزمة المالية العالمية. ولكن يأتى العرض بعد أيام قليلة من تحذيرات رئيس البنك الدولى ريتشارد زوليك، من أن العالم الثالث والدول النامية هى أكثر المتضررين من الأزمة المالية وكأن الأخير قد مهد الطريق عن طريق بث الخوف فى النفوس، حتى لا تستطيع الدول النامية رفض العرض السخى.

ولكن لماذا ترفض الدول النامية هدية صندوق النقد الدولى؟ لماذا تدير ظهرها لكل تلك الأموال الغزيرة، التى سوف تساعدها بلا شك، فى مواجهة الأزمة؟ ولماذا التشكيك فى هذا الكرم الدولى؟ لأنه فى خارجه كرما، وفى جوهره يحمل الكثير من السموم. لأن الهدية هى فى الحقيقة فصل جديد من الفصول التى كتب عنها جون بيركينز، الخبير الاقتصادي، وصاحب كتاب "اعترافات قاتل اقتصادى مأجور"، تهدف الى إعداد الظروف لكى تضع المؤسسة الدولية يدها على ثروات تلك الدولة؛ فتبدأ الفصول بإغراق الدولة التى وقع عليها الاختيار بالقروض، وبالتالى بالديون، الى أن تصبح غير قادرة على السداد. ثم يبدأ الفصل الثانى بتوجيه إنذار شديد اللهجة الى تلك الدولة، بضرورة الدفع وإلا...، ويبدأ الفصل الأخير بالتهديد بالقتل أو إثارة إضطرابات شعبية تؤدى الى إسقاط النظام الحاكم، إلا إذا وافق النظام على التنازل عن سيادته على ثرواته. ولا ننسى أيضا أن القروض المعروضة لن تذهب الى شركات وطنية، بل الى شركات كبرى تعددية متعددة الجنسيات التى ستقوم بالاستثمار فى الدولة.
أن السيناريوهات المختلفة التى تم الإعلان عنها تتطابق مع نظرية نعومى كلاين التى كتبت عنها فى كتاب "عقيدة الصدمة" ووصفت كيف تقوم الشركات الكبرى باستغلال الأزمات والإضطرابات التى تحدث فى مكان ما، أو التى تثيرها فى أحيان أخرى، من اجل أن تتدخل لتحول المكان لصالحها، أى لصالح حفنة من الأشخاص، وغالبا ما يكون الفقراء هم دائما الضحية. وتعطى كلاين أمثلة عما حدث فى دول تعرضت لكوارث طبيعية مثل التسونامى الذى دمر وأغرق مدنا كاملة فى جنوب شرق أسيا، فتدخلت الشركات الكبرى بحجة الاستثمار لإعادة بناء المدن، فقامت بالفعل بإعادة البناء ولكن ليس منازل للصيادين بل منتجعات مرفهة، ومراكز تجارية ضخمة، أما الصيادون فقد وجدوا أنفسهم بلا مأوى فى المنطقة التى كانوا يعملون فيها ويحصلون منها على رزقهم. نفس الشئ حدث فى نيو اورليانز بالولايات المتحدة التى غرقت أيضا بعد إعصار كاترينا، فكانت فرصة لإلقاء السكان الأصليين الفقراء خارج المنطقة وأعيد بناء المدينة لصالح طبقة أخرى تماما.
من جهة أخرى يتم إثارة إضطرابات مقصودة، مثلما حدث فى بعض دول أمريكا اللاتينية مثل شيلى أو كما حدث فى العراق، وتستغل تلك الإضطرابات لإزالة كل ما كان فى السابق، وإعادة البناء حسب مصلحة الإدارة الأمريكية والشركات متعددة الجنسيات، حتى ولو كان ما أزالوه حضارات عريقة.
لذلك فان الأزمة المالية التى نشهدها الآن ليست بعيدة تماما عن السيناريوهات التى وصفها بيركينز وكلاين، ويمكن توقع ما سوف يحدث فى الأيام المقبلة، خاصة بعد تحذير رئيس البنك الدولى والعرض السخى الذى تلاه مقدما من رئيس صندوق النقد الدولى.

فما العمل؟ هل نستسلم الى إغراء الأموال المتدفقة؟ أم نستسلم لعواقب الأزمة الطاحنة؟ أننا لسنا بحاجة لا للحل الأول ولا للثانى، بل يمكن تأمل حلولا أخرى كثيرة سبقتنا إليها دول أخرى فى أمريكا اللاتينية والصين وغيرها، يمكن أن نختار منها ما يناسبنا. وبداية علينا وضع الأسس التى سوف نسير عليها، والتى يمكن تلخيصها فى نقطتين: أولا الاعتماد على أنفسنا وعلى قدراتنا الذاتية مهما كانت متواضعة للتخلص من قبضة المؤسستين الدوليتين؛ وثانيا، تأمل الفكرة التى يطرحها محمد يونس الحائز على جائزة نوبل فى السلام فى العام الماضى، وصاحب بنك الفقراء فى بنجلادش. فيعترض يونس على الرأسمالية التى تضع الربح والنمو السريع فى أولوياتها الأساسية، ويرى أن ذلك هو ما أفرز الأزمة الحالية؛ ودعا الى وضع الفائدة الإنسانية والبشرية لتكون هى الهدف والحافز الأساسى للرأسمالية، بجانب الربح المعقول؛ ودعا الى استثمار الأموال فى شئ ذات معنى من اجل تحسين نوعية الحياة للمجتمع كله وليس فئة واحدة منه.
يرى محمد يونس ان الرأسمالية الحالية تدهورت لتصبح مجرد ناديا للقمار، فساد الجشع الأسواق المالية، ووصلت المضاربات الى نسب كارثية، ودعا الى وقف كل ذلك، وربط الاستثمارات بالاقتصاد الحقيقي وبأصول واقعية، وليس بقصور فى الهواء. لان الأزمة الحقيقية تظهر عندما يعيش المواطن يحلم بقصور فى الهواء، ثم يدرك فى لحظة أن تلك القصور ليس لها وجود.

14 Oct 2008

بينما العالم مشغول بالازمة...


فى الوقت الذى ينشغل فيه العالم بالأزمة المالية التى ألمت بالأسواق، وفى الوقت الذى تركز فيه وسائل الإعلام الغربى على الخطر الذى يهددها، تتحرك إسرائيل فى الأراضى الفلسطينية بلا رقيب أو حسيب، ترتكب المزيد من انتهاكات حقوق الإنسان والمزيد من الجرائم ضد البشرية. نفس تلك الحقوق التى أعلنت الأمم المتحدة أن إسرائيل انتهكتها فى غاراتها ضد بيت حنون.
هذه المرة تقوم إسرائيل بوضع خطة من اجل إعادة فتح مقلب نفايات سامة بالقرب من منطقة تضم العديد من الآبار المهمة فى الضفة الغربية بالقرب من قرية دير شرف. وكانت إسرائيل قد اضطرت الى إغلاق المقلب فى عام 2005 حيث كانت تلقى بنفايات عدة مدن إسرائيلية ومستوطنات يهودية فى الضفة الغربية، بعد احتجاجات ضخمة من الفلسطينيين المقيمين فى المنطقة بسبب نتائج تلك النفايات على مياه الآبار، وبالتالى تلويث المياه التى تروى الأراضى الزراعية الفلسطينية.
وقال خبراء مياه واراضى فلسطينيون أن المنطقة تضم خمسة آبار تمد قرية دير شرف ومدينة نابلس أهم مدن شمالى الضفة الغربية وقرية بيت ايبا، بالمياه التى يعتمد عليها عشرات الآلاف من الفلسطينيين.
ولكن مؤخرا بدأ العمال الإسرائيليون يظهرون مرة أخرى فى الموقع مما أُثار مخاوف الفلسطينيين من أن تحاول إسرائيل إعادة فتح المقلب مرة أخرى. وخرج الفلسطينيون مرة أخرى فى مظاهرات احتجاجية بعد صلاة الجمعة فى الأسبوع الماضى يحملون اللافتات التى تطالب بوقف فتح مقلب النفايات على الأراضى الفلسطينية، وتؤكد إنها تدمر البيئة الفلسطينية.
وكأن إسرائيل تحاول الاختباء وراء الأحداث العالمية وانشغال الإعلام بالأزمة المالية لكى تقوم بتمرير قرارات ضمن سلسلة القرارات التى تتخذها ضد الوجود الفلسطينى فى الأراضى، من اجل دفعهم بأى شكل من الأشكال، خارج المنطقة فى عملية "تطهير عرقى"، وذلك سواء من خلال القمع أو القتل أو تدمير البيئة والاراضى والزراعة التى يعيشون عليها ومن خيراتها.
والغريب أن تعمل إسرائيل على تلويث المياه الفلسطينية فى الوقت الذى أطلق فيه خبير مياه اسرائيلى صرخة إنذار فى شهر يولية الماضى، أعلن فيها أن إسرائيل تشهد أسوأ أزمة مياه فى تاريخها، مؤكدا إنها تتجه نحو الكارثة. وأكد الخبير أن على إسرائيل اتخاذ عدد من القرارات لمواجهة هذا الخطر، الذى يهدد الضفة الغربية أيضا بعد أن اعتبر عام 2008 عام الجفاف.
الغريب أن إسرائيل فى مواجهة هذا الخطر لا تحاول التفاوض ولا التعاون، ولكن تعمل من ناحية على حرمان الفلسطينيين من مياههم، وتشن من ناحية أخرى الحروب ضد الدول المجاورة مثل جنوب لبنان للوصول الى نهر الليطانى. وفى كل الحالات فان إسرائيل متهمة بانتهاك جرائم ضد البشرية. فهل تحقق الأمم المتحدة فى تلك الجرائم؟ وهل تدين المحكمة الدولية إسرائيل كما تدين زعماء الدول الأخرى؟ أم أن الرأى العام العالمى منشغل حاليا فى قضايا أكثر إلحاح؟

الانتماء قرار وليس هبة


أدهش عندما اسمع من بعض الشباب عبارات مثل: "لم يعد عندى شعرة انتماء للبلد"؛ أو "كيف اشعر بالانتماء لوطن بينما الفساد فى كل مكان؟" أو "لماذا اشعر بالانتماء إن كنت لا أجد العمل؟".. وأدهش أكثر عندما يذهب البعض الى حد القول انه غير مستعد لان يموت من اجل الأرض ولا الوطن، لأن الوطن لا يعطيه شيئا و"المواطن الذى لا يحصل فى الوطن على لقمة عيش، فسوف يكفر حتما به".
وكأن الوطنية سلعة قابلة للمقايضة والمساومة؛ والانتماء هبة تمنحها الحكومة للمواطن أو تسلبها منه؛ إن أعطتنا العمل والسكن ولقمة العيش، شعرنا بالانتماء الى الوطن ودافعنا عنه، أما وإن مر الوطن بمحنة، تنصلنا منه وبحثنا عن آخر.
ولكنى لا أدهش عندما أرى آخرين كثيرين، بالمئات، وربما بالآلاف أو الملايين، يشعرون بالانتماء الى وطنهم لمجرد ان أجدادهم عاشوا فيه فى الماضى، واليوم هم يعملون فيه من اجل أن يعيش فيه أحفادهم وأحفاد أحفادهم فى المستقبل؛ لا أدهش عندما أرى كل هؤلاء يفكرون فى وطنهم ويعملون من اجل أبناء بلدهم؛ فنجدهم سواء أفرادا أو جماعات، يعملون فى صمت ودأب وحماس ولا يساومون على وطنيتهم وانتمائهم.
وتتوالى النماذج، فنسمع عن جمعيات أنشأها الشباب مثل "بنك الطعام" الذى يتبرع فيه شباب بوقتهم وجهدهم، ويعملون بجد ومسئولية من اجل ألا ينام أحد بدون عشاء، ونسمع عن جمعيات أخرى أسستها مجموعة من النساء المصريات مثل "أولادنا.. مستقبلنا" لدعم المدارس الفقيرة ومساعدة التلاميذ إيجاد مناخ علمى إيجابى يكبرون فيه؛ أما الجمعيات الخيرية فهى عديدة تقدم القروض الصغيرة لمساعدة الآخرين إنشاء مشاريع الصغيرة وتعمل بنشاط فى جميع المجالات؛ وعلى مستوى الأفراد، هناك أمثلة لشباب منتمى قرر أن يساهم فى رفعة وطنه، فنسمع عن شابة تدعى ياسمينا قررت أن تذهب الى أفقر الفقراء فى أفقر الأحياء فى القاهرة تدعى إسطبل عنتر، حيث أسست مدرسة الفصل الواحد، يتعلم فيها كل هؤلاء الذين رفضتهم المدارس الأخرى لسبب أو لأخر، وبذلك أعطت المحرومين الفرصة لأن ينهضوا بأنفسهم مرة أخرى.
وهناك جمعيات إسلامية وأخرى قبطية، لا تفرق فى عطائها ما بين مسلم أو مسيحى، فان الخير لا يعرف دين أو طبقة اجتماعية، تلك الجمعيات مثل "الهيئة القبطية الإنجيلية" التى حولت التحديات الى فرص فى أنحاء القطر، من الصعيد الى الإسكندرية، تقيم الحوار وتقدم المشروعات فى كل المجالات التعليم والتنمية البشرية، وطرح البرامج وإنشاء الجمعيات والقرى مثل قرية الأمل للتعامل مع المعاقين والايتام.
ولا أدهش عندما اسمع عن أبناء قرية "كفانا الأشراف"، وهى قرية "كانت" فقيرة ترتفع فيها نسبة البطالة الى معدلات عالية، وتتداعى فيها البنية التحتية، وتتآكل أرضها الزراعية، قرروا ونجحوا أن يحولوها الى واحدة من أغنى القرى من ناحية الإنتاجية الزراعية، لا يوجد فيها فقير ولا عاطل، ونشأت فيها المدارس والمعاهد وتأسست جامعة.
ولا أدهش عندما أسمع عن قرية أخرى تدعى "النخيلة"، قرية معزولة فى أقاصى الصعيد، عاش أبناؤها، الذين لا يزيد عددهم عن 40 ألف نسمة، فى عبودية بسبب سيطرة قطاع الطرق عليها وسيادة قانون القوة، فتحولت الى قرية جرداء تعيش فى خوف دائم؛ قرر أبناؤها وضع حدا لتلك العبودية. ومن خلال تأسيس جمعية أطلقوا عليها اسم "معا"، استطاع أهل القرية "معا" القضاء على قطاع الطرق، والنهوض بقريتهم لتصبح قرية واعدة يتعلم فيها الأطفال والشباب وتتوالى فيها مشاريع التنمية التى يتشارك فيها الجميع كبارا وصغارا.
وتتوالى الأمثلة عن مواطنين شعروا بالانتماء لوطنهم، وعلى استعداد للموت من اجله، لأنهم ساهموا ولو بجزء صغير فى تنميته ونهضته ولن يفكروا أبدا فى تركه ليتمتعوا بخير بلاد أخرى لم يساهموا فيه.هؤلاء يعرفون أن الوطن إن مر بأزمة فستكون عابرة وسوف تنتهى بفضلهم لأنهم يتكاتفون لإنقاذه؛ هؤلاء يمثلون ومضات براقة تنير طريقنا، ونبت أخضر متناثر، مع رعايته سيكبر يوما ما ليحقق النهضة.
أما كل الذين قرروا ألا يشعرون بالانتماء، فقد فقدوا جزء كبيرا من كينونتهم، وأصبحوا مثل فرع الشجرة الذى انخلع من جذوره فتقاذفته الرياح والأمواج بلا هدف أو معنى. هؤلاء لن يشعرون أبدا بالانتماء الى أى شئ: لا وطن ولا عائلة ولا حتى فكرة أو مبدأ.

12 Aug 2008

لمصر تاريخ واحد

التاريخ هو ذاكرة الشعوب. أن ضاع ضاعت الذاكرة، فلا يستطيع الشعب أن يعرف من أين جاء؟ ولا أين كان؟ ويصبح ألعوبة فى أيدى الآخرين، يوهمونه انه كان ما لم يكن؛ تماما مثلما يفقد شخص ما ذاكرته فلا يستطيع أن يحدد أن كان يوما شخصا كريما أم كان مجرما، أن كان سيدا أم عبدا.
والحفاظ على التاريخ يبدأ بالمحافظة على التواريخ القومية التى تحتفل بها الدولة. فدولة مثل فرنسا تحتفل كل عام بعيدها القومى، عيد الثورة الفرنسية، فى 14 يولية. لم يحدث أبدا أن احتفلت فرنسا شعبا أو حكومة بعيد 14 يولية فى 7 أو 15 يولية. انه العيد التى تلتف فيه كل طبقات الشعب فى كل مدنه وقراه، يعزفون الموسيقى ويرقصون، ويغنون بعد أن تابعوا صباحا العرض العسكرى السنوى. وفى نفس اليوم، تقيم كل السفارات الفرنسية فى جميع أنحاء العالم حفلاتها لاستقبال زائريها، فلا تحيد سفارة فى أى مكان، عن التاريخ، 14 يولية، الذى حفر فى ذاكرة الجميع، وأصبح رمزا لنهاية عصر، سواء كان المرء يؤيد الثورة أم يعارضها.
كذلك تحتفل الولايات المتحدة بعيدها القومى يوم 4 يولية، ليس أول يولية ولا 10 من الشهر، بل فى 4 يولية الذى تحدد ليكون هو العيد الذى يتجمع فيه مواطنو كل الولايات العشرين، رغم استقلاليتهم النسبية، ليتحدوا معا فى هذا اليوم ويشعرون بانتمائهم الى وطن واحد.
ولكن فى مصر، ضاع تاريخ 23 يولية وسط اللامبالاة، ولم يعد أحد يذكره ولا يحتفل به فى نفس اليوم. فنرى كل سفارة مصرية فى الخارج تحتفل به فى يوم مختلف، وكل سفارة تقيمه كل عام فى يوم مختلف، الى حد أن المدعوين لم يعدوا يعرفون تماما ما هو الهدف من الدعوة. أما فى مصر فيمر العيد القومى المصرى بدون أى مظهر من مظاهر الاحتفال؛ وكأنه يوم عادى، فهو بالنسبة للبعض ثورة، وبالنسبة للبعض الأخر "حركة" وبالنسبة للبعض الثالث "انقلاب". وكأننا نحاول طمس تاريخنا.
أن اخطر شئ أن يكون لشعب واحد أكثر من تاريخ، وأكثر من مفهوم للتاريخ. بل والأخطر أن يصبح للجيل الواحد أكثر من نظرة لتاريخه، وهو ما يحدث اليوم مع أبنائنا الذين انقسموا ما بين من يدرس تاريخه من وجهة النظر الأمريكية، ومنهم من يتعلمه من وجهة النظر الفرنسية أو الألمانية أو الكندية، بعدد الشهادات التى انتشرت فى مدارسنا. وحتى فى مدارسنا ومنهجنا القومى هناك محاولة لتقديم نصف الحقيقة. وبذلك سيصبح لدينا جيلا من الأبناء منقسما ما بين من يرى الناصر صلاح الدين، محررا للقدس ومنهم من يراه إرهابيا، حسب المنهج الذى يدرسه؛ ومنهم من يرى أن مصر انتصرت فى عام 1973 ولكن بدون أن يعرف من كان العدو الذى تحاربه، ومنهم من يرى إنها انهزمت؛ ومنهم من يرى أن الولايات المتحدة هى أهم دولة تحافظ على البيئة ويفخر بها، دون أن يعلم إنها الدولة الوحيدة التى لم توقع على وثيقة كيوتو للحفاظ على البيئة.
سيجد كل شخص المبرر الوجيه لتعليم أولاده فى مدارس وشهادات أجنبية، وأول تلك المبررات هو سوء التعليم وتدهور المناهج المصرية، ولكن مهما كان السبب، فليس من حقنا ان نتعامل مع تلك المسألة ببساطة وبلا مبالاة؛
ان علينا دينا للأجيال القادمة يحتم علينا أن نعلمهم تاريخهم الحقيقي من وجهة نظرنا نحن، حتى لا يوهمهم أحد بأنهم كانوا عبيدا أو خدما، وحتى لا يتفتت الشعب الواحد الى مئات القطع ويضيع منهم وطنهم، ويصبح بعد ذلك سهلا تقسيم الوطن جغرافيا، بعد أن انقسم على نفسه اجتماعيا.

31 May 2008

الوحدة هى الحل


بدت مبادرة المفاوضات غير المباشرة بين إسرائيل وسوريا بوساطة تركية غريبة فى هذا الوقت، خاصة وان إسرائيل أكدت على استعدادها للتنازل عن الجولان من اجل السلام؛ ولقد ذهب دان هالوتز قائد عسكرى اسرائيلى سابق، كان قد أدانه تقرير اسرائيلى بضرب المدنيين فى جنوب لبنان والبنية التحتية اللبنانية وترهيب المدنيين فى حرب إسرائيل ضد الجنوب اللبنانى عام 2006، بالتصريح فى الإذاعة العسكرية ما معناه أن إسرائيل ليست فى حاجة ماسة للجولان.
وذلك رغم أن الجولان بالنسبة لإسرائيل كانت دائما منطقة استراتيجية مهمة لأنها مرتفعة تستطيع منها السيطرة على الموقع وتضمن أمانها؛ كما أن خلال أربعين عام من الاحتلال الإسرائيلى للجولان شييدت المستوطنات التى بات يعيش عليها أكثر من 20 ألف مستوطن إسرائيلى، من الصعب أن يطلبوا منهم الانسحاب من الهضبة بهذه السهولة.
إذن فان الجولان لا تتعدى مجرد "جزرة" تلقى بها إسرائيل الى سوريا، بشرط أن تنفذ طلبات إسرائيل، وهى أساسا: التوقف عن دعم حماس وحزب الله وإيران، الثالوث الذى تركز إسرائيل وأمريكا الآن على القضاء عليه.
فى نفس هذا الوقت، عقد بنيامين نتانياهو، رئيس وزراء إسرائيل الأسبق، لقاءا مع الرئيس حسنى مبارك على هامش منتدى ديفوس فى شرم الشيخ، أكد فيه نتانياهو للرئيس مبارك أن لإسرائيل ومصر عدوا مشتركا وهو التطرف الاسلامى؛ وان أهداف مصر وإسرائيل واحدة فى المنطقة. فى محاولة أخرى لاستقطاب مصر فى معسكر إسرائيل ضد الإسلام والعرب وخاصة ضد حزب الله وحماس وإيران.
لا تمل إسرائيل من القيام بمناورات سياسية من اجل تقسيم الدول العربية، انها سياسة "فرق تسد"، التى تطبقها إسرائيل منذ أن نشأت قبل ستين عام وعلى مدى تاريخ الصراع العربى الإسرائيلي؛ وهى السياسة التى تهدف منها القضاء على اكبر عائق أمامها فى المنطقة وهى الوحدة العربية. لذلك فان الكرم الإسرائيلى المفاجئ للتنازل عن الجولان بعد 40 عام من التمسك بها، وراءه هدفا أكبر وهو إغلاق كل سبل الدعم التى يحصل عليها الثالوث الذى أحال الحياة اليومية الإسرائيلية الى كابوس، حتى يسهل القضاء على أعضاءه كل على حدا. والسؤال هو الى أى مدى تنوى إسرائيل تنفيذ تعهداتها بخصوص الجولان؟ أم إنها مجرد تعهدات فى الهواء مثل كل ما سبق؟
أن تاريخ إسرائيل فى الوفاء بعهودها ليس حافلا. لذلك على الدول العربية أن تستشف الدروس من الاتحاد الأوروبى الذى يدعم ويوسع مساحة وحدته السياسية بعد الاقتصادية؛ ومن أمريكا اللاتينية التى قامت مؤخرا بتوقيع اتفاقية تضع أسس وحدة 12 دولة من دول أمريكا الجنوبية "اوناسور"، فى تحدى حقيقى لكل محاولات الولايات المتحدة للتفريق بينهم سواء عن طريق الانقلابات أو تأجيج الحروب الأهلية داخلهم.
ان "الوحدة" هى بالتأكيد"، كما قال الرئيس الفنزويلى هوجو شافيز، "مستقبل شعوبنا" من اجل مواجهة الأزمات الدولية الحالية السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

22 May 2008

تغيير النظم



لم يتوان الرئيس الأمريكى جورج بوش فى كلمته فى مؤتمر ديفوس بشرم الشيخ، أن يهاجم الثلاثة: حماس وحزب الله وإيران، ملمحا الى أن الدور جاء عليهم لتنفيذ عملية التغيير بعد العراق وأفغانستان، لتحقيق صورة "الشرق الأوسط الكبير" الذى طرحته الإدارة الأمريكية قبل نحو خمس سنوات.
لذلك فليس من المستبعد أن نفسر ما حدث فى لبنان مؤخرا، بأنه محاولة جديدة فى عملية تغيير النظم السياسية فى منطقة الشرق الأوسط بعد المحاولات الفاشلة العديدة التى قامت بها أمريكا وإسرائيل خلال السنوات القليلة الماضية.
ففى الوقت الذى علت فيه الأصوات تندد بقرار حسن نصر الله رئيس حزب الله، دخول بيروت بقواته وسلاحه ردا على قرار وليد جنبلاط زعيم الدروز، بإيقاف مسئول حزب الله فى المطار وإغلاق وسائل الاتصالات التابعة لحزب الله؛ خرجت أصوات أخرى تشير الى أن ما حدث فى بيروت هو محاولة من البيت الأبيض لدفع حسن نصر الله الى ارتكاب الأخطاء، مثل المحاولة السابقة مع اغتيال قائده العسكرى عماد مغنية فى دمشق، ودفع نصر الله الى أن يتوعد إسرائيل بالحرب المفتوحة، وذلك من شأنه ان يعطى أمريكا المبرر لتأمر تدخل قوات حلف الاطلنطى فى لبنان للقضاء على حزب الله والانتقام لإسرائيل.
كانت الولايات المتحدة تأمل أن يقوم نصر الله بالاستيلاء على السلطة وقتل، بل ذبح، كبار قيادات الحكومة اللبنانية، وهى كلها أسبابا قوية لتدخل قوات الأطلنطى تحت زعم حماية الديمقراطية والحكومة اللبنانية.
ولكن خلال ثلاثة أيام انقلبت كل الموازين وبدلا من تنفيذ الدعاية التى بثها الإعلام الامريكى، والتى أكدت أن قوات حزب الله نظمت انقلابا عسكريا وأنها تسيطر على منطقة غرب بيروت، أتضح أن قوات حزب الله لم تقم إلا ببعض المعارك القصيرة ضد مصالح عائلة الحريرى فى غربى بيروت، ولكنها انسحبت بسرعة من المنطقة وسلمت مقاليد الأمور الى الجيش. وبذلك يتضح أن هدف حزب الله لم يكن الاستيلاء على السلطة. وهكذا سحب نصر الله السجاد من تحت أقدام أمريكا وإسرائيل.
نفس الشئ يحدث بشكل يومى فى غزة، حيث تعمل أمريكا وإسرائيل على تأجيج الصراعات والانقسامات بين فلسطينى غزة والضفة الغربية، أو بين فتح وحماس، لأول مرة فى تاريخ الصراع الفلسطينى، بسبب فوز حماس بالأغلبية الساحقة فى انتخابات عام 2006. وتستمر الضغوط على حماس يوما بعد يوم سواء عن طريق الحصار السياسى والاقتصادى، أو من خلال الهجمات العسكرية ضد المدنيين الفلسطينيين من اجل القضاء عليها تماما سواء داخليا أم خارجيا.
ليس هناك أى مفاجأة فى محاولات أمريكا تغيير النظم قسرا فى منطقة الشرق الأوسط، فقد قامت بالمثل فى مناطق أخرى وعصور أخرى، مثل إيران عام 1953 وجواتيمالا عام 1954، وغيرها مثل كوبا وتشيلى وبنما وصوماليا، وتطول القائمة. ولكن المفاجأة أن ينجح المستهدفون فى إفشال الخطة، والتمسك بالوحدة الداخلية. فان أهم صفات القائد الحقيقي هو توقع تحرك الخصم، ووأد خطته وأهدافه للمصلحة القومية.

5 May 2008

جريمة العصر

كل شخص يملأ خزان سيارته بالوقود، يجب أن يفكر انه بذلك يحرم شخص أخر من الطعام لمدة عام كامل. فمن المتوقع أن يتحول هذا العام مئة مليون طن من الطعام الى وقود للسيارات، فى محاولة للاستغناء عن البترول الذى وصل سعر البرميل منه الى أعلى معدلات له، واستخراج وقود حيوى لا يلوث البيئة.
وكانت النتيجة الطبيعية لمثل هذا القرار هو ارتفاع أسعار الطعام الأساسى مثل القمح والذرة والأرز، والتى تعرف بالمواد الاولوية الغذائية، الى معدلات فلكية عانى منها 37 دولة فى أنحاء العالم تمثل 89 مليون نسمة، وبالتالى توالت المظاهرات العنيفة فى كل مكان أسفرت عن وفاة العديد من المتظاهرين، مما أدى الى موجة من عدم الاستقرار كان أول ضحاياها رئيس وزراء هايتى.
ولقد تفاوت موقف المحلليين السياسيين من قرار استبدال البترول بالطعام كوقود، فيرى البعض أن تلك هى الوسيلة الوحيدة من اجل خفض التلوث المناخى مؤكدون أن الأزمة الغذائية ستستمر لفترة مؤقتة، الى أن يعود التوازن مرة أخرى بين الإنتاج والاستهلاك. وقال الرئيس البرازيلى لولا دا سيلفا أن أسعار الطعام لم ترتفع بسبب الوقود الحيوى، ولكن بسبب تزايد عدد المستهلكين للطعام فى الصين والهند وافريقيا وأمريكا اللاتينية.
ولكن من ناحية ثانية، يرى البعض الأخر أن الولايات المتحدة والبرازيل، هما اكبر مسئولين عن تلك ألازمة، التى قاموا باصطناعها حتى تستطيع أمريكا مواجهة تزايد أسعار البترول بدون أن تخفض استهلاكها من الطاقة. ويرى هذا الفريق أن الولايات المتحدة تدعم استراتيجية من شأنها أن تقود جزء كبير من البشرية الى كارثة حقيقية وصفها جان زيجلر مفوض الأمم المتحدة الخاص من اجل الحق فى الغذاء بأنها "جريمة ضد البشرية". فقد أكدت منظمة الغذاء العالمية أن إنتاج الوقود الحيوى سوف يمنع الشعوب الفقيرة فى العالم الثالث من الحصول على ما يحتاجونه من الطعام. ويؤكد هذا الفريق من المحلليين السياسيين أن النتائج الاجتماعية لهذه السياسة ستكون كارثية، فى الوقت الذى يعانى فيه 854 مليون نسمة بالفعل من الأزمات الغذائية.
ورغم أن المنظمات المالية الدولية مثل صندوق النقد والبنك الدوليين ومنظمة التجارة العالمية، اظهرا تعاطفا وحذرا العالم من مغبة تزايد أسعار الطعام الأساسى، مؤكدين أن الوضع قد يؤدى الى اندلاع حربا دامية، إلا أن فى حقيقة الأمر، تلك المنظمات هى نفسها التى ساعدت على تفاقم المشكلة. فان سياسة الاحتكار الزراعى التى يقودها الاتحاد الأوروبى فى أفريقيا، والمضاربات فى البورصة العالمية على المواد الاولوية، بالإضافة الى السياسة الاقتصادية التى تقودها الإدارة الأمريكية ومنظمة التجارة العالمية، هم السبب الرئيسى فى الأزمة؛ والحل الذى تسعى منظمة مثل الأمم المتحدة تطبيقه سيكون وسيلة أخرى لتزايد الضغوط على مئة مليون نسمة فى العالم الفقير، فقد أعلنت المنظمة الدولية أن برنامج الغذاء العالمى سوف يخفض نسبة ما يقدمه من طعام فى المدارس لأفقر الأطفال فى العالم. هؤلاء الفقراء الذين يعانون أولا من الأزمة، وثانيا من وسائل حل الأزمة التى خلقها الإنسان، والعالم الغنى. وتلك هى جريمة العصر.

4 Apr 2008

اسرائيل ضيف شرف



احتفت فرنسا بدولة إسرائيل على المستويين الثقافى والسياسى، بمناسبة مرور 60 عام على نشأة الدولة العبرية، فاستقبلت المثقفين الإسرائيليين كضيوف شرف فى معرض الكتاب، واستقبل الرئيس الفرنسى نظيره الإسرائيلى شيمون بيريز، فى أول زيارة دولة يقوم بها الى فرنسا، وكل ذلك بدون أن تأخذ فرنسا فى اعتبارها آلام الشعب الفلسطينى المحاصر فى غزة، والتهديدات بالمحرقة التى بثها نائب وزير الدفاع الإسرائيلى، والجرائم ضد البشرية والإنسانية التى يمارسها الجيش الإسرائيلى كل يوم ضد المدنيين الفلسطينيين من أطفال ونساء وعجائز.
ولقد جاء ذلك فى الوقت الذى اتخذت بريطانيا مواقف مختلفة، فقد صدر حكم ضد قضائى ضد الجنرال دورون الموج، احد كبار الضباط الإسرائيليين بالقبض عليه أن دخل بريطانيا لاتهامه بارتكاب جرائم ضد البشرية عندما أمر بتدمير 50 منزلا فى غزة عام 2002، وعندما جاء فى زيارة لبريطانيا حذره البعض من حتمية القبض عليه إذا خطت قدمه الأراضى البريطانية، فلم يغادر الطائرة التى أقلته الى لندن وعاد بها الى بلاده.
ولكن فى فرنسا ليس هناك إلا قوانين تدين كل من يعادى السامية. وليس غريبا أن يشعر بيريز كما قال فى الحديث الذى أجرته معه صحيفة لوفيجارو الفرنسية، بأن العلاقات اليوم مع فرنسا هى الأفضل منذ عام 1967. فان بيريز هو الذى كان يقوم بالمفاوضات السرية مع السلطات الفرنسية فى بداية الخمسينات من القرن الماضى للتعاون فى بناء المفاعلات النووية الإسرائيلية.
وليس غريبا أن يدين بيريز لفرنسا بالكثير بسبب دورها مع اليهود على منذ الثورة عام 1789، حينما منح نابليون الجنسية الفرنسية الى اليهود؛ وفى نهاية القرن التاسع عشر أدان المثقفون الفرنسيون وبريادة المفكر إميل زولا اتهامات بالتجسس التى وجهت الى الضابط اليهودى دريفوس؛ وفى الحرب العالمية الثانية منع الفرنسيون ترحيل اليهود الى معسكرات الاعتقال. وحتى بعد نشأة الجمهورية الخامسة، لم يخف ديجول إعجابه بالدولة اليهودية "الشجاعة" ووصفها بالصديق والحليف.
ولكن ديجول كشف السياسة الاستعمارية التى تنتهكها إسرائيل بعد 1967 وبدأ التحول فى العلاقات للمطالبة بالحق والعدالة للشعب الفلسطينى حتى مع الرئيس الاشتراكى فرانسوا ميتران ومن بعده الديجولى جاك شيراك. وخلال تلك السنوات كانت إسرائيل تدعو يهود فرنسا الى الهجرة الى إسرائيل، واتهم رئيس وزراء إسرائيل السابق آرييل شارون فرنسا بمعاداة السامية بسبب بعض الأحداث التى كانت ترتكب ضد اليهود والمنشآت اليهودية، رغم الكشف عن تلفيق تلك الأحداث.
وليس غريبا أيضا أن يعود بيريز الى فرنسا لكى يعبر عن إعجابه الكبير برئيسها الحالى ساركوزى الذى لم يتردد فى أن يؤكد دوما صداقته للدولة الإسرائيلية، ودعا الى ما أطلق عليه "الاتحاد المتوسطى" لكى يضم إليه إسرائيل، ودعا الى قيام كل تلميذ فى سن العاشرة بتبنى ذاكرة طفل يهودى قتل فى معسكرات الاعتقال النازى رغم ما أثاره الاقتراح من غضب واشمئزاز الجميع فى فرنسا.
بالنسبة لإسرائيل عادت فرنسا لتلعب دورها الكبير مع الدولة الإسرائيلية، ولكن أن كان اليهود فى الماضى هم الضحايا، فان الدولة العبرية اليوم هى الجلاد وهى المحتل، فهل تستحق نفس المعاملة؟


28 Feb 2008

الوحدة العربية مرة اخرى


مع الذكرى الخمسين لأول نواة لوحدة عربية حقيقية، والتى تأتى فى 22 فبراير الحالى، تزامن صدور كتاب "الثوار لا يموتون" للمناضل الفلسطينى جورج حبش، الذى توفى قبيل أيام قليلة من ظهور الكتاب فى الأسواق الفرنسية، كشف فيه حبش، عن رؤية مناضل وثورى فلسطينى رفض توقيع اتفاقيات السلام والعودة الى الأراضى الفلسطينية الى أن يتحقق الاستقلال الكامل.
فى الكتاب الحوار الذى يعتبر أول مذكرات تنشر لمناضل فلسطينى كبير، تحدث حبش عن الوحدة العربية وجمال عبد الناصر، الزعيم الذى حقق الحلم فى عام 1958، والذى رفض أن يفرضها بالقوة المسلحة.
يضع حبش فى رؤيته للوحدة العربية، ثلاث حقائق أساسية: الحقيقة الأولى هى أن الوحدة غيرت تغييرا جذريا صورة الساحة العربية فى ذلك الوقت، فقد كانت، كما قال حبش، حدثا غير مسبوق، أثار ردود فعل شعبية غير مسبوقة. وعندما توجه عبد الناصر لزيارة دمشق، جاء مئات الآلاف زحفا من كل مكان من سوريا ولبنان، أفترشوا الشوارع طوال الليل حتى يتمكنون من رؤية عبد الناصر لحظة إطلالته من شرفة القصر الجمهورى فى دمشق. فبالنسبة لهذه الشعوب كان عبد الناصر هو الذى جسد حلم الوحدة والصحوة العربية، مما يؤكد أن الوحدة العربية هى حلم الشعوب، وليس وسيلة يحقق من خلالها الزعماء مكاسب سياسية.
وثانى حقيقة، أكدها حبش فى الكتاب، هى أن من خلال الوحدة العربية فقط يمكن تحرير الأراضى العربية، بدءا بفلسطين. لأن فى رأيه إسرائيل تهدف الى احتلال كل المنطقة العربية؛ ولكى يتم وأد مشروعها يجب الحفاظ على الوحدة العربية.
وأخيرا يؤكد حبش على حقيقة ثالثة مهمة، وهى إنه لكى تتحقق تلك الوحدة يجب "ألا يرفع جندى عربى السلاح ضد جندى عربى أخر"، ذلك ما ألتزم به عبد الناصر حتى فى أحلك اللحظات عندما قرر بعض المسئولين السوريين الانفصال عن مصر، ورفض عبد الناصر فرض الوحدة فرضا على سوريا، واضطر الى قبول الأمر الواقع على أمل أن تقوم الشعوب يوما ما بالتحرك وتعبئة نفسها وراء الوحدة.
واليوم وبعد خمسين عام، تشهد الدول العربية انقساما غير مسبوق، فرفع جنود عرب السلاح ضد جنود عرب آخرين، وتلتهم دولة إسرائيل الأراضى الفلسطينية جزءا جزءا، وتحاول المرة تلو المرة احتلال جنوب لبنان، بينما تنظر الى سيناء من طرفى عيناها، أما الشعوب فقد دبت بينهم الفرقة والانقسامات ونجحت إسرائيل وأمريكا فى تقسيم الشعوب الى طوائف ومذاهب وأديان. فهل تعيد ذكرى الوحدة أملا شعبيا، تصور البعض انه مات؟

22 Feb 2008

عندما يتحول الاسف الى غضب



التاريخ لا يموت، بل يظل يطارد الشعوب الى أن تقوم بالتصالح معه، فتتمكن تلك الشعوب من تجاوز آلامها وتنظر الى المستقبل. ولكن بعض الشعوب لا تتصالح مع التاريخ وتظل معلقة به، تتذكره وتفرضه على الشعوب الأخرى، لكى تشعر دوما بالذنب. من أمثال هؤلاء، الشعب اليهودى الذى حذره آرون غاندى رئيس "معهد غاندى من أجل اللاعنف" بمدينة ممفيس بالولايات المتحدة، وحفيد الزعيم الهندى الكبير المهاتما غاندى، من أن تعلقه بالمحرقة النازية ورفضه لأن يسامح ويمضى قدما، سوف يحول الأسف لما حدث لليهود إبان النظام النازى الى غضب. وأشار غاندى الى أن أي قوم يرتبط بالماضى، لن يستطيع أن يتقدم الى الإمام، خاصة عندما يؤمن بأن استمراره يعتمد فقد على الأسلحة والقنابل. وقال غاندى فى المدونة أن ما يفعله اليهود هو أفضل مثل على قيام مجتمع ما على إعادة استخدام تجربة تاريخية الى حد أن تبدأ فى إثارة اشمئزاز الأصدقاء. وحذر غاندى من أن الأسف الذى تريد إسرائيل أن يشعر به العالم، قد يتحول يوما ما الى غضب.
جاء هذا التحذير من أكثر الشخصيات سلما، فى مدونة جريدة الواشنطن بوست بمناسبة الاحتفال هذا العام بمرور 60 عام على قيام دولة إسرائيل، وأيضا على مصرع زعيم اللاعنف فى العالم، المهاتما غاندى. ولكن دعوة غاندى الحفيد الى اللاعنف واجهتها حملة عنف وكراهية شديدة من قبل اللوبى الإسرائيلى فى الولايات المتحدة. واشتدت شراسة الحملة ضد رئيس معهد اللاعنف الى أن اضطر الأخير الى الاستقالة من منصبه، ثم نشر بيانا يعبر فيه عن أسفه أن أدت كلماته التى كان يهدف منها الدعوة الى التسامح، الى إثارة الألم، وقال أنه استخدم لغة تتناقض مع مبدأ اللاعنف. ولكن اللوبى الإسرائيلى الامريكى لم يقبل الاعتذار ولم يتوقف عن حملته ضد غاندى، ووجه إليه التهمة الكلاسيكية: وهى تهمة معاداة السامية.
هناك سببان لكراهية اللوبى الإسرائيلى لشخص آرون غاندى: السبب الأول هو انه وضع إصبعه على المشكلة الحقيقية لإسرائيل والمنظمات اليهودية العالمية، وهى سعيها المستمر فى التذكير بالماضي حتى يظل العالم يشعر بالذنب تجاه ما فعله النازيون ضد اليهود؛ وحتى تتمكن إسرائيل من فرض رغباتها وسياساتها فى التوسع واستمرار احتلال أراضى الشعب الفلسطينى، على العالم، على اعتبار إنها الضحية.
أما السبب الثانى، فهو يمتد الى أكثر من ستين عام، عندما حاولت المنظمات اليهودية العالمية، قبيل إعلان قيام الدولة اليهودية، الحصول من الزعيم الهندى المهاتما غاندى على تأييده للحملة التى كانوا يقومون بها والتى تدعو الى احتلال ارض العرب وتحويل فلسطين الى وطن قومى لليهود. ولكن غاندى رفض تأييد المشروع، واعتبره ظالم، وأصدر بيانات تؤكد تأييده لحركة المقاومة التى بدأها الشعب الفلسطينى والتى وصفها الإسرائيليون والأمريكيون على إنها "إرهاب".
إن التاريخ لا يموت، فقد عادت روح المهاتما غاندى تطارد إسرائيل من خلال غاندى الحفيد. ففى عام 2004 زار غاندى تل أبيب حيث التقى بالعديد من النواب البرلمانيين الذين برروا بناء الجدار العازل وتصعيد ترسانتهم العسكرية بأنهم يعملون على حماية أنفسهم. فرد غاندى عليهم قائلا: "أتعملون على بناء مستشفى للأمراض العقلية فيها العديد من المرضى، وتتصورون أنهم سوف تعيشون فيها فى أمان؟ أن بقيامكم ببناء ترسانة عسكرية ضخمة، واستخدام الأسلوب الذى تتعاملون به مع جيرانكم، سوف تخلقون مستشفى للأمراض العقلية". ونصحهم قائلا: "أليس من الأفضل أن تتصالحوا مع جيرانكم وهؤلاء الذين يكرهونكم؟ ألا تستطيعون بناء علاقات طيبة مع جيرانكم؟" ولكن سياسات إسرائيل لن تتغير، وسيظل اللوبى الإسرائيلى فى أمريكا يطارد كل من ينتقد الدولة الإسرائيلية. ولكن الخوف أن تتحقق تحذيرات غاندى ويتحول الأسف، يوما ما، الى غضب.


11 Feb 2008

عقيدة الصدمة



أصبحت "الديمقراطية" و"السوق الحرة" كلمتا السر فى أى محاولة للتدخل فى شئون دول العالم الثالث، وبهما يستطيع الحاكم الغربى إقناع الرأى العام لديه بأن حكوماته تتدخل فى العالم انطلاقا من قيم حضارية سامية. ولكن فى كتاب جديد صدر للكاتبة الصحفية الكندية ناومى كلاين، يتضح لنا أن السوق الحر لم يولد من الديمقراطية بل عبر صدمات كهربائية.
فقد اوضحت الكاتبة الصحفية ناومى كلاين فى كتابها "عقيدة الصدمة.. صعود رأس المال الكارثة" أن أفكار السوق الحر انتشرت خلال الـ 35 عاما الماضية، مع كل كارثة طبيعية أو مالية أو اقتصادية تشهدها منطقة ما فى العالم، خاصة الفقيرة منهم؛ مثلما حدث فى تايلاند غداة التسونامى الذى شهدته فى عام 2004 وفى ولاية نيو اورليانز الأمريكية غداة الإعصار الذى حول الولاية الى مستنقع، أو حتى غداة هجمات 11 سبتمبر فى نيويورك وواشنطن. وأحيانا ينتشر رأس المال بقوة السلاح كما حدث فى تشيلى فى عام 1973، وفى العراق الآن، فى محاولة لإرهاب الرأى العام.
نحن نعلم لماذا يحدث ذلك، ولكننا لا نعرف كيف؟ وتشرح كلاين أن التدخل يحدث عبر استغلال الفترة التى تعقب الكارثة مباشرة حين يكون المواطنون فى حالة صدمة وحزن وخوف، وحيث تنقلب كل القيم والظروف فيفقدون البوصلة والاتجاه، ويصبح الشعب فى وضع لا يستطيع أن يكون له رد فعل. فى تلك الحالة يصبح من السهل تغيير قواعد اللعبة، ويجد المسئولون انصياعا من المواطنين لتغيير الواقع.
واكبر مثال على حقيقة تلك الفكرة هو ما يحدث فى العراق اليوم. فمن وجهة نظر كلاين أن الفوضى العارمة التى تشهدها العراق، والدور الذى تلعبه شركات المقاولات المدنية خاصة شركة هاليبرتون، ثم بفضيحة سجن أبو غرايب، وزيادة القوات الأمريكية، والأنفاق الهائل الذى تشهده البلاد دون عائد أو تحقيق مشاريع حقيقية، كل ذلك يعمل فى اتجاه واحد: الربح السريع والكبير.
وتشرح الكاتبة قائلة: "يقوم المقاولون الكبار بفتح مكاتب لهم فى المنطقة الخضراء (التى يقيم فى داخلها السفارة الأمريكية وكل الأجانب الدبلوماسيين ومحاطة بقوات امنية قوية) أو حتى فى مدينة الكويت أو عمان، ثم تقوم الشركة بإعطاء توكيل لشركات كويتية التى من جانبها تقوم بتوكيل شركات سعودية التى تقوم أخيرا بتوكيل شركات عراقية من كردستان، للقيام بالمهام. ولكن الشركة العراقية لن تحصل إلا على الفتات من العقود، بينما الشركات الأخرى خاصة الشركة الاولى، شركة هاليبرتون، هى التى ستجنى كل الأرباح، والتى سوف يحصل على نصيبه منها ديك تشينى نائب الرئيس الامريكى بسبب صلته الوثيقة بالشركة. بينما تظل العراق دولة فقيرة تقع تحت طائلة الديون.
ولكن كيف يمكن للشعوب أن تتحصن ضد تلك الصدمات؟ تقول كلاين أن من المتوقع دائما أن تزول أثار الصدمة بعد فترة من الوقت، ولذلك فان على الأفراد أو الشعوب أن تدرك ما يحدث لها خلال فترة الصدمة، وان تبقى يقظة لمقاومة ما يحدث.
ولنتذكر على سبيل المثال كيف تعاملت الصين مع زلزال مدمر أصابها منذ سنوات، وادى الى خسائر بشرية ومادية هائلة، فى تلك الفترة تقدمت كل الدول الغربية تعرض مساعداتها المادية، ولكن السلطات الصينية أعلنت للشعب إنها لن تقبل أية مساعدات خارجية وان الشعب سوف يعتمد كليا على نفسه للخروج من الأزمة. ان موقف الصين فى ذلك الحين ليس فكرا منفصلا أو وقتيا، ولكنه منهجا سارت عليه عبر تاريخها المعاصر، ولذلك أصبحت الصين اليوم من بين الدول الفقيرة سابقا، التى من المتوقع أن تصبح ثالث اكبر قوة اقتصادية وسياسية فى العام الجديد.

التسونامى الفلسطينى


فى لحظات انفجر الوضع فى غزة، وكسر الفلسطينيون الحصار الذى فرضته إسرائيل على القطاع منذ أشهر، وتدفقوا بالآلاف عبر الحدود الى مصر، مثل التسونامى، يبحثون عن لقمة العيش وقطرة المياه، وذلك فى رسالة واضحة موجهة الى الحكومة الإسرائيلية، تشير الى أكثر من نقطة:
أولا: أن سياسة العقاب الجماعى وعزل الشعب الفلسطينى فى غزة لن يدفع الغزاويين الى الرضوخ لمتطلبات الحكومة الإسرائيلية، ولن يؤدى إلا الى الانفجار. فقد قامت إسرائيل ومنذ الصيف الماضى، عندما أعلنت القطاع "كيان عدائى"، بإغلاق الحدود مع غزة، ومنعت وصول الإمدادات الغذائية والأدوية، وفى 18 يناير الماضى ساد الظلام القطاع بعد انقطاع الكهرباء عنه، ورضت حصارا، وصفته كارين كونينج ابوزايد، المفوضة العامة لمنظمة غوث اللاجئين الفلسطينيين فى غزة فى مقال نشرته صحيفة الجارديان البريطانية بـ "الحصار الشرس"، الذى أدى الى أن يصبح القطاع أول منطقة فى التاريخ تتحول عن قصد الى حالة من "الانهيار الخسيس".
وثانيا: أن الشعب الفلسطينى قادر على التحكم فى أقداره وكسر الحصار رغم كل الاستحكامات التى وضعتها إسرائيل بمساعدة أمريكا. كما أوضح الشعب الفلسطينى فى غزة للعالم أجمع أنه قادر على فتح الحدود فى أى وقت يريد.
وثالثا: برغم أن المجتمع الدولى لم يدين إسرائيل بسبب سياستها التعسفية ضد مليون ونصف مليون نسمة من الفلسطينيين المقيمين فى غزة، وبرغم أن الحصار تم بمعرفته وموافقته، بل وتشجيعه، إلا انه لم يدين أيضا التدفق الفلسطينى الى اراضى سيناء بحثا عن الطعام والشراب والدواء والاحتياجات الأساسية، وذلك لأن المجتمع الدولى أدرك فى قرارة نفسه أن إسرائيل قد حولت غزة الى أكبر معتقل مفتوح فى العالم، وأن سياستها هى فى النهاية تعتبر جريمة إنسانية غير مسبوقة، تستهدف الضغط على أبناء غزة لتغيير زعاماته واختيار حكومة تكون أكثر ليونة لمتطلبات إسرائيل.
قد يكون ما حدث فى رفح المصرية هو الذى دفع وزير الدفاع الإسرائيلى الى التصريح بان ذلك سوف يمهد الطريق أمام إسرائيل لتتخلى نهائيا عن مسئولية القطاع وتحويله الى مصر. ولكن يرى بعض المحللين فى الغرب أن تلك التصريحات ليست جادة، لان ما وصف بالـ "الجنى" الفلسطينى الذى خرج من القمقم، لن يعود مرة أخرى الى القنينة، كما أن إسرائيل ستظل هى السلطة المحتلة المسئولة بالكامل عن القطاع وعن كل مداخله البحرية والجوية والارضية، والوحيدة التى ستظل تقود عمليات عسكرية فى داخله فى الوقت الذى يحلو لها.
لذلك فان المحللين السياسيين الغربيين ينصحون إسرائيل والسلطة الفلسطينية بضرورة إقامة حوار مع حماس، وعقد اتفاق معها، لان الاستمرار فى رفض الحوار مع الحكومة المنتخبة لن يؤدى الى شئ، والحصار لم يضعف حماس أو يسقطها، كما كان الهدف.

8 Jan 2008

2008 عام الحصاد


يعتبر عام 2007 عاما محوريا، شهد نهايات وبدايات على مختلف المستويات من شخصيات الى مؤسسات، وبذر الحبوب التى سوف يحصد نتاجها العام الجديد سواء كانت جيدة أم عفنة.
فعلى المستوى الاقتصادى سيشهد العام الجديد نتاج التدهور السريع للدولار وارتفاع أسعار البترول، والذى لن يكون نتاج جيد سواء بالنسبة للولايات المتحدة التى سوف يعانى اقتصادها من تدهور قيمة الدولار أو فى أوروبا حيث سيعانى الاقتصاد من ارتفاع قيمة اليورو بالنسبة للدولار مما يجعل منتجاتها أغلى كثيرا فى السوق العالمى. فهل سيتمكن خبراء الاقتصاد استخدام التقنيات الحديثة والقدرات التكنولوجية العالية التى وصل إليها العالم لمنع الانهيار الكامل؟ أم أن الانهيار الاقتصادي سيتحول الى انهيار سياسى؟
على المستوى السياسى، سيحصد الحزب الجمهورى الامريكى نتاج أعمال رئيسه جورج بوش فى الخارج وفى الداخل، ومن المتوقع أن تنتهى فترة حكم المحافظين الجدد لصالح الحزب الديمقراطى. وفى نفس الوقت سوف يحصد الحزب الديمقراطى البذور التى وضعها الرئيس السابق بيل كلينتون، والذى يعتبر أفضل رئيس شهدته أمريكا. هذه الفترة التى أعطت أمريكا اقتصادا قويا سيجنيها الحزب الديمقراطى سواء من خلال اختيار زوجته هيلارى مرشحة الحزب فى الانتخابات الرئاسية، أو ناخب أخر.
كما سيجنى العالم نتاج الحرب ضد الإرهاب التى شنها بوش، والورطة التى وضع نفسه فيها فى العراق وأفغانستان، وسيستمر مسلسل الإرهاب والدماء ويشتد فى باكستان ولبنان وفلسطين، فهل ستكون إيران أيضا من الدول التى سيشهد عام 2008 بداية الحرب ضدها بعد أن ظلت واشنطن تصعد النبرة ضدها فى العام الماضى؟
على مستوى الدول، سيشهد عام 2008 صعود دولتين كبريتين فى ثوب جديد. الدولة الاولى هى الصين التى ستكون فى عين العالم مع استضافتها الألعاب الاولمبية، ومعها ستشهد ازدهارا اقتصاديا لم تشهده من قبل ولن تشهده أى من دول الغرب فى نفس الوقت، وبعد أن كانت الصين واحدة من أفقر دول العالم، أصبحت ثالث قوة اقتصادية. ومع الاقتصاد يتوقع الخبراء أن تنطلق الصين كقوة سياسية وعسكرية عظمى على الساحة الدولية، لتحصد بذلك سنوات من العمل الدءوب ومن الصبر، والذى بدأ يظهر بشائره فى العام الماضى عندما باتت المنتجات الصينية من أكثر المنتجات مبيعة فى العالم الغربى، وبدأ رجال الأعمال الصينيون يغزون الغرب.
أما الدولة الثانية فهى فرنسا، التى قطع رئيسها الجديد نيكولا ساركوزى كل الخيوط مع الماضى منذ انتخابه فى مايو الماضى، وقرر أن ينطلق بالبلاد فى صحوة مختلفة، ولكن التساؤل هو هل ساركوزى الذى بذر حبوب التغيير فى العام الماضى سيحصد نتائج ايجابية؟ هل لديه أفكارا حقيقية؟ أم إنها مجرد أفكارا قديمة قام بتغليفها بثوب جديد وأسلوب حديث؟ أن كان ساركوزى يحمل أفكارا حقيقية فسوف ينهض بلا شك بالبلاد، أم أن كان كل ما يملك خواء، فان الانهيار سيكون بحجم الفرقعات الإعلامية التى يعشقها.
أن عصر القوة العالمية الأحادية انتهى بكل تأكيد، فمع الصين وفرنسا اللتان سيكون لهما دورا أكيدا فى العام الجديد، فان روسيا لن تتخلف عن الركب رغم انتهاء فترة رئاسة بوتين، بل سوف تحصد كل جهود بوتين فى السنوات الماضية، والتى أدت الى أن تشتد قوتها فى محاولة لاستعادة مكانتها السابقة.
أننا لا نحصد إلا ما بذرناه من حبوب، وما زرعناه.