2 Dec 2007

كتاب قديم جديد: اسرائيل والقنبلة النووية

عاد الحديث مرة اخرى عن القنبلة النووية الاسرائيلية، ولماذا تصر اسرائيل على عدم التأكيد صراحة على امتلاكها اياها، ولماذا لا تنفى؟ ولقد كان الكاتب والباحث الاسرائيلى افنيرى كوهين قد نشر فى عام 1998 كتابا خطيرا عن حقيقة القنبلة النووية الاسرائيلية منذ ان كانت فكرة لدى ثلاثة من زعماء اسرائيل فى نهاية الاربعينات وبداية الخمسينات، الى اليوم. وكيف ساعدت فرنسا اسرائيل فى بناء مفاعلها النووى ولماذا رفضت الولايات المتحدة فى البداية ان يكون لاسرائيل قنبلة نووية، ولماذا عادت واضطرت الى دعم اسرائيل.
ولقد نشر الاهرام عرضا من ثلاثة اجزاء للكتاب فى يناير عام 1999، وأردت ان اعيد نشره فى المدونة حتى يعرف الجيل الجديد حقيقة ما حدث وما يحدث ولماذا قررت اسرائيل ان تبقى على الغموض، فهى لا تؤكد ولا تنفى، من اجل تحقيق أغراضها. وحتى لا يفرض عليها احترام المواثيق الدولية التى يريد المجتمع الدولى فرضه على ايران والدول الاخرى. وفيما يلى العرض الذى نشر فى جريدة الاهرام فى ذلك الوقت


كتاب جديد‏:‏ اسرائيل والقنبله‏(1)‏للكاتب والباحث‏:‏ افنير كوهين
قصه البرنامج النووي الاسرائيلي‏...‏من السريه الي الانكار الي الغموض ثم اللاشفافيه

هل تملك اسرائيل القنبله النوويه؟ لا يشك احد في تلك الحقيقه‏,‏ رغم ان اسرائيل لم تعلن ابدا رسميا عن امتلاكها السلاح النووي‏,‏ ولكنها ايضا لم تنف ابدا تلك المعلومات‏,‏ بل ابقت عليها‏'‏ غامضه‏',‏ او بتعبير اخر‏'‏ لا شفافيه‏'.‏ فالغموض‏,‏ يعني الشك وعدم اليقين‏,‏ ولكن‏'‏ اللاشفافيه النوويه‏'‏ كما يقول الباحث الاسرائيلي افنير كوهين‏,‏ هي تلك الحاله عندما لا تعترف دوله بقدراتها النوويه ولكنها في نفس الوقت تظل مساله معروفه بشكل يجعلها توثر في رويه وسياسات الدول الاخري‏.‏ وبهذا المعني تصبح اسرائيل اقوي مثال علي هذا النوع من‏'‏ اللاشفافيه النوويه‏'.‏منذ نهايه الاربعينات وضعت اسرائيل والموسسه الامنيه العسكريه فيها جدارا من الرقابه علي كل المعلومات حول القدرات النوويه الاسرائيليه‏,‏ ومنعت الصحفيين او الباحثين المستقلين الاسرائيليين والاجانب من الوصول او نشر اي معلومات عنها‏.‏ الي ان سمح القانون بفتح الارشيف والملفات السريه الرسميه الخاصه بتاريخ اسرائيل حتي عام‏1966.‏ ومع فتح الارشيف التاريخي تكشف فجاه للمورخين‏'‏ الجدد‏'‏ عالم اخر لم يعرفوا عنه شيئا من قبل‏,‏ من ضمن تلك المعلومات‏,‏ مولد فكره امتلاك السلاح النووي الاسرائيلي‏,‏ والتي بدات منذ عام‏1947,‏ والاعداد لبناء المفاعل الشهير المعروف باسم ديمونه‏.‏من بين الباحثين الاسرائيليين الذين اهتموا دائما بهذا السر الكبير افنير كوهين‏,‏ الاستاذ في جامعات اسرائيل والولايات المتحده‏,‏ وصاحب العديد من الكتب حول القوه النوويه في الشرق الاوسط‏.‏ فكان فتح الارشيف بالنسبه له الفرصه الذهبيه لكي ينقب عن اصول هذا الموضوع‏,‏ ويجد الكثير من الحقائق التي ظلت سرا‏.‏ فقرر ان ينشرها في الولايات المتحده بعيدا عن الرقابه الاسرائيليه التي ارسلت له رسائل مباشره وغير مباشره تهدده بان الاستمرار في العمل في الكتاب الذي نشر بعنوان‏:'‏ اسرائيل والقنبله‏'‏ قد يعرضه لمشاكل كثيره‏,‏ وذلك رغم انه لا يفشي اسرارا‏,‏ بل يبحث في معلومات اصبحت متاحه بعد مرور الفتره القانونيه علي اخفائها‏.‏ولكن كوهين قرر ان ينفي نفسه في الولايات المتحده والا يعود الي اسرائيل حتي يستطيع ان يستكمل ابحاثه وينشر كتابه الذي يضم المعلومات التي حصل عليها من الارشيف الرسمي الاسرائيلي في القدس بعد ان فتحت كل ملفات السياسه الخارجيه الاسرائيليه حتي عام‏1966,‏ كما كشفت مفكره ورسائل بن جوريون الخاصه والسريه في مركز ابحاث بن جوريون في سديه بوكير‏,‏ والمعلومات الخاصه عن علماء الطبيعه الاسرائيليين في ارشيف معهد فايتسمان في ريهوفوت‏,‏ وارشيف ياد حاييم فايتسمان‏.‏ كما استخدم ارشيف مكتبه ليندون جونسون في اوستن‏,‏ بولايه تكساس الامريكيه‏,‏ ومكتبه دوايت ايزنهاور في ابيلين بولايه كانساس والارشيف القومي الامريكي في ميريلاند‏.‏ كما استخدم الارشيف القومي في النرويج‏.‏ وهي كلها معلومات تنشر لاول مره‏.‏ كما اضاف الي معلومات الارشيف‏,‏ المعلومات المتاحه من المذكرات الخاصه ومئات الحوارات التي اجراها مع المسئولين الذين كان لهم دورا في هذا الموضوع‏,‏ وقصاصات الصحف طوال تلك الفتره‏.‏يقول كوهين عن كتابه انه التاريخ السياسي لبرنامج اسرائيل النووي خلال سنوات تكوينه‏,‏ والاسباب التي من اجلها ابقت عليه‏'‏ لاشفاف‏'.‏ فقد اختار افنير كوهين التركيز علي البعد السياسي لهذا التاريخ‏,‏ واعاده بناء السياسات الداخليه والدوليه‏,‏ وفهم الثقافه التي جعلت من اسرائيل قوه نوويه لاشفافه‏.‏ رغم انه يوكد انه تاريخ غير كامل‏,‏ ولم يدل فيه باخر زاده‏.‏هذا التاريخ اخذ الكاتب علي مدي عشرين عاما‏,‏ من‏1950‏ الي‏1970,‏ حيث تحققت قطعه قطعه رويه ديفيد بن جوريون اول رئيس وزراء لدوله اسرائيل‏,‏ لجعلها قوه نوويه علي مدي اربع مراحل‏,‏ اذ انتقلت من السريه الي الانكار‏,‏ ومنه الي الغموض لتنتهي الي اللاشفافيه‏.‏ ومن خلال اربع مصادر‏:‏ داخليه ودوليه واقليميه وتكنيكيه‏.‏ وتاثير تلك السياسه علي الدول الاخري‏,‏ مثل فرنسا التي ساهمت في بناء هذه القدرات‏,‏ والولايات المتحده التي انتقلت من التخوف منه الي المجابهه مع اسرائيل الي قبول الامر الواقع‏,‏ واخيرا الدول العربيه التي كانت الهدف الاساسي الذي من اجله قامت اسرائيل ببناء قدراتها النوويه حسب رويه كوهين‏,‏ كما كانت السبب الاساسي في الابقاء عليها سرا‏.‏ثلاثه رجال ودولهولدت فكره اقامه قوه نوويه في اسرائيل قبل اقامه الدوله نفسها‏.‏ فقد بدات الفكره تراود ديفيد بن جوريون‏,‏ اول رئيس وزراء لاسرائيل‏,‏ منذ عام‏1947,‏ ولكنها لم تبدا في التحقق الا في منتصف الخمسينات عندما تجمعت العناصر التي حققت لها الفرصه لتظهر وفرض السريه التي احاطت بها‏.‏ وهي ثلاثه رجال‏:‏ ديفيد بن جوريون‏,‏ اول رئيس لوزراء اسرائيل‏,‏ الذي تصور ان القوه النوويه ستحل للدوله الجديده المشكله الامنيه‏,‏ وارنست ديفيد برجمان‏,‏ العالم الكيميائي الذي علم بن جوريون كل شئ عن المسائل النوويه‏,‏ وشيمون بيريز‏,‏ الذي استغل الفرصه الدوليه لتحقيق الحلم‏.‏ والدوله المتمثله في فرنسا التي اقامت علاقات خاصه مع اسرائيل في ذلك الوقت‏.‏منذ الاربعينات‏,‏ كان لبن جوريون‏,‏ رئيس الوكاله اليهوديه في ذلك الوقت‏,‏ اهتمام خاص بالطاقه النوويه‏,‏ فكان يقول ويكتب للناشئين من جنود القوات والدفاع الاسرائيليه‏:'‏ اننا نعيش في عصر الثورات العلميه‏,‏ حيث تتكشف الذره ومكوناتها المعجزه والقوه الهائله المختبئه بداخلها‏.'‏ من هنا كان اصرار بن جوريون من البدايه علي ان توسس اسرائيل امنها علي العلم والتكنولوجيا‏.‏ فكان من بن جوريون منذ منتصف عام‏1947,‏ ان وضع الابحاث العلميه الدفاعيه‏,‏ الاولويه لاسرائيل‏.‏ فاقام قسما علميا في مقر الهاجاناه‏,‏ المنظمه الدفاعيه اليهوديه شبه الرسميه‏,‏ وخصص لها ميزانيه سنويه تصل الي عشره الاف جنيه‏,‏ فكانت الميزانيه اكبر كثيرا من احتياجات القسم الي حد ان اعضاءه لم يعرفوا في البدايه كيف يتعاملون معها‏.‏ وبعد اعلان الدوله الاسرائيليه وتحول الهاجاناه الي قوات الدفاع الاسرائيليه‏,‏ اعترفت بالقسم العلمي كوحده اساسيه في قسم العمليات‏.‏ فكان مسئولا عن التنسيق وتكليف الكيان الجديد الذي يدعو هائيل مادا‏(‏ وهو كيان علمي عرف بالحروف الاولي‏HEMED).‏يقول افنير كوهين في كتابه‏'‏ اسرائيل والقنبله‏'‏ ان بن جوريون لم يشعر باي وخز للضمير ازاء احتياج اسرائيل لاسلحه الدمار الشامل‏.‏ ففي ابريل عام‏1948‏ كتب في رساله الي احد عملائه في اوروبا يطلب منه تجنيد علماء اوروبيين يهود يستطيعون‏'‏ اما زياده القدره علي القتل الجماعي‏,‏ او العلاج الجماعي‏,‏ فالاثنان مهمان‏'.‏ في ذلك الوقت كان هذا يعني اسلحه كيماويه وبيولوجيه‏.‏وفي عام‏1949,‏ وبعد الحرب العربيه الاسرائيليه الاولي‏,‏ وجد بن جوريون المبرر لتطوير تلك القدرات‏,‏ وهو الدفاع عن الدوله‏'‏ الصغيره‏'‏ التي يهددها تحالف جيوش الدول العربيه حولها‏.‏ اما الوسيله فتوصل اليها في منتصف الخمسينات‏,‏ عن طريق اقامه تحالف مع قوه او اكثر غربيه‏,‏ تستطيع ان تضمن وحده الاراضي الاسرائيليه‏.‏ كان الاختيار الاول لبن جوريون في ذلك الوقت هو عقد معاهده عسكريه مع الولايات المتحده‏,‏ ولكن منذ منتصف الخمسينات بدات الشكوك تراوده حول مصداقيه الفكره‏,‏ فقد كانت واشنطن في ذلك الحين برئاسه ايزنهاور تعمل علي وضع مشروع استخدام سلمي للطاقه النوويه في مشروع‏'‏ الذره من اجل السلام‏'‏ وادرك بن جوريون ان ذلك ليس في مصلحه اسرائيل‏.‏ كما عمل علي جمع العلماء اليهود في العالم‏,‏ اذ كتب بن جوريون قائلا‏:'‏ ما فعله اينشتاين واوبنهايمر وتيلر‏,‏ وهم ثلاثتهم من اليهود‏,‏ للولايات المتحده‏,‏ يمكن ان يفعله العلماء في اسرائيل لشعبهم‏'.‏فكان ذلك دور الشخصيه الثانيه التي ساهمت في بناء القوه النوويه الاسرائيليه ارنست ديفيد ببرجمان‏,‏ الالماني اليهودي‏,‏ الشخصيه العلميه التنظيميه التي من مهامها وضع اهداف‏,‏ وتكوين استراتيجيات‏,‏ وتكليف مهام‏,‏ وتخصيص ميزانيه‏,‏ وتعيين علماء ومديرين‏,‏ ومراقبه العمليات‏.‏ وهو الفرق ما بين رويه زعيم سياسي‏,‏ ووضع مشروع اسلحه نوويه ذي مصداقيه‏.‏في يونيه عام‏1952,‏ تم انشاء لجنه الطاقه النوويه الاسرائيليه في صمت‏,‏ وتولي رئاستها برجمان وظل في منصبه حتي استقالته في عام‏1966‏ بعد تولي ليفي اشكول رئاسه الوزاره خلفا لبن جوريون‏,‏ فلم يعد يتمتع بالثقه والسلطات كما كان في الماضي‏.‏اذا كان برجمان هو الذي اقنع بن جوريون ان اسرائيل تستطيع ان تمتلك اسلحه نوويه‏,‏ فان شيمون بيريز الذي كان في الخمسينات يشغل منصب مدير عام في وزاره الدفاع الاسرائيليه‏,‏ اعلي منصب مدني في الوزاره‏,‏ هو الذي اقنعه في عام‏1956‏ ان الوقت ازف لكي يبداوا في المشروع‏.‏ ومن البدايه كلف بن جوريون بيريز بالعمل علي تنفيذ مشروع انشاء القدره النوويه الاسرائيليه‏.‏ وكانت فكرته الاساسيه ان اسرائيل لن تستطيع بناء مفاعلها النووي وحدها‏,‏ واتجه الي بناء نوع من الشراكه مع فرنسا لامداد مفاعل اسرائيل والتسهيلات الاخري‏,‏ بما تحتاجه‏.‏ اذ قال في مذكراته‏:'‏ اصريت ان ما نحتاجه ليس اختراع شيئ اخترعه الاخرون‏,‏ التميز كان ضروريا‏,‏ ولكنه لم يكن هدفا في حد ذاته‏'.‏ فطالما ان الاخرين اخترعوا شيئا‏,‏ يمكننا شراوه منهم‏.‏في منتصف الخمسينات تجمعت كل العوامل التي جعلت من المفاعل النووي الاسرائيلي كيانا قابلا للتنفيذ‏,‏ ففي عام‏1955,‏ كان برنامج ايزنهاور الرئيس الامريكي‏,'‏ الذره من اجل السلام‏'‏ السبب في عقد موتمر جنيف حول الاستخدامات السلميه للطاقه الذريه والذي كان السبب في ان اصبحت التكنولوجيا النوويه الامريكيه التي ظلت سرا لنحو عشر سنوات‏,‏ متاحه للاطلاع عليها بعد ان كانت مقتصره علي الدول الكبري فقط‏,‏ خاصه الولايات المتحده وكندا وبريطانيا‏.‏ وفي نفس الوقت‏,‏ قامت مصر من ناحيه بصفقه اسلحه مع تشيكوسلوفاكيا في عام‏1955‏ وفي فرنسا كانت الاوضاع تتدهور في مستعمراتها في شمالي افريقيا وكانت فرنسا تري في جمال عبد الناصر القوه المحركه للثوره الجزائريه‏,‏ التي باتت خارج السيطره‏.‏ فكانت فرنسا تري ان اسرائيل قويه يمكن ان تهدد ناصر‏,‏ فكان ذلك ما دفعها الي قبول التعاون مع اسرائيل‏.‏ كل ذلك جعل المشروع النووي الاسرائيلي علي استعداد لان يولد‏.‏في ذلك الوقت كان الجدل في اسرائيل يدور حول حجم المشروع النووي الذي تنوي اسرائيل اقامته‏,‏ وبالاخص الي اي حد سيدفع الاهتمام باستخدام الطاقه النوويه في المجال العسكري الي توجيه الجهود‏.‏ هذا الجدل كان يدور وراء الابواب المغلقه‏,‏ بين صناع القرار السياسي والعلماء‏,‏ ووراء تلك الابواب كان يتم وضع نموذج للسريه واللاشفافيه التي ستميز البرنامج النووي الاسرائيلي لسنوات طويله‏.‏غداه صفقه الاسلحه المصريه مع تشيكوسولوفاكيا‏,‏ اصبحت فرنسا اهم ممول سلاح لاسرائيل وفي ربيع عام‏1956‏ توصل بيريز الي تفاهم شامل سري مع حكومه جي موليه‏,‏ تم توثيقه في موتمر سري في فيرمار يوم‏22‏ يونيه عام‏1956‏ بين كبار ممثلي العسكريه في الدولتين‏.‏ واستطاع بيريز بمساعده السفير الفرنسي في ذلك الحين بيير جيلبير‏,‏ تكوين ائتلاف موال لاسرائيل‏,‏ تختلط فيه مشاعر اشتراكيه مواليه لليهود‏,‏ ومصالح قوميه داخل الصناعات النوويه والفضائيه‏.‏ كما استغل بيريز الضعف في كيان الجمهوريه الرابعه الفرنسيه‏,‏ وتفتت موسسات فرنسا المسئوله عن اتخاذ القرارات‏,‏ واقام علاقات وثيقه مع وزراء فرنسا للدفاع والداخليه‏(‏ المخابرات‏)‏ ليتجاوز السياسات العربيه التي كانت وزاره الخارجيه تنتهجها‏.‏كما استغل بيريز فرصه انقسام السياسيين الفرنسيين بين حصول فرنسا ام لا علي طاقه نوويه‏.‏ كان المعسكر الموالي للاسلحه النوويه يعمل حثيثا وبقوه علي الموافقه علي بناء القوه النوويه الفرنسيه‏,‏ فكان سهلا علي بيريز تقديم مشروعه النووي واصبح التفاهم عميقا وسريا بين بيريز وموريس بورج مونوري وزير الدفاع الفرنسي في ذلك الحين‏.‏ ومنذ بدايه عام‏1956‏ كانت استراتيجيه بيريز تتركز في اقناع فرنسا بان تكون ممول اسرائيل النووي‏,‏ ومنح اسرائيل ما يسمح لها ببدء برنامج يهدف الي انتاج متفجرات نوويه‏.‏وامام تردد فرنسا‏,‏ التي كانت تعمل علي بناء برنامجها النووي المدني والعسكري في نفس الوقت‏,‏ قدم لهم بيريز شيئا ذا قيمه في المقابل‏,‏ اقترح بيريز علي فرنسا ان يمدهم بالمعلومات السريه حول العلاقات بين مصر والثوار الجزائريين‏.‏ لذلك قام بن جوريون بالسماح بتكوين علاقات خاصه بين اجهزه المخابرات في البلدين‏.‏ ولكن في‏26‏ يوليو عام‏1956‏ تغيرت الاوضاع‏.‏تحالف عسكري مقابل المساعده النوويهفي ذلك اليوم اعلن الرئيس عبد الناصر تاميم قناه السويس‏.‏ هذا التحدي لحكومه جي موليه سمح لبيريز بدفع التحالف الفرنسي الاسرائيلي خطوه اخري الي الامام‏.‏ في اليوم التالي جاءت الفرصه الي بيريز سريعا‏,‏ فقد طلب منه وزير الدفاع في اجتماع سري بينهما‏,‏ اذا كانت اسرائيل علي استعداد للدخول في عمليه عسكريه ثلاثيه حيث دور اسرائيل سيكون عبور سيناء والوصول الي القناه‏.‏ وقد وافق بيريز علي الفور‏.‏ وعندما انتقده مساعده علي اتخاذ قرار مثل ذلك وحده بدون الرجوع الي الحكومه الاسرائيليه‏,‏ اجاب بيريز‏:'‏ من الافضل ان اجازف براسي‏,‏ عن ان اجازف بان افقد فرصه لا تتكرر‏'.‏وقد جاءت النتيجه اسرع مما توقع‏,‏ ففي اغسطس من نفس العام وصل شالهيفيت فراير‏,‏ اول خبير اتصال علمي‏,‏ الي باريس‏,‏ وفي سبتمبر توصل الجانب الاسرائيلي والجانب الفرنسي الي اتفاق من حيث المبدا ببيع اسرائيل مفاعلا بحثيا صغيرا‏,‏ مثل المفاعل ايل‏-3‏ في ساكلي‏.‏وفي مذكراته اشار بيريز الي ان المفاعل النووي تمت التفاوض بشانه في الموتمر السري الذي عقد في سيفر بين فرنسا واسرائيل وبريطانيا‏,‏ في اكتوبر من عام‏1956,‏ في ذلك الاجتماع تم الموافقه علي التعاون معا‏.‏ وقبل التوقيع النهائي طلب بيريز ان يجتمع مع كل من موليه وبورج مونوري وحدهما‏,‏ ويقول بيريز في هذا الاجتماع تمت الموافقه علي بناء مفاعل نووي في ديمونه جنوبي اسرائيل‏,‏ وامداد اسرائيل باليورانيوم الطبيعي لتسييره‏.‏الطريق الي ديمونهالطريق الي ديمونه لم يكن ممهدا‏.‏ فقد كان كيانا ضخما ومشروعا هندسيا اكبر مما تتحمله اسرائيل في فتره نهايه الخمسينات‏.‏ كان لابد لها من امدادات ماديه وخبره فنيه‏,‏ وتمويل متاح‏.‏ كانت تلك الاحتياجات والقلق هما السبب في اللاشفافيه النوويه الاسرئيليه‏.‏في بدايه عام‏1957‏ قامت لجنه الطاقه النوويه الفرنسيه‏,‏ بتدعيم المفاعل الاسرائيلي الصغير من طراز ايل‏-102‏ ليصبح مفاعلا كبيرا ينتج البلوتونيوم من طراز مفاعل جي‏-1‏ في ماركول الذي يعمل‏(40‏ ميجاوات طاقه حراريه‏).‏ المفاعل الجديد يستطيع انتاج ما بين‏10‏ و‏15‏ كيلوجرام من البلوتونيوم سنويا‏.‏ كما طلبت اسرائيل من فرنسا التكنولوجيا الضروريه لاستخراج البلوتونيوم من الوقود المستعمل‏,‏ وطلبت ان تقوم شركه سان جوبان‏,‏ التي بنت مصنع ماركول‏,‏ ببناء مصنع كيماوي تحت الارض مرتبطا بالمفاعل‏.‏ علي ان يضم المصنع اربعه اجزاء‏:‏ مكان اعداد للوقود المستعمل‏,‏ ومعامل ساخنه لتحليل الوقود المستعمل المشع‏,‏ ومخزن للمخلفات من المفاعل‏,‏ واخيرا مصنع معالجه المواد الخام لاستخراج البلوتونيوم‏,‏ وهو ذلك البند الاخير الذي يعتبر المفتاح لبرنامج نووي ذي استخدام عسكري‏.‏ وقد تم التوصل الي اتفاق في العام التالي‏.‏تردد المسئولون الفرنسيون في ذلك الوقت‏:‏ جي موليه رئيس الوزراء وفرانسيس بيران‏,‏ الرئيس العلمي للجنه الطاقه النوويه‏,‏ وكريستيان بينو وزير الخارجيه في الموافقه علي الصفقه مع اسرائيل‏,‏ علي اساس انها مساله غير مسبوقه‏,‏ واعربوا عن مخاوفهم من ان تودي الي تدمير صوره فرنسا اذا انكشف السر‏.‏ ولكن بيريز تعهد للوزير بان المفاعل سيستخدم فقط في مجالات‏'‏ البحث العلمي‏'‏ فقام بينو بتوقيع الجانب السياسي من الاتفاقيه‏,‏ التي حملها بيريز بنفسه الي مكتب بورج مونوري الذي تولي رئاسه الوزاره الفرنسيه في سبتمبر عام‏1957‏ للتوقيع عليها‏.‏ وبناء علي طلب من بيريز حصل بورج مونوري من مكتبه علي قرار رسمي لتاكيد الاتفاقيه‏.‏ كان التاكيد مساله حيويه بالنسبه لاسرائيل‏,‏ ففي تلك الليله صوتت الجمعيه الوطنيه الفرنسيه بسحب الثقه من حكومه بورج‏-‏مونوري‏.‏السريه التامهوهكذا تم التوقيع علي اتفاقيه ديمونه في‏3‏ اكتوبر عام‏1957‏ علي اساس وثيقتين‏.‏ يقول افنير كوهين الكاتب‏,‏ انه تم الابقاء علي الوثيقتين سرا حتي الان‏,‏ ومن المنتظر ان تستمر لفتره قادمه‏.‏ ولكن عرف الكثير منها لنعرف انها تعتبر نقطه تحول اساسيه في طريق اسرائيل نحو مكانتها كقوه نوويه لاشفافه‏.‏ كما قال بيير جيوما رئيس لجنه الطاقه النوويه الفرنسيه ان‏'‏ عمليه ديمونه ابقي عليها سرا بدرجه ان‏.‏ لا احد يعرف الحقيقه كامله‏.‏ فمن الصعب تحديد ما حدث‏,‏ لانه وقع علي مستويات مختلفه‏:‏ علي مستوي الدوله‏(‏ رئاسه الحكومه والوزراء ولجنه الطاقه‏)‏ وعلي مستوي رجال الصناعه‏.‏يضم الاتفاق وثيقتين‏,‏ الاولي سياسيه والاخري فنيه‏.‏ اما الوثيقه السياسيه فكانت غير واضحه وتتناول الالتزامات القانونيه علي الاطراف المعنيه‏.‏ وتعهد بيريز فيها ان تكون اهداف اسرائيل سلميه‏,‏ وان تقوم اسرائيل باستشاره فرنسا في اي عمل دولي يتعلق بديمونه‏.‏ اما الوثيقه الفنيه التي وقعها روساء لجنه الطاقه النوويه الفرنسيه واللجنه الاسرائيليه لم تتناول مسائل عديده‏.‏ كما ان التفاهم الاساسي حول مشروع ديمونه لم يتم وضعه علي ورق‏,‏ ولكنه ظل تفاهما شفويا بين افراد‏.‏ وفي عدد من المسائل لم تعكس الوثائق المكتوبه الواقع‏.‏ فيقول المسئولون ان الوثائق تشير الي ان قوه المفاعل ايل‏-102‏ تصل الي‏24‏ ميجاوات‏,‏ بينما المصادر توكد انه اقوي من ذلك مرتين او ثلاث مرات‏.‏ولاسباب امنيه‏,‏ كانت عمليات ايل‏-102‏ التابعه لسوسييتيه الزاسيان‏,‏ الشركه الصناعيه المعماريه الاساسيه لمشروع ديمونه‏,‏ والتي كانت تتعامل مع‏'‏ العميل‏'(‏ الاسم السري للجنه الطاقه النوويه الاسرائيليه‏)‏ والمقاولين تجري عملياتها من خلال واجهه لكيان مالي تكونت لذلك الهدف‏.‏ وكان اكثر البنود سريه مساله مصنع معالجه المواد الخام الذي لم يذكر قط في الوثائق الرسميه‏.‏ فقد تم توقيع علي العقد الخاص بهذا المشروع مع المصنع مباشره‏,‏ سان جوبان‏,‏ الذي كانت معاملاته مع العميل الاسرائيلي تتم من خلال كيان اخر يدعي‏'‏ الشركه الصناعيه للدراسات والبناء الكيماوي‏'‏ والتي لا تذكر اسرائيل كعميل في الاوراق الرسميه‏.‏نظرا لحجم المشروع واهدافه‏,‏ والطريقه غير التقليديه التي تم تكوينه بها وادارته من خلالها‏,‏ كان المسئولون الاسرائيليون يعملون علي ابقاء حجم المشروع سرا حتي علي كل من يعمل في المشروع نفسه‏.‏ فقد تمت الصفقه الاسرائيليه الفرنسيه بينما فرنسا كانت متردده حول برنامجها هي العسكري النووي‏,‏ وبينما كان بعض من اصدقاء اسرائيل في فرنسا مترددين حول عواقب التعاون‏,‏ وبينما كان المسئولون السياسيون الفرنسيون في حاجه الي مساحه من الانكار اذا كشفت الصفقه‏,‏ وبينما حكومات الجمهوريه الرابعه كانت تتوالي‏,‏ والاداريون يشعرون بالقلق ازاء المستقبل‏,‏ وبينما كان الموالون للتحالف الاسرائيلي‏-‏الفرنسي علي الجانبين يشعرون ان التحالف غير طبيعي وهو قصير المدي نظرا لاهتمام فرنسا التاريخي بالعالم العربي‏.‏ لكل تلك الاسباب كان لابد من الابقاء علي المشروع النووي الاسرائيلي في حاله لاشفافيه‏.‏كان المسئولون الفرنسيون المتورطون في مشروع ديمونه يدركون ما هو‏,‏ رغم ذلك فقد اصر وزير الخارجيه الفرنسي الذي ادرك طبيعه المشروع الغير مسبوقه‏,‏ علي ان توقع اسرائيل اتفاقيه تنص علي ان التعاون بينهما محصور في مسائل البحث العلمي فقط‏.‏ واضطرت اسرائيل للتوقيع‏.‏ ويقول كوهين ان تلك لم تكن المره الاولي التي لا تجد اسرائيل اختيارا اخر امامها الا ان توافق علي شئ لا تستطيع ان تلتزم بتنفيذه‏.‏ظلت الصفقه سريه حتي عام‏1960,‏ عندما كشفت الولايات المتحده عن وجودها‏.‏ وذلك ما سنتناوله في الحلقه الثانيه‏.‏

11 Nov 2007

الهجرة الى الماضى

عودة الى مسلسل الملك فاروق الذى أثار اهتماما على جميع المستويات، وطرح العديد من التساؤلات، كان من اهمها تساؤل طرحه المثقفون فى حيرة : لماذا؟ لماذا آثار المسلسل كل هذا الحنين الى الماضى؟

أهم الأسباب الرئيسية كما قال البعض هو الشعور القوى بالإحباط من الحاضر، بل وذهب البعض الأخر الى القول ان مسلسل فاروق والاعجاب الشديد به يعتبر بمثابة استفتاء على رفض الحاضر. ولكن من الملفت ان كل الاجيال فى مصر شعرت بهذا الحنين، من عايش الماضى ولو فى فترة طفولته، ومن لم يعايشه. فقد أعجبت وانبهرت كل الأجيال التى ولدت فى السبعينات وفى الثمانينات بماضى تصوروا انه يحمل كل الاجابات على تساؤلاتهم. ورأوا فى المسلسل، رغم انه ليس فيلما وثائقيا بل مجرد دراما تليفزيونية، ما تصوروا انه تاريخا لم يسمعوا به من قبل. وعاشوا فى صورة وهمية عن حياة خالية من المعاناة.

وان كان الجيل الاول قد تأثر بالمسلسل لانه يشعر بالاحباط من الحاضر، فان الجيل الاصغر تأثر به لانه، ليس فقط يشعر بالاحباط من الحاضر، بل والاهم انه لا يجد أملا فى المستقبل. وذلك هو الخطير فى المسألة، بل والمقلق، لان الشعب الذى لا يشعر شبابه بأمل فى مستقبل هو شعب مصيره العدم، ولن يحقق أية نهضة.

ان هذا الشعور باليأس الكامل عبر عنه الشباب مؤخرا باكثر من وسيلة: فهو اما يحاول الهجرة بكل الطرق القانونية وغير القانونية، فينتهى به الحال اما جثة هامدة فى أعماق البحار او سجينا فى معتقلات الغرب، او ان يهرب من الحاضر بالعودة الى أحلام الماضى والتى لن تعود.

فما العمل؟

ان هذا الاحباط من الشباب هو مسئولية الجيل السابق، الذى سيترك لأبناءه وطنا بلا أسس بعد ان دمر كل حلم. سواء حلم العمل او الطموح او النزاهة. ولقد ترجم هذا الجيل عدم اهتمامه بترك وطنا قويا وثريا عندما اصبحت الجنسية بالنسبة له مثل طوابع البريد، يجمعها من كل بلد ويسعى القادرون منه الى ان يولد ابناءهم فى الولايات المتحدة ليحصلوا منها على الجنسية. فقاموا بذلك بقطع كل أواصر الابناء بوطنهم منذ مولدهم. وبالتالى فلا يشعر لا الاباء ولا الابناء بأى حماس او رغبة فى تحسين الوضع القائم، او بذل الجهد من اجل غد أفضل، فبالنسبة لهم ليس هناك غد فى وطنه.

يجب ان نعمل على وقف هذا الانزلاق الى الهاوية، لان الشعب الذى له أعظم حضارة فى تاريخ البشرية، ليس من حقه ان يقضى عليها بكل هذا العنف. واتذكر كلمات حكيمة تقول: اننا لم نرث هذا الوطن من اباءنا بل اقترضناه من ابناءنا، ويجب علينا ان نعيده اليهم افضل مما كان.

16 Oct 2007

الملك فاروق المسلسل وليس التاريخ

أنبهر معظم الشعب المصرى بمسلسل الملك فاروق الذى عرض فى شهر رمضان الماضى، وذلك سواء بسبب الديكورات الراقية او الملابس الغالية او حياة القصور الفخيمة. ولكن أيا كان السبب، فعلى الجميع ان يدرك بعض الأمور قبل الحكم على الاحداث التاريخية حكما غير صحيح: اول تلك الامور هى ان المسلسل الدرامى شئ والفيلم والوثائقى شئ أخر، والاحداث الدرامية ليست تاريخا، لان ان كان المؤلف الروائى يملك الحق فى "تأليف" بعد الأحداث، فان المؤرخ لا يملك هذا الحق. لذلك فعلى المشاهد ان يفرق بين الاثنين حتى لا يأخذ احداث المسلسل على انها الاحداث التاريخية الحقيقية.
وثانيا: المؤلف الروائى يقص التاريخ من وجهة نظره وحسب مشاعره، فهو لا ينظر الى الأمور نظرة موضوعية بل نظرة شخصية، لذلك فهو لا يمكن ان يكون مرجعا تاريخيا، بعكس المؤرخ الذى يكتب التاريخ بقلب بارد وعقل موضوعى، فيسرد أحداثا وتفسيرها بدون ان يضمها المشاعر الخاصة
لذلك فقد اعطى مسلسل الملك فاروق، الشعب المصرى انطباعا غير صحيح عن اخر ملوك مصر، وحاول،حسب قول مؤلفته، ان يظهر انه لم يكن بالسوء الذى قيل عنه، فيبرر اخطاءه. وتلك مسألة خطيرة لان المسلسل عايش المشاهدين فى وهم فتصوروا انه حقيقة؛ وعقدوا مقارنات مع الواقع، فتصوروا ان الماضى كان افضل؛ فى حين ان تلك التصورات غير صحيحة لان الماضى ليس افضل؛ وان كان المسلسل اراد ان يبرر للملك فاروق اخطاءه بانه كان شابا طائشا وان من حوله هم الذين حرضوه على الغواية. ولكن ذلك ليس مبررا لانه فى النهاية "ملكا" ويملك السلطة الكاملة، وكان هناك من نصحوه ولكنه استبعدهم، مثل الملكة فريدة وعزيز المصرى وغيرهم.
وفى نفس الوقت حاولت المؤلفة تحسين صورة الملك بشكل غير واقعى، فقامت بمحو أخطاءه الاخرى مثل فساده وحبه فى لعب الميسر والاستيلاء على اى سيدة تحلو فى نظره رغما عن صديقها او خطيبها او حتى زوجها. وتلك الأمور حقيقية لا تستطيع ان تمحوها
ان المؤلفة تعيب على عصر الثورة انه حاول الاساءة للعصر الملكى من خلال اعطاء انطباعا بانه عصر سئ بدون وجه حق، وهى تقوم بنفس الخطأ ولكن بالعكس فهى تعطى انطباعا بان هذا العصر كان ديمقراطيا، فى حين ان الفساد الحزبى كان ينخر فى الاحزاب السياسية؛ وان الملك كان انسانا جيدا بدون وجه حق.
ان الأمرين خطأ. فان ما علينا ان نفعله اليوم، ليس الحكم على الاحداث ان كانت سيئة او جيدة، ولكن ان نقدمها للشعب كما هى بلا رتوش، فان الشعب فى حاجة ملحة لان يعرف تاريخه، حتى يستطيع ان يتطلع الى المستقبل. هذا التاريخ بكل سوءه وكل امجاده هو جزء منا ونحن جزء منه، ويجب ان نعرفه لكى نعرف انفسنا، ويجب ان نتجاوزه حتى نستطيع ان ننظر الى المستقبل ولا نبقى حبيسى الماضى.

12 Sept 2007

كتاب جديد: تاريخ ضائع


مع دخولنا القرن الواحد والعشرين نسى العالم أو تناسى، أن الحضارة الأوروبية التى تتميز بالتكنولوجيا الحديثة، قامت فى الأصل على الحضارة الإسلامية التى سادت قبل ألف عام. ونسى العالم، أو تناسى، أن العلماء المسلمين فى ذلك العهد هم الذين اكتشفوا علوم الجبر، وان الأطباء المسلمين هم الذين توصلوا الى علاج أمراض عديدة مثل الربو أو أمراض العيون، وان المسلمين المخترعين هم الذين صمموا الأشكال الأولى للمظلات والطوربيد، وان علماء الفلك المسلمين هم الذين حسبوا حجم كوكب الأرض بدقة شديدة، وذلك فى الوقت الذى كان الأوروبيون يتصورون أن الأرض مسطحة!!
ولقد جاء الكتاب الجديد الذى صدر مؤخرا بعنوان "تاريخ ضائع" للدبلوماسى الامريكى السابق والصحفى الحالى مايكل هاميلتون مورجان، يندد بدور الغرب فى إساءة فهم تاريخ العرب وقمعه وأحيانا إعادة كتابته بشكل مغاير. ونشر الكتاب ليذكر الغرب مرة أخرى بفضل الحضارة الإسلامية على عالم اليوم، مؤكدا أن مساهمة العرب للمعرفة الحديثة لا يمكن عدها أو حصرها، ولكى يعيد الى الأذهان مساهمات العرب للتقدم التكنولوجى الحالى، من خلال اكتشافاتهم واختراعاتهم وإبداعاتهم على مدى مئات السنين، ابتداء من عام 570 ميلاديا، الذى وصفه بالعصر الذهبى للإسلام. وقدم مورجان فى كتابه العلماء والمفكرين الكبار أمثال ابن الهيثم وابن سينا والطوسى، والخوارزمى وعمر الخيام، وهو المفكرون الذين مهدوا الطريق لعلماء الغرب أمثال نيوتن وكوربرنيك واينيشتاين وآخرين كثيرين.
ولم يكتف الكتاب بذكر العلماء والمفكرين، بل ذهب مورجان الى قلب الدين نفسه ليثبت للغرب كيف كان النبى محمد، والحكام المسلمين من بعده، يدعون الى التسامح الدينى والى البحث عن العلم "ولو فى الصين"، وقال انه تاريخ اكتمل فكريا أكثر من تاريخ أوروبا المسيحى فى نفس الفترة، وفيه ازدهر وعمل معا المسيحيون واليهود والهندوس والبوذيون. ويقول مورجان عن الحضارة الإسلامية إنها وضعت بذرة النهضة الأوروبية وجعلت من الممكن انطلاق الشرارة لإرساء الحضارة العالمية.

وإن كان الكتاب موجه أساسا الى الغرب الذى يعمل جاهدا على تشويه صورة الإسلام والمسلم، وتصويره على انه إرهابى، فانه أيضا تذكرة للمسلمين أنفسهم، الذين فقدوا ذاكرتهم ونسوا جذورهم، وصدقوا مزاعم المتطرفين بان واجبهم المقدس الأوحد هو القضاء على الكافرين، أو مزاعم الغربيين، خاصة المحافظين الجدد، بأنهم متخلفين عن الركب، وان الإسلام دين غير متكافئ مع الحياة العصرية فى القرن الواحد والعشرين لأنه يضم عوامل تجعله مناهض لحرية التفكير والتقدم الاجتماعى والعلمى. وصدق المسلمون تلك المزاعم، فضلوا طريقهم وفقدوا الهدف.

قام مورجان بتقسيم الكتاب الى المجالات المختلفة من العلوم والفلسفة والفنون والروحانيات، فتحدث عن التسامح الدينى والتعايش مع الأديان الأخرى فى الدول التى فتحها الإسلام؛ كما كشف عن الفلسفة والمعرفة فى عصر الخليفة بن المأمون؛ ثم عن الحساب والرياضيات التى ازدهرت فى القرن التاسع ميلاديا مع الخوارزمى وآخرين؛ وتطور علوم الفلك فى بغداد فى عصر الخليفة المنصور ثم هارون الرشيد، وظهور اسم عمر الخيام الشاعر وعالم الفلك والرياضيات، وابن رشد الفيلسوف وعالم الفلك، والفيلسوف اليهودى ابن ميمون؛ وازدهار العلوم التكنولوجية والاختراعات فى قرطبة فى القرن التاسع والتى اشتهر بها عباس ابن فرناس "حكيم الأندلس" والكيميائى جابر بن حيان؛ والطب الذى عرفه الطبرى وابو بكر الرازى الذى يعرفه أطباء الغرب حتى اليوم، وابن سينا الذى يعتبر اشهر الفلاسفة الأطباء فى تلك الفترة وأكثرهم تأثيرا؛ وتحدث مورجان عن العمارة والشعر والموسيقى والفنون التى انتشرت من القدس الى قرطبة، ومن الأندلس الى سمرقند، ومن اوزبكستان الى أصفهان، ومن فارس الى أجرا بالهند؛ ويؤكد الكاتب انه لم يكن من الممكن أن تزدهر الحضارة الإسلامية العظيمة هذه، فى كل تلك المجالات بدون زعامات مستنيرة ساعدت على النهضة العلمية فى العصور الذهبية.

ويركز الكتاب، ليس فقط على المفكرين الإسلاميين فى الفترة التى وصفت بأنها العصر الذهبى للإسلام، والتى تتركز فى بلاد فارس وأسبانيا فى الفترة من عام 632 الى 1258 وانتهت بسقوط بغداد، ولكن على "العصور الذهبية العديدة" للفكر الإسلامي، التى تألقت أيضا فى وسط أسيا وتركيا العثمانية، والهند المنغولية، واستمرت حتى القرن الثامن عشر.
ويأمل مورجان أن مع استعادة "التاريخ الضائع" يمكن للجميع أن يفهم القضايا الحالية والتى كما يقول، لن تحل أبدا بالقوة والعنف. لأن الدرس الأساسى الذى يريد الكاتب أن نتعلمه من كتابه، هو أن القوة لا تحل بشكل ايجابى القضايا الخاصة بالروح والنفس، سواء كان ذلك يتعلق بالأفراد أو بالحضارات.

القرآن يوصى بالعلم والمعرفة
عبر ثمانى فصول ونحو 300 صفحة، ربط هاميلتون مورجان التاريخ بالحاضر، والقضايا المادية بالروحانيات، والعلوم الحديثة بالنصوص القرآنية. ويقول مورجان أن وصايا القرآن الكريم ساعدت على تفتح الفكر والعلم فى الحضارة الإسلامية التى كانت على وشك أن تبدأ، وفجرت رغبة فى البحث من اجل المعرفة والاكتشاف. ونقل الكاتب الآيات التى تتحدث عن العلم وأهميته، وقدم خطبة الوداع التى ألقاها الرسول الكريم، وركز فيها على رؤيته وأفكاره التقدمية التى تدعو الى المساواة بين الجنسيات وبين الاثنيات، وهى نفس تلك الوصايا التى سيعمل الإنسان على تطبيقها على مدى ألف عام.
وبعد وفاة الرسول، ورغم أن الخلافة كانت السبب فى الانقسام بين المسلمين، إلا أن الكاتب أشار الى أهمية الحوار والجدل الذى دار فى تلك الفترة حول خلافة المسلمين، والمشاورات السياسية التى كانت تجرى والتى، كما يقول، سوف تثير قضية "الدولة" و"السياسة". من بين تلك القضايا، أشار الكاتب الى أسلوب اختيار الزعيم ومن الذى يختاره؛ والصفات التى يجب أن يتحلى بها، ومدى أهمية اهتمامه بالعلم وبالمعرفة، وما هو الدور الاجتماعى والسياسى والروحانى الذى يجب عليه أن يلعبه فى المجتمع.

أما ماذا حدث؟ وكيف قام الإسلام بنشر تلك الأفكار فى العالم على مدى مئات السنين، رغم وجود حضارات ودور أكثر ثراءا وأكثر قوة فى تلك الفترة؟ فذلك هو التاريخ الذى ضاع مننا والذى يعيد مورجان اكتشافه للقارئ الغربى.

3 Jun 2007

الانسانية اسمها فلسطينى

وسط كل المآسى التى يشهدها مخيم "نهر البارد" شمالى لبنان، ينقل مراسل الإندبندنت من داخل المعسكر بعض الومضات المضيئة، فكتب يقول: "هناك بعض الأمثلة الرائعة على الإنسانية، فهناك علاقات قوية بين أبناء المخيمات، فيقوم الأطفال فى احد المخيمات بتوزيع المياه والخبز على أبناء المخيم الأخر. بينما تقوم الفتيات برعاية أطفال لا يعرفونهم، ومساعدة المسنين لإيجاد مأوى لهم"، ويقول المراسل البريطانى، أنه لم يشهد مشاعر تضامن قوية بين الأفراد، ولم يشهد شجاعة ونكران الذات، كما شهدها هنا فى تلك المنطقة بين الفلسطينيين. فهل يتعلم الإسرائيليون والامريكيون بعض من تلك الإنسانية.

24 May 2007

سياسة فرنسا العربية

تجاوز التشكيل الحكومى الجديد فى فرنسا كل التوقعات. فرغم أن الرئيس نيكولا ساركوزى كان متفقا مع ما تعهد به من العمل على الانفتاح على كل الأطراف الأخرى والتوجهات السياسية المختلفة، إلا أن أحدا لم يتوقع أبدا أن يعين وزراء من الحزب الاشتراكى ومن حزب الوسط، فى وزارات سيادية مثل الخارجية. فقد اختار ساركوزى وزيرا للخارجية، برنار كوشنير الإشتراكى، الذى اكتسب لقب "الطبيب الفرنسى" أو كما يطلق عليه العالم، وحتى فى فرنسا: "فرانش دوكتور"، وذاع صيته واكتسب شعبية كبيرة بسبب نشاطه الإنسانى والطبى فى المناطق المنكوبة، وهو نشاط عملى وليس نظرى فقط. ولكن، من جهة أخرى، أثار كوشنير دهشة البعض بسبب موقفه المؤيد للتدخل العسكرى الامريكى فى العراق فى عام 2003، وأعلن عن دعمه لسياسة "الحق فى التدخل" فى المناطق التى ينتهك فيها حقوق الإنسان. فكيف ستكون سياسته فى الشرق الأوسط؟
لقد عكس تشكيل الوزارة الفرنسية توجهات ساركوزى فى التغيير وما وصفه بالقطيعة الهادئة مع الماضى؛ لذلك أثار ساركوزى مخاوف وتساؤلات فى أنحاء العالم العربى حول سياسته المقبلة من قضايانا ومدى ارتباطه بسياسات إسرائيل والولايات المتحدة؛ خاصة وانه لم يخف أبدا، ومنذ بدء إعلانه عن تطلعاته الرئاسية فى عام 2003، توجهه الأطلسى وتأييده لموقف إسرائيل، كما لم تخف إسرائيل سعادتها بفوز ساركوزى، وتطلعت الى سياسة فرنسية جديدة إزاء إسرائيل.
فهل سنشهد تغييرا جذريا فى العلاقات العربية الفرنسية فى السنوات المقبلة؟ للإجابة على هذا التساؤل التقى الأهرام مع المفكر الفرنسى شارل سان برو، الخبير فى شئون العالم العربى، ومدير "مرصد الجيوسياسى الفرنسى" وصاحب العديد من الكتب حول العلاقات الفرنسية مع العالم العربى، كان أخرها كتابه: "سياسة فرنسا العربية"، لإلقاء الضوء حول العلاقات الفرنسية/العربية ومستقبلها على المدى القصير. وفيما يلى نص الحوار:

*ما معنى تعبير: "سياسة فرنسا العربية"؟
** القول بان هناك "سياسة عربية" يعنى أن لفرنسا علاقات متميزة مع العالم العربى بعكس السياسة الأمريكية التى تنتهج "سياسة فى الشرق الأوسط". كما يعنى أن فرنسا تعتبر أن هناك عالم عربى يمثل كيانا جغرافيا محددا، ويجب عليها أن تنشئ علاقات متميزة معه.
يجب التذكير بان سياسة فرنسا العربية ليست وليدة اليوم، أو عصر الرئيس الأسبق شارل ديجول، ولكنها تمتد عبر التاريخ القديم، حين عقدت أول اتفاقية صداقة بين فرنسا والعالم العربى فى عصر الملك الفرنسى شارل العظيم وهارون الرشيد فى القرن الثامن ميلاديا. كما كانت فرنسا هى أول دولة تفتح أبوب جامعاتها لتعليم العربية، وترجمة القرآن الكريم..

*إذن سياسة فرنسا العربية لا ترتبط باتجاهات يمينية أو يسارية؟
** من المؤكد إنها سياسة لا تتعلق بالبترول، فإن فرنسا لم تكتشف العالم العربى مع اكتشاف البترول. ولكنها سياسة جيوسياسية ثابتة ولذلك فهى راسخة فى التقاليد الدبلوماسية الفرنسية، وليست مرتبطة بحزب عن حزب أخر، إنها ليست سياسة يمينية أو يسارية، ولكنها السياسة القومية.
صحيح أن الحزب الاشتراكى، لأسباب تاريخية كان دائما مترددا إزاء سياسة فرنسا العربية، ولكن الرئيس الاشتراكى فرانسوا ميتران، الذى كان صديقا لإسرائيل وليس للعرب، انتهج نفس السياسة العربية.
يمكن القول أن البعض يعطى قوة دفع للسياسة العربية أكثر من آخرين مثلما فعل الرئيس شيراك، لذلك يجب أن نشير هنا الى خطابه الذى ألقاه فى جامعة القاهرة فى عام 1996، وهو خطاب عميق ومهم، لأنه يلخص بصدق سياسة فرنسا العربية فى كل المجالات. لقد دعا شيراك فى خطابه، العالم العربى الى توحيد صفوفه حتى يمكن أن يكون له ثقلا فى العالم.

أن السياسة العربية فى فرنسا، أكثر عمقا من مجرد إيجاد حلا للصراع العربى الإسرائيلى، إنها سياسة تهدف الى إقامة جسرا بين أوروبا والمتوسط، والى تنمية التعاون فى جميع المجالات، خاصة اليوم مع خطر الصدام بين الحضارات الذى أرساه المحافظون الجدد الأمريكيون، لذلك فان السياسة العربية هى مثلا جيدا للحوار بين الحضارات.

* فى الخطاب الذى ألقاه يوم فوزه بالرئاسة، تحدث الرئيس ساركوزى عن اتحاد متوسطى، فهل هناك تغيير فى سياسة فرنسا العربية فى الفترة المقبلة؟
**ساركوزى رجل من اليمين يميل الى الاطلنطى، وهو ليس اتهاما، فهناك أكثر من يمين وأكثر من يسار. ولقد تحدث ساركوزى عن سياسة متوسطية، وذلك شئ جيد وإيجابى، ولكنه لا يعنى شيئا. فما هو المتوسط؟ أين تقف حدوده؟ هل المتوسط يضم فقط الدول التى تقع على شاطئيه؟ أم انه تجمع ثقافى؟ أم دينى؟ أم حضارى؟ يجب علينا أن نحدد أولا ما هو "الاتحاد المتوسطى" بالضبط. اعتقد أن تعبير "سياسة متوسطية"، هو شعارا أكثر منه واقعا، خاصة بعد فشل اتفاقية برشلونة، ومن الناحية الجغرافية فان انتهاج سياسة متوسطية ستعمل على تقسيم العالم العربى الى قسمين وذلك فى رأى مسألة خطيرة.
اعتقد أنه علينا التعامل مع الاتحاد المتوسطى كمشروع طويل المدى. لأنه لا يمكن إقامة اتحاد متوسطى كما يراه ساركوزى، طالما لازالت هناك مشاكل فى المنطقة لم تحل بعد، خاصة القضية الفلسطينية، وطالما لازال خطر المواجهة بين إسرائيل والعالم العربى قائما. لذلك، يجب أولا بناء منطقة سلام وإيجاد حل للمشكلة الفلسطينية، بمعنى إقامة دولة فلسطينية مستديمة ومستقلة وذات سيادة. تلك هى الأولوية الأساسية. وذلك هو بالضبط دور سياسة فرنسا العربية.


* منذ حرب العراق، اتخذت فرنسا موقفا قويا، ولكن بعد ذلك بدأت تفقد دورها فى العالم العربى؟
** لا اعتقد أن فرنسا فقدت مكانتها القوية فى العالم بعد حرب العراق، لان النتائج أكدت صحة الرؤية الفرنسية، التى ترى أن الحرب ضد العراق هى حرب غير شرعية ولن تحل شيئا، بالإضافة الى خلق أزمات جديدة، وذلك ما حدث بالفعل. ولا اعتقد أن فرنسا فقدت مكانتها فى المنطقة، فقد أصبحت شريكا متميزا واستراتيجيا للسعودية ودول الخليج الآخرى، على سبيل المثال.
ما حدث هو أن فرنسا فقدت مكانتها فى العراق التى كانت دولة صديقة، ولكنها يمكن أن تعيد تلك العلاقات فى المستقبل عندما يستعيد الشعب العراقى وحدته وسيادته.
أما بالنسبة لسياسة شيراك فى لبنان، فأعتقد أن شيراك أخطأ فى خياراته هناك. قد تبدو سياسته موالية للموقف الامريكى، وأعتقد أن الأمريكيين والفرنسيين تعاونا ولكن لم يكن لهما نفس الهدف فى لبنان. واعتقد أن الدبلوماسية الفرنسية فى عهد شيراك ارتكبت خطأ فى لبنان، لأنها قررت أن تأخذ موقفا مع جانب ضد الجانب الأخر. أن لبنان دولة تضم العديد من التكتلات، ولا يمكن أن نختار الوقوف مع تكتل ضد الآخر. لذلك اعتقد أن على الرئيس الجديد أن يعيد التوازن مرة أخرى للسياسة الفرنسية فى لبنان.

* وفيما يخص القضية الفلسطينية، هل هناك فرصة لفرنسا لان تلعب دورا؟
** كانت فرنسا أول دولة تدرك أن عرفات هو الرئيس الشرعى للسلطة الفلسطينية، وانه الوحيد الذى يستطيع أن يحقق السلام. لقد قتل المتطرفون الإسرائيليون عرفات سياسيا واعتقد أيضا جسديا، بالتعاون مع الأمريكيين. ولكن الإسرائيليين أخطأوا فى حساباتهم، فلازال المأزق قائما اليوم بدون عرفات. ولذلك اعتقد انه حان الوقت لان نطلق عملية دبلوماسية جديدة، وهنا يكمن دور فرنسا التى أكدت دائما أن الطريق الوحيد لتحقيق السلام يمر بالضرورة عبر إقامة الدولة الفلسطينية.
ولذلك فان كون ساركوزى ليس عدوا لإسرائيل ولا للأمريكيين، قد يلعب دورا مهما، لأنه يستطيع أن يتحدث مع جميع الأطراف، مما يضعه فى وضع يستطيع معه أن يلعب دورا ايجابيا لصالح السلام.
اعتقد أن الأمريكيين الذين سوف يتخلصون يوما ما من بوش إدارة المحافظين الجدد، سيحاولون إيجاد حلا للوضع فى الشرق الأوسط، وهنا سوف تحتاج الولايات المتحدة لمساعدة الدول الأخرى، واعتقد أن فرنسا ستكون أفضل الدول التى يمكن أن تساعدهم فى تحقيق هذا الهدف.

* ما هى الأولويات السياسية لساركوزى؟
** من الطبيعى أن يكون لساركوزى اولويات داخلية لان عليه أن يعيد أصلاح الاقتصاد الفرنسى. ولكن بصفته رئيس واحدة من أقوى أربع أو خمس دول فى العالم، يجب أن تكون لديه اولويات متعددة، ومن أهم تلك الأولويات إيجاد حلول للقضايا الدولية التى تهمنا كلنا مثل أزمة الشرق الأوسط التى تقوم بتغذية الإرهاب وتؤثر على الأمن فى منطقة المتوسط، وهى مشاكل قد تؤثر فى فرنسا، لذلك اعتقد إنها مشكلة فرنسية أيضا، كما إنها مسئوليتها.
ويجب أن نأخذ فى الاعتبار أن ساركوزى تحدث فى خطابه الذى ألقاه عقب فوزه بالرئاسة، عن السياسة الخارجية الفرنسية بشكل خاص وليس السياسة الداخلية، وهى مسألة غير مسبوقة، ودليل على اهتمامه بدور فرنسا فى العالم. واعتقد انه رجل يتمتع بالديناميكية والرغبة فى ان يلعب دورا مهما على الساحة الدولية.

30 Jan 2007

لماذا نتقاتل وننسى العدو الحقيقى


يتقاتل الفلسطينيون فيما بينهم، فتح ضد حماس. ويتقاتل اللبنانيون: المسلمون ضد المسلمين والمسيحيون ضد المسيحيين، والحكومة ضد حزب الله. ويتقاتل العراقيون: الشيعة ضد السنة ضد الاكراد. ويتقاتل السودانيون الشمال ضد الجنوب. وهكذا تستمر المعارك ليس فقط بين العرب دولا، ولكن بين ابناء الشعب الواحد.

من الواضح ان الأمر هى خطة وضعتها كل من الولايات المتحدة واسرائيل، الدولتان اللتان تستفيدان مما يحدث داخل الدول العربية، من اجل تفتيت وحدة العرب من الداخل بعد ان نجحتا فى تفتيتها من الخارج. ولكن من الغريب ان قادة تلك الدول لم تدرك انها باتت وسيلة تستخدمها اسرائيل وامريكا من اجل تنفيذ خطتهما فى تقسيم المنطقة الى دويلات، بعد ان فشلتا هما فى تنفيذها.

فلم تنجح اسرائيل فى لبنان فى الصيف الماضى من احتلال الجنوب، ولم تنجح واشنطن فى العراق فى تقسيمها، وبعد اكثر من 60 عام من الصراع بين اسرائيل والعرب، لم تنجح اسرائيل فى كسر مقاومة الفلسطينيين. ولكن اليوم هى نجحت، لأننا نحن فشلنا فى الكشف عن الخدعة وعن المؤامرة. وقمنا بتنفيذ خطتهم بلا وعى.

14 Jan 2007

كتب: الجانب الاخر فى اسرائيل 1

رحلة فتاة يهودية عبر خط التقسيم الإثنى: العربى/اليهودى

قال الصحفى البريطانى جوناثان ديمبلبى عن كتاب "الجانب الأخر من إسرائيل": "انه يثير اضطرابا عميقا ويجب أن يقرأه كل شخص يريد أن يفهم حقيقة الحياة بالنسبة للعرب الإسرائيليين". فان الكتاب هو قصه كاتبة بريطانية يهودية، تعيش فى لندن، الى أن قررت فى عام 1999 أن تمارس حق "العودة" الى "الوطن" إسرائيل، وهو الحق الذى تمنحه الدولة الى كل يهودى فى جميع أنحاء العالم. ولكن بعد عدة أشهر من وصولها الى تل أبيب، قررت سوزان ناثان أن تأخذ خطوة جريئة، وتتخذ قرارا غير مسبوق، وهو عبور خط التقسيم الإثنى بين اليهود والعرب الإسرائيليين، والانتقال الى الجانب الأخر من إسرائيل والإقامة فى مدينة تامرا، وهى مدينة صغيرة تضم 25 ألف مواطن اسرائيلى، عربى مسلم. وبسرعة تقول سوزان إنها اكتشفت أن الخط الإثنى، رغم انه خط وهمى، إلا انه قائما وصلبا مثل الجدار الصلب والأسلاك الشائكة التى قامت الدولة الإسرائيلية ببنائها بينها وبين الضفة الغربية وغزة لتفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين.
فى سرد أدبى، قصت سوزان ناثان قصة انتقالها الى تامرا لتدريس اللغة الإنجليزية فى مدارسها، ولتعيش مع عائلة ابى حجاز، مع الأم "الحاجة" وأولادها وأحفادها وأفراد عائلتها الكبيرة الآخرين، وجيرانها ومعارفها؛ وكيف استطاعت سوزان خلال تلك السنوات التى عاشتها فى "الجانب الأخر من إسرائيل" أن تحدد هويتها اليهودية والإسرائيلية، والإنسانية. وتضع أمام القارئ الغربى والاسرائيلى اليهودى الصورة الحقيقية لفكرة مغلوطة، شكلها الخيال اليهودى الإسرائيلى عن مواطنيهم العرب، وعاشوا بهذه الفكرة المغلوطة وبنوا عليها كل سياساتهم الاجتماعية اللاحقة.
تقول سوزان فى البداية كيف كان قراراها بمثابة الصدمة بين أصدقائها وعائلتها اليهودية الإسرائيلية. "لماذا تريدين الإقامة فى تامرا؟"، "ولكنهم مسلمين!!؟؟" كانت تلك هى الجملة التى ترددت كلما ذكرت سوزان إنها سوف تنتقل للإقامة فى تامرا، وحتى سائق السيارة الأجرة، رفض عبور الخط الوهمى، وسائق الشاحنة التى نقلت أثاثها الى منزلها الجديد، سارع بالخروج من المدينة ولم يعد مرة أخرى لجمع الصناديق التى كانت تضم أغراضها، خوفا من "العرب". كانت الكلمات التى تتردد بين أصدقائها عندما أخبرتهم بقرارها، كانت: "ولكنها منطقة عربية؟!" "لماذا تريدين الإقامة هناك؟"، "لأن ذلك هو ما أريده"، "ولكنها منطقة عربية!".. "!! "سوف يقتلونك!! سوف يعتدون عليك!!" ويهمس أحدهم قائلا: "هل معك سلاح؟"، ويهمس أخر: "لدى رقم تليفون احد الأصدقاء فى الجيش الإسرائيلى، إتصلى بى فى أى وقت وسيعمل على إنقاذك من هناك!!" أعتبر أصدقائها من اليساريين قراراها بأنه إما نتيجة لعدم فهمها للوضع فى الشرق الأوسط، أو انه مجرد محاولة من شخص غير ناضج، لجذب الانتباه.
وقصت سوزان كيف كانت رحلتها فى السيارة حتى تامرا. قال لها سائق السيارة الأجرة، شاهير، لقد درست المكان جيدا، وحددت الطرق التى يمكن أن نمر بها بدون أن نضطر الى المرور بالقرى العربية فى الطريق"، وردت عليه سوزان بدهشة: "ولكننا نتجه الى قرية عربية!! لماذا يجب علينا أن نحتاط فى الطريق اليها!؟"
تقول سوزان ناثان عن رحلتها: "أن الطريق الى الجانب الأخر من إسرائيل لا يحمل علامات، انه طريق لا نقرأ عنه كثيرا فى الصحف أو نسمع عنه فى أخبار التليفزيون، انه طريق غير مرئى لمعظم الإسرائيليين." فى هذا الطريق لاحظت سوزان أن العلامات الخضراء كانت واضحة على طول الطريق المؤدى الى المناطق الشمالية المتجهة الى حيفا وعكا وكارميت، المدن الإسرائيلية اليهودية، وحتى القرى اليهودية الصغيرة مثل شلومى وميسجاف. ولكن عندما بدأت السيارة تتجه الى تامرا، اختفت العلامات الى أن بدأت تخرج عن الطريق السريع وتعبر القرى الصغيرة، ورأت مرة أخرى علامة صغيرة تشير الى مدينة تامرا. وعندما اتجهت السيارة الى هذا الاتجاه امتد أمامها طريق نصف ممهد، وفى المدينة "العربية" كان هناك طريقا واحدا ممهدا يؤدى الى المسجد الرئيسى فى وسط المدينة، ومنه الى طريق صغير وضيق يعلو الى تل الى أن وصلت الى مقر إقامتها الجديدة.

مفاهيم يهودية مغلوطة
كان التناقض واضحا بين تصور اليهود الإسرائيليين للعائلات العربية الإسرائيلية، وبين الطريقة التى استقبلوها بها.
استأجرت سوزان شقة فى مبنى عائلة عربية تدعى "ابو حجاز"، وكان يعيش فى نفس المبنى الصغير الجدة التى يطلق عليها الجميع اسم "الحاجة"، وفى يوم وصول سوزان الى منزلها الجديد خرجت العائلة كلها لاستقبالها، بما فيهم "الحاجة" وحفيداتها. وبسرعة، قبلتها عائلتها الجديدة وكأنها أحد أفرادها، وجزءا من العائلة الكبيرة مثل أى زوجة إبن جديدة تدخل العائلة. وبسرعة أطلقت عليها العائلة العربية اسمها الجديد "أم دانيال"، مثلها مثل كل أم عربية ينادى عليها باسم إبنها البكر.
عاشت سوزان مع عائلة "الحاجة" المباشرة، وهى عائلة صغيرة بالمقاييس العربية، ولكنها تتسع بأفرادها الأخرين من أعمام وعمات، وأخوال وخالات وأولاد الأعمام والعمات، وأولاد الأخوال والخالات، والذين يأتون جميعا لزيارة الحاجة وتناول معها الطعام والقهوة العربية. وتمتد العائلة لتشمل المجتمع العربى الصغير فى المدينة، حيث تتداخل العائلات ويعرف بعضهم بعضا. تلك العائلة التى كانت تحميها عندما كانت تتنقل فى أنحاء المدينة الصغيرة، ويطمئن إليها السكان عندما يعرفون إنها تعيش بينها.
وفى المقابل اعتبرت سوزان عائلة "ابو حجاز" وكأنها عائلتها المباشرة وربطت بينها وبين الحاجة، علاقة قوية رغم صعوبة التفاهم بينهما، فكانا يتحدثان ببعض الإنجليزية وبعض العربية والعبرية. وكانت أفضل فترات اليوم بالنسبة لها عندما تجلس معها أمام المنزل يحتسيان القهوة العربية التى تصنعها، وتقص عليها قصة حياتها الصعبة التى بدأت منذ زواجها فى السابعة عشر من عمرها ثم ترملها فى العشرين، وكيف قامت بتربية أبنائها وحدها فى ظروف اقتصادية غاية فى الصعوبة. وكانت تشهد سوزان أسلوب حياة تلك العائلة وتدرسها لتفهم طبيعتهم. فكانت تراقبهم فى استقبال الأصدقاء والأقارب فى جميع الأوقات، وفى طهى الطعام العربى من الخضروات والأعشاب الطازجة التى يزرعونها فى الحديقة الصغيرة خلف المنزل، مثل البابونج والنعناع والكوسة والطماطم الخ.. وحرصهم على الابقاء على الطعام ساخنا طوال اليوم حتى يستطيع كل من يزورهم أن يتناول منه ساخنا. وتعلمت من الحاجة أسلوب العلاج القديم بالطبيعة والأعشاب التى توجد فى كل مكان حولهم. وكانت تدهش عندما تقوم الحاجة بحياكة ملابس الصغار وشغل الإبرة بدون مرجع.

مفهوم الخصوصية
أدركت سوزان من اليوم الأول فى تامرا أن عليها أن تتخلى عن مفهومها الغربى للخصوصية. فان كانت الطرق الصغيرة الضيقة والمنازل المتقاربة تشجع على التداخل بين العائلات، إلا أن كل عائلة فى كل منزل تحتفظ بخصوصيتها وتحترم خصوصية الآخرين فى تناسق وتناغم جميل؛ وتحتفظ كل عائلة بمنزلها نظيفا براقا وجميلا رغم بساطته. ولكن سوزان أدركت من اليوم الأول أن عليها أن تتخلى عن جزء مهم من عادتها الغربية. كان عليها أن تتخلى عن فكرة أن تسير فى الطريق العام بدون أن يتعرف عليها أحد. ففى المدن العربية الصغيرة كل شخص يعرف الأخر، ويعرف عنه. وعندما تكون جزءا من العائلة فان ذلك يعنى أن تتقبل حمايتها لك وقلقها عليك، وأيضا تدخلها فى بعض شئونك.
تقول سوزان فى كتابها أن فقدانها لخصوصيتها ليست كلها مسألة ثقافية، فقد اكتشفت أن حياتها فى مجتمع عربى تماثل معيشتها فى حوض سمك شفاف. فان كانت دهشة أصدقائها فى تل أبيب كبيرة، عندما عرفوا إنها اختارت تامرا للإقامة والعمل، كانت دهشة سكان تامرا أكبر عندما رأوا سيدة شقراء يهودية تقيم فى مدينتهم وحدها. فتقول سوزان فى كتابها كيف انه كان يلازمها فى كل لحظة من لحظات النهار والليل الشعور بأنها تحت المجهر، بأنها مراقبة، تتبعها الأنظار فى كل مكان تدرسها وكأنها كائن غريب، لم يكن هناك عداء ولكن فقط دهشة وتساؤل: "ما الذى تفعله سيدة شقراء يهودية وحدها فى مكان مثل هذا؟"
هل تعمل فى الحكومة الإسرائيلية؟ هل تتجسس على المجتمع العربى لحساب الشين بيت؟ كانت بعض النظرات تعكس تلك التساؤلات، ولكن عائلتها العربية الجديدة حذرتها من التحدث بالعبرية فى المدينة حتى لا يتصور السكان إنها جاسوسة. كان السؤال الأساسى الذى يسأله المارة إذا حدث وحاولوا الحديث معها: اين كنت تقيمين قبل مجيئك الى هنا؟ وبسرعة تبدو عليهم الدهشة عندما يعرفون إنها كانت فى تل أبيب، ويتساءلون: لماذا أتيت الى هنا؟ وحتى أن كان الانتقال مرة أخرى الى تل أبيب مسألة سهلة بالنسبة لها، إلا أن عملية الانتقال تظل مسألة عبور حدود، قد لا تكون مرئية، إلا إنها تظل نفسية وحقيقية. فان العربى الإسرائيلى الذى يزور مجتمعا يهوديا يصبح فورا هدفا، كائنا غريبا يمكن اكتشافه من خلال ملابسه وشكله ولغته وثقافته، والعربى الإسرائيلى يدرك من الوهلة الأولى انه يدخل الى مكان هو غير مرحب به، فيه، ويعامل فيه كدخيل. والخطر فى ذهن كل يهودى هو أن "الدخيل" قد يقوم بعمليات عنف أو عداء. ويعرف العرب تماما من خلال الاستفتاءات التى تجرى، أن أغلبية اليهود يريدون طردهم من البلاد.
والعربى فى المناطق اليهودية يتعرض للضرب والإهانة من السكان اليهود ومن الشرطة الذين يتعاملون معه بعنصرية شديدة، ولذلك فان الكثير من العرب الإسرائيليين أعربوا لسوزان عن مخاوفهم من الذهاب الى المناطق اليهودية، ومن كان عليه أن يتوجه الى تل أبيب لشراء مستلزمات عمله مثل خليل المصور، فانه يغادر المدينة فور انتهاء مهمته.

المناخ العام فى تل أبيب وتامرا
تعقد سوزان ناثان مقارنة بين المناخ الاجتماعى العام فى تل أبيب وفى تامرا، فتقول كيف أن مقابل البرودة فى العلاقات فى تل أبيب، فى تامرا يشعر السكان بالفخر فى ترحابهم بالأصدقاء والغرباء على حد سواء. ولكن عندما يقيم المرء فى مجتمع عربى، فان الترحاب به يكون مثل السلاح ذو الحدين.
تشرح سوزان ناثان ذلك بقصة عندما أبلغت احد أفراد العائلة ويدعى حسن، إنها ستذهب الى الصيدلية التى تبعد بضعة كيلومترات من المنزل، وغابت هناك أكثر من ساعة ونصف الساعة، لأن كل شخص تقابله يقف ليتبادل معها أطراف الحديث أو يدعوها الى تناول القهوة، وعندما وصلت الى المنزل سألها حسن بقلق كبير أين كانت، فعندما أجابته، ضحك واقترح عليها أن ترتدى الحجاب فى المرة التالية حتى لا تلفت الأنظار إليها. وأدركت سوزان أن الأمور والمهام تنقضى فى وقت أطول فى مجتمع عربى، عنه فى المجتمعات الغربية، فرغم إنها كانت تجد متعة كبيرة فى ترحيب الجميع بها، إلا إنها كانت تشعر أن ذلك يتسبب فى ضياع وقت طويل، حيث إنها لا تستطيع فى نفس الوقت رفض دعوة من شخص أو الإسراع فى الطريق، لأن ذلك قد يفسر بأنها تتجاهلهم.
وعرفت سوزان قواعد الاستقبال، والمشروبات التى تقدم عندما يكون الضيف مرحب به، والمشروبات التى تقدم عندما يريد صاحب البيت إبلاغه انه حان وقت المغادرة.

مأساة الحدود السياسية
ومن خلال الأحاديث مع المسنين والشباب عرفت سوزان الكثير عن تاريخ المنطقة، وكيف كانت الخليل فى الماضى وقبل إقامة دولة إسرائيل، من المدن المحورية التى كان من السهل الوصول منها الى كل المدن العربية الكبيرة الأخرى مثل بيروت ودمشق وعمان والقدس. ولكن اليوم وبعد أن قسم الإنجليز الدول ووضع الحدود السياسية ونشأت دولة إسرائيل أصبحت القدس هى المدينة الوحيدة التى يمكن الوصول اليها بسهولة، فلم تعد المدن الأخرى تقع داخل الحدود الآمنة بالنسبة لهم. فأصبحت كل من بيروت ودمشق فى دول عدو، بينما باتت عمان تحيط بها قوات عسكرية وتقع تحت حماية مكثفة.
ولكن الحدود تشكل مأساة أخرى للعربى الإسرائيلى أو الفلسطينى. فمنذ حرب 1948 انقسمت العائلات والمجتمعات وأصبح يعيش البعض فى تامرا بينما يعيش العديد من أفراد عائلاتهم والأصدقاء والأحباء فى معسكرات اللاجئين فى لبنان وسوريا منذ أكثر من خمسين عام، بعد أن أجبروا على مغادرة أراضيهم خلال الحرب. وترفض إسرائيل اليوم عودة اللاجئين، كما لا تريد إسرائيل ولا لبنان ولا سوريا أن يعبر المواطنون الحدود من دولة الى أخرى. لذلك فان لقاء العائلات التى تقسمت سواء كانوا إخوة أو أزواج، تظل مسألة مستحيلة.
وتقول سوزان أن تامرا تبدو لها أحيانا وكأنها معسكر لاجئين، مثلها مثل غزة والضفة الغربية، المدن الفلسطينية تحت الاحتلال العسكرى الإسرائيلى، ولكن بدون دبابات أو قوات. وذلك رغم أن تامرا ليست فى حرب مع إسرائيل، بل بالعكس، المواطنون فيها مواطنو دولة ديمقراطية!! وفى حديث مع "الحاجة" فى احدى الأيام، أدركت سوزان أن تصورها كان اقرب مما تصورت للحقيقة. فان معظم مدينة تامرا كان فى حقيقة الأمر معسكرا للاجئين، وكأن هناك سرا غامضا كئيبا وقبيحا لا يريد أحد من أهل المدينة أن يتحدث عنه كثيرا. وتقول سوزان أن الصور التى التقطت فى عام 1948 تظهر، ليس فقط بضعة منازل فى قرية تامرا، ولكن صفوف من المخيمات التى أقامها الصليب الأحمر لإيواء اللاجئين من المعارك.
فى عام 1947، كان تعداد تامرا لا يزيد عن الفين نسمة، ولكن بعد عام ارتفع العدد الى أكثر من ثلاثة ألاف. واليوم نصف سكان تامرا مسجلين على أنهم لاجئين داخليين، رفضت طلباتهم للعودة الى مساكنهم الأصلية. هؤلاء، ونحو ربع مليون عربى اسرائيلى أخر، يعتبرون حسب التعبير الذى تستخدمه الحكومة الإسرائيلية، "حاضرون متغيبون": فهم "حاضرون" داخل إسرائيل فى عام 1948، ولكنهم "متغيبون" عن مساكنهم عندما قامت السلطات بتسجيل ممتلكاتهم فى الدولة اليهودية الجديدة. وتشرح سوزان أن هؤلاء المواطنين فقدوا كل ما كانوا يملكونه فى عام 1948، سواء كانت أرضا أم مسكنا أم حسابا مصرفيا، فقد قامت الدولة الإسرائيلية الجديدة بمصادرته فى عام 1948.
وتؤكد سوزان ما قيل من أن القوات الإسرائيلية دمرت أكثر من 400 قرية فلسطينية خلال وبعد حرب 1948، من اجل منع اللاجئين من العودة الى وطنهم. الى حد انه نشأ فى الحكومة قسما خاصا للتخطيط لتدمير تلك القرى. ولكن تساءلت سوزان: لماذا لم تدمر تامرا، ونحو مئة قرية أخرى؟ والإجابة التى تلقتها كانت: لم تدمر تامرا لسببين: الأول لأنها كانت تقع خلف الطرق الأساسية التى كان يمر منها الجيش الإسرائيلى، لذلك لم يكن يعتبر تدميرها ضرورة عسكرية. والسبب الثانى هو أن تامرا كانت مجتمعا صغيرا، وكان لها تاريخ من التعاون مع السلطات اليهودية التى كانت موجودة قبل إقامة الدولة ومع التجار اليهود المتواجدون فى تلك الفترة. لذلك فقد اعتبرت السلطات الإسرائيلية قرية تامرا مركزا مهما للعمالة الرخيصة فى المنطقة، وبعد فترة قصيرة تحول المزارعون فى تامرا الى العمل فى التعاونيات الزراعية اليهودية التى عرفت باسم كيبوتزيم، أو تحول المزارعون الى أيدى عاملة رخيصة فى مجال البناء لبناء المساكن الرخيصة للاجئين اليهود الذين كانوا يتدفقون الى اسرائيل من أوروبا.
وهكذا لم تدمر تامرا، وبسرعة بدأت تستقبل مئات اللاجئين الفلسطينيين الذين جاءوا هاربين من البطش العسكرى الإسرائيلى فى قراهم مثل دامون وعين هود وبلد الشيخ وهاديثا. فى البداية كان اللاجئون مسئولية الصليب الأحمر، ولكن بسرعة قرر المجتمع الدولى تحويل مسئوليتهم الى الدولة الإسرائيلية. ولكن الدولة الإسرائيلية لم تعمل على تخطيط المدينة لتناسب الاعداد الكبيرة القادمة اليها، بل أعادت تحديد المنطقة لتكون منطقة سكنية ويفقد السكان الاراضى الزراعية فيها. وبعد أن فقد معظم اللاجئين كل ممتلكاتهم بدأوا يعملون من اجل بناء مساكن تأويهم بدلا من المخيمات، وهكذا تحولت القرية الصغيرة الى مدينة ذات كثافة سكانية عالية، فقد زادت عدد السكان بدون أن تسمح لهم إسرائيل بتوسيع رقعة الأرض. وذلك ما يفسر البناء العشوائى لمدينة تامرا ومعظم المدن العربية الآخرى فى إسرائيل.

مدينة لها صفة قرية
وان كانت تامرا تعتبر مدينة بالمعايير الرسمية، فهى، بالمعايير الواقعية، تعمل كقرية صغيرة. فرغم أنها فقدت الاراضى الزراعية بقرارات إدارية من الحكومة، إلا أن المزارعين احتفظوا بحيواناتهم المنزلية مثل الجياد والطيور والمواشى الأخرى التى تقيم فى الحديقة الخلفية لكل منزل. وفى نفس الوقت لا يوجد فى تامرا طريقا تجاريا، به متاجر كبيرة أو مطاعم سريعة مثل ماكدونالد أو غيره. فكل المتاجر الموجودة هى محلية فقط وتختبئ بين المنازل لا يستطيع الزائر العثور عليها بسهولة. أما أن أراد السكان القيام بالتسوق الحقيقى فان عليهم التوجه الى المدن الكبيرة القريبة منهم.
أما بالنسبة للطرق، فهى غير ممهدة ولم يتم التخطيط لها؛ لذلك، فان المجالس المحلية لم تهتم بوضع أسماء للطرق أو أرقام للمنازل. وتقول سوزان، إنها فى البداية تصورت إنها لن تستطيع أبدا التوصل الى فهم الطرق أو معرفة الطريق الذى يؤدى من نقطة الى أخرى، وكانت تسير يوميا على أقدامها بالساعات حتى تستطيع أن تفهم كيف تتحرك بين تلك الطرق الملتوية أو تلك التى توقف العمل فيها فبقت نصف ممهدة، وفى بعض الأحيان تفاجأ سوزان أن الطريق الذى تصورت انه يؤدى الى نقطة معينة، قد تم بناء جدارا فى نهايته لان إحدى العائلات قررت بناء مسكنها فى المساحة الوحيدة التى تبقت لديها.

تقاليد عربية/يهودية
تقول سوزان أن إسرائيل والغرب يقضون معظم الوقت يحذرون اليهود من العرب ويثيرون فيهم الخوف من "الفكر العربى" ومن ثقافاتهم، ويثيرون فيهم الخوف من الثقافة العربية والإسلامية، من خلال التركيز على الاختلافات بينهم وبين الغرب وإسرائيل. وتقول سوزان انه رغم إنها كانت على علم من أن العرب واليهود جاءوا من أصول سامية واحدة، ومن نفس المنطقة، إلا إنها دهشت كثيرا لاكتشاف مدى التقارب بين التقاليد العربية واليهودية، خاصة فى احتفالاتهم بالزواج أو بالجنازات. فبالنسبة للموت، تقول سوزان أن المتوفى فى الدين الإسلامي واليهودى يجب أن يدفن فى نفس اليوم قبل غروب الشمس. ويقام المأتم فى الحالتين لمدة ثلاثة أيام بالنسبة للمسلمين، وسبعة أيام لليهود، حيث يبقى المنزل مفتوحا من الصباح الى المساء، يستقبل المعزين من الرجال والنساء، كل فى مكان منفصل. والسبب فى الحالتين واحد: لكى تستطيع عائلة المتوفى أن تعبر عن حزنها بين أفراد العائلة والأصدقاء، حتى تستطيع بعد ذلك العودة الى أعمالها المعتادة. فى تلك الأيام الثلاثة تقوم العائلات الأخرى بطهى طعام لعائلة المتوفى، ويتناول منه المعزون المتواجدون فى المنزل فى وقت الغذاء. وفى الحالتين تستمر العائلة فى حزنها تعبر عنه عن طريق الامتناع عن الاحتفالات وسماع الموسيقى.
وتتشابه التقاليد أيضا فى احتفالات الزواج. فى تامرا يقيم العرس لمدة ثلاثة أيام على الأقل، يوم للاحتفال بالعروسة، ويوم للاحتفال بالعريس، واليوم الثالث هو العرس نفسه. وفى تلك الأيام يغلق الشارع الذى يجرى فيه العرس، وتصدح الموسيقى العالية وكأنها دعوة مفتوحة لكل أهل البلدة لحضور الاحتفال.

الحجاب يحترم أنوثة المرآة
لقد انتقد الغرب بشدة الحجاب الذى ترتديه المرآة المسلمة، واعتبره تعبيرا عن قمعها. ولكن تقول سوزان أن الغرب فى انتقاده للحجاب لم يتعرض قط لمعنى الحجاب فى حياة الفتاة المسلمة. كان ذلك أيضا من الأمور التى أثارت تساؤلات كثيرة لدى سوزان. وكانت دهشتها كبيرة عندما سألت سعاد التى تبلغ السابعة عشر من عمرها، أى التقاليد الإسلامية التى تعنى الكثير لها؟ فأجابتها انه الحجاب؛ فقد كانت سعاد فتاة متحررة غير محجبة، ولكن بالنسبة لها الحجاب "يجعلها فخورة بأنوثتها"، فتقول: "الحجاب هو عكس القمع، لان المرآة التى تتحجب تشعر بأنها حرة وفخورة لكونها امرأة، فهو يعطى للمرآة كرامتها. وتقول سعاد أن مشكلة الغرب انه يركز فقط على الحجاب فى تقاليد ملابس المرآة المسلمة، لأنه أكثرها وضوحا. ولكن الملابس المحتشمة سواء للمرآة أو للرجل تحافظ على كرامة المسلم، وهى من الأمور المهمة فى حياة المجتمع، والملابس من الوسائل الظاهرة التى يعلن من خلالها المرء انه يستحق الاحترام.
وبعد أن عاشت سوزان بعض الوقت فى تامرا، أصبحت صورة الفتيات فى الغرب، والذين وصفتهم سوزان بقولها: "اشعر بالصدمة كلما توجهت الى أوروبا أو أمريكا، وشاهدت كل تلك الصور العارية للفتيات، فى كل مكان."
نعم، لقد غيرت حياة سوزان فى بلدة عربية تصورها لأشياء كثيرة فى الحياة.

13 Jan 2007

كتب: الجانب الاخر فى اسرائيل 2


يهودية بريطانية تقرر البحث عن "وجه" العربى الإسرائيلى
العلاقة بين إسرائيل والعرب تماثل الابرتايد فى جنوب أفريقيا العنصرية
الحكومات الإسرائيلية غذت الخوف ضد العرب ليبقوا فى مجتمعات منعزلة

أعلن فى الأسبوع الماضى أن حزب العمل الإسرائيلى سوف يعين لأول مرة وزيرا عربيا، يدعى غالب مجادلة، من الحزب فى الحكومة الإسرائيلية التى يرأسها إيهود أولمرت، وزيرا لشئون العلوم والرياضة. ولقد قوبل الخبر بالكثير من الانتقاد من قبل أعضاء الحزب وأعضاء الكنيست، كما أثير جدلا كثيرا وتساؤلات من قبل العرب الذين انتقدوا مجادلة منذ أن انضم الى الحكومة أطلق عليها حكومة حرب بعد أن ضمت من بين وزرائها افيجدور ليبرمان الذى يطالب بتهجير العرب من إسرائيل.
ولقد زعم البعض أن تعيين وزيرا عربيا هى محاولة من حزب العمل لكسب أصوات فى الانتخابات الداخلية القادمة. بينما أكد العرب الإسرائيليين أن غالب لا يمثل العرب فى إسرائيل لأنه أولا عضوا فى حزب صهيونى ويمثل الحزب، كما انه لا يمثل المصالح الحقيقية للعرب الإسرائيليين. وأخيرا قال البعض الأخر أن وجود غالب فى حكومة تضم الوزير العنصرى ليبرمان يكفى لكى لا يثق فيه العرب.
هذه الثقة المفقودة بين العرب الإسرائيليين والحكومة الإسرائيلية ليست بدون أساس. بل هى النتيجة الطبيعية لنحو ستين عام من السياسة الصهيونية التى استهدفت فى الأساس طرد الفلسطينيين من أرضهم سواء إجبارا أو طواعية، من اجل فتح الباب لليهود فى الخارج الى العودة الى إسرائيل. ومن بين هؤلاء اليهود كانت سوزان ناثان، البريطانية التى قررت فى عام 1999، وبعد أن تجاوزت الخمسين من عمرها أن تترك وطنها بريطانيا لكى تمارس حقها فى "العودة" الى إسرائيل.
تقول ناثان فى كتابها "الجانب الأخر من إسرائيل"، والذى عرضنا جزء أول منه فى الأسبوع الماضى، أن عودتها الى إسرائيل كانت نقطة تحول فى نظرتها الى إسرائيل التى كانت قد تشكلت خلال وجودها فى بريطانيا، وتكونت من صور الهاربين من الهولوكوست فى أوروبا وهم يغادرونها فى السفينة الشهيرة "إكزودوس" متوجهون الى إسرائيل، ثم رجوعها بهم بعد أن غيرت بريطانيا رأيها تحت ضغط من الحكومات العربية. كما تشكلت الصورة من مظاهر العداء للسامية التى قابلتها فى بريطانيا فى طفولتها فى الفترة بعد الحرب العالمية الثانية. لذلك فعندما جاءت الى إسرائيل، تقول ناثان أن ذهنها كان ملئ بالأفكار الرومانسية حول العقيدة الصهيونية والدولة اليهودية، وكانت تؤمن أن الدولة اليهودية قامت على ارض خالية، عقيمة "أرض بلا شعب، من اجل شعب بلا أرض". وكانت تصدق ما يقال من أن الشعب اليهودى قام بزراعة الأرض وجعل الصحراء تزدهر، وملأ منطقة خالية فى الشرق الأوسط بالكيبوتز، أى المزارع الجماعية التى كانت تعتبر الأساس الذى قامت عليه الدولة اليهودية.
لم تتصور سوزان ناثان أن فى تلك البلاد التى رسمت لها صورة مثالية، هناك يعيش شعب أخر، ولكنه معزول تماما عنهم. وان هناك أكثر من مليون عربى يشاركون اليهود الدولة، الفلسطينيون الذين بقوا فى الأرض بعد حرب 1948، وأصبحوا مواطنين إسرائيليين بالصدفة، وليس عن قصد. هؤلاء العرب الإسرائيليين ظلوا بالنسبة لناثان "غير مرئيين" كما هم لكل الإسرائيليين اليهود الآخرين. وظلت ثقافاتهم ومجتمعهم وقصتهم فى غموض.
كانت الصدمة الأولى، بالنسبة لناثان، التى اكتشفت وجود عرب فى الدولة الإسرائيلية عندما اضطرت الى التوجه الى المستشفى لعلاج عينها. وهناك، "رأت" مجموعات أخرى من الإسرائيليين لم تكن تراهم من قبل: عرب مسيحيين، دروز، مسلمين. معظمهم من هؤلاء الذين كان يطلق عليهم "العرب الإسرائيليين".
أما الصدمة الثانية فقد تلقتها فى نفس المستشفى حينما رأت سيدة من اليهود المتشددين تحمل طفلها الذى يبلغ شهرا من عمره، ولقد أجرى لتوه عملية فى عينه، وفى المساء جاء زوجها يزورهما. كان زوجها يرتدى الطاقية اليهودية، وتتدلى على جانبى وجهه خصلتا الشعر، وعلى كتفه يحمل بندقية وفى جانبه مسدسا، وهو زىَ المتعصبين من اليمين المتشدد الإسرائيلى. كانت صدمة ناثان كبيرة عندما رأت رجلا مسلحا يدخل مستشفى يرقد فيها نساء وأطفال، وما أثار دهشتها مرة ثانية، إنها هى الوحيدة فى العنبر التى اعتبرت المسألة كلها غريبة.
وفى حديث معه، تكشف لناثان مدى التعصب الذى يسيطر على فكره، وكيف انه لا يتحرك بدون سلاح، وعندما اقترحت عليه أن يعيش فى الحى اليهودى فى القدس، أجابها قائلا: "القدس كلها ملكا لليهود".
فى تلك اللحظة أدركت ناثان أن هناك من "يسرق" مساكن العرب فى الجانب الفلسطينى من القدس، الجزء الذى احتلته إسرائيل بعد حرب 1967، رغم أن هناك مناطق شاسعة من البلاد يستطيع أن يسكن فيها. كما أدركت ناثان أن فى إسرائيل مجتمعات أخرى كثيرة تعانى من المشاكل والمصاعب فى العيش، مثل المزراحى، وهم اليهود العرب، الذين جاءوا من دول شمال أفريقيا والعراق وسوريا ومصر، ويعاملون كدرجة أدنى عن يهود أوروبا الاشكينازى، الذين يحكمون البلاد. ولكن ما أثار اهتمام سوزان ناثان هم العرب الإسرائيليين السكان الأصليين. وانطلقت التساؤلات: اين يعيشون؟ ولماذا ظلوا فى الخفاء طوال عامين كاملين منذ أن أقامت سوزان ناثان فى إسرائيل؟ لماذا ظلوا بلا وجه، بلا كيان، بلا أى وصل معها رغم عملها فى الشأن العام؟ لذلك رحبت ناثان بأول زيارة من خلال عملها لقرية عربية، قرية تامرا التى قررت أن تقيم فيها فيما بعد، وعندما دخلت تامرا للمرة الاولى شعرت إنها انتقلت الى إسرائيل أخرى، إسرائيل لم تراها من قبل، تقع فى الجانب الأخر منها.

قرية خارج الزمان والحدود
لم تنته الصدمات التى كانت تتلقاها سوزان ناثان فى بحثها عن العرب الإسرائيليين. فكانت أول تجربة لها فى زيارة قرية عربية إسرائيلية من أكثر التجارب قسوة. تقول سوزان انه لم يكن من الممكن أن تصدق إنها، حال خروجها من الطريق السريع الرئيسى، وبالقرب من مدينة الخليل التى يعيش فيها اليهود الأغنياء، سوف تجد نفسها فى مكان داخل إسرائيل، ولكنه مختلفا تماما عن أى مكان أخر. ستجد نفسها فى قرية عربية تعيش خارج الزمن وخارج الحدود الوهمية الإسرائيلية.
فى قرية تامرا تجسدت أمام عينا ناثان كل الاختلافات الذى فرضتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على المجتمعات العربية. فقد كان من الواضح أن القرية تعانى من كثافة سكانية عالية، كما كان من الواضح الاختلاف فى المصادر المحلية والاستثمارات، وفى المناخ العام الذى يسود القرية من الإحباط واليأس، بسبب الإهمال الذى تعانيه من الحكومة والمسئولين. لقد كانت زيارة ناثان لقرية تامرا من الأمور التى أثارت اضطرابا كبيرا لديها، فقد أعادت لها صورة أخرى من الماضى، صورة التفرقة العنصرية، الابرتايد، التى شاهدتها فى جنوب أفريقيا فى أثناء أقامتها هناك فى طفولتها، نفس رائحة القمع فى تامرا وفى قرى السود فى جنوب أفريقيا.
وفى لقاء مع أستاذ جامعى عربى، الدكتور أسد غانم، احد كبار الأساتذة العرب الإسرائيليين، تحدث عن التمييز الذى يعانى منه العرب الإسرائيليون على جميع المستويات وفى جميع المجالات: العمل والتعليم وتخصيص الاراضى والميزانية المحلية. ولكن أكثر القضايا صعوبة كانت مسألة الاف المساكن التى تعتبرها الدولة غير قانونية، والمهددة دوما بالهدم. ففى تامرا وحدها هناك 150 مسكنا يواجه قرار الهدم. فتقوم الشرطة باستهداف منزلا من مساكن العرب، وتأتى البولدوزرات فى الفجر لتهدم المنازل غير القانونية. وتقول ناثان أن هدم المنازل التى أحيانا تعلو أربع طبقات، يعنى تشريد عشرات العائلات الكبيرة، ومئات الأفراد، فى لحظة.
ومن حديثها مع الدكتور غانم اكتشفت ناثان كذب السلطات الإسرائيلية التى كان تؤكد أن العرب بنوا منازلهم بشكل غير قانونى لأنهم لا يريدون تسديد ثمن التسجيل أو لأنهم يبنون منازلهم على أراضى حكومية. ولكن الدكتور غانم شرح لناثان أن لا احد من العرب يريد أن يستثمر أمواله كلها فى بناء منزل يعرف انه سوف يهدم فى أى وقت، بل أن الواقع الذى لا تعرفه سوزان هو أن العائلات العربية اضطرت الى بناء منازلها بدون ترخيص لان فى معظم الاحيان الدولة ترفض اعطائهم التصاريح، وان منزله هو شخصيا بنى بدون تصريح بناء وانه مهدد بالزوال فى أى لحظة، رغم أن الارض ملكا لعائلته لعدة أجيال من قبل. وعندما قرر البناء رفضت الدولة إعطاءه التصريح، واضطر منذ ذلك الوقت دفع غرامة تصل الى 15 ألف جنيه استرلينى فى كل مرة لكى يوقف قرار الهدم. وتحولت حياتهم الى عملية روتينية من دفع الغرامة لمنع الهدم، وكأنها أتاوة تطالب بها الدولة الإسرائيلية حتى لا تنفذ قرار الهدم. ورغم الغرامة إلا أن أهل المنزل يعيشون فى خوف وعدم أمان دائم من أن يستيقظوا يوما على صوت البولدوزر، أو أن يعودوا بعد العمل الى المنزل فلا يجدون إلا أطلال.
وأدركت سوزان ناثان أن هذه السياسة التى تتبعها الدولة الإسرائيلية ضد العرب الإسرائيليين ما هى إلا محاولة أخرى لدفعهم الى مغادرة البلاد. إنها سياسة التطهير العرقى مرة أخرى!! فان الدولة تفرض على عائلة غانم والاف العائلات العربية الأخرى أن تعيش فى خوف مستمر من الهدم والتشريد، وفرضت على أبنائهم أن يكبروا فى مناخ من الخوف المستمر من ان يعودوا الى المنزل يوما ما ويجدوا بدلا منه أطلال.

الهجرة الى ومن إسرائيل
من الأمور التى كانت تؤرق سوزان ناثان فى علاقاتها مع العرب الإسرائيليين هو التساؤل الدائم عن الأسباب التى دفعتها لأن تمارس حقها فى العودة الى إسرائيل؟ وقالت ناثان إنها أدركت فجأة، وبقسوة، أن قرارها ذلك، مثل قرار الآلاف الآخرين، كان على حساب ملايين الفلسطينيين الذين يعيشون حتى الآن فى معسكرات لاجئين فى أنحاء منطقة الشرق الأوسط. وقررت ناثان أن تبحث وتعرف ما الذى حدث بالفعل. وبدأت تقرأ كل ما يأتى فى طريقها حول وضع العرب الإسرائيليين، وتسأل كل من تعرفه من اليساريين ومن الحكومة. ولكن كل الإجابات التى كانت تأتيها من أصدقائها الذين من المفترض أنهم على علاقة طيبة مع العرب الإسرائيليين، أنهم على علاقة طيبة مع صاحب المطعم العربى الفلانى لان مطعمه جيد، أو مع صاحب ورشة أصلاح سيارات فى قرية عربية لان أسعارها رخيصة. ولكن عندما كانت تسألهم ناثان عما يتحدثون مع أصدقائهم العرب، وأى قضايا يتباحثون فيها معا؟ كانوا ينظرون اليها بدهشة وكأنها كائن غريب، ويقولون لها أن علاقاتهم مع العرب الإسرائيليين لا تصل الى هذا المستوى.
وبسرعة شعرت سوزان أن العلاقة بين اليهود والعرب فى إسرائيل هى نفسها علاقة السيد والخادم التى كانت سائدة فى جنوب أفريقيا العنصرية. ولمدة أسبوع عاشت سوزان ناثان فى معاناة كبيرة وكأنها كانت "فى حالة تنقية نفسها من الأكاذيب التى عاشت عمرها تسمعها وتصدقها". وشعرت أن الدولة الإسرائيلية تدفعها الى تغيير أسلوب حياتها، والى اختيار أى جانب من إسرائيل تعيش فيه؟ كان عليها أن تختار إما أن تعود لتعيش فى تل ابيب وتتجاهل مثل سائر اليهود، المأساة التى يعيش فيها العرب، أو أن تجعل من حياتها معنى، وتعمل على توضيح الواقع والعمل على تغييره؟
لم يكن الاختيار صعبا. فلم يكن من الممكن لسوزان ناثان أن تستمر فى المعيشة مع الإسرائيليين فى تل ابيب، كانت علاقاتها معهم تخنقها، حسب تعبيرها. ولذلك عندما جاءتها الفرصة لتخرج من تل أبيب وتعمل فى تامرا كمدرسة فى مؤسسة ابن خلدون، لتعليم اللغة الإنجليزية لأصحاب المهن، لم تتردد فى أخذها. كما لم تتردد فى السكن مع عائلة ابو حجاز فى منزلهم الذى يقع على التل وسط المدينة.
لم تدرك ناثان مدى تأثير قراراها على أصدقائها اليهود، فتقول إنها فقدت أصدقائها اليهود ما بين ليلة وضحاها، فقد اعتبر اليهود ان ناثان خرجت من الفريق، من الجماعة، وبذلك أصبحت ضدهم، طبقا للقاعدة التى تقول: "من ليس معنا فهو ضدنا". ولكن بالنسبة لناثان كان المهم هو الإنسان، وليس المؤسسات أو الشعارات، وكانت تريد من خلال عملها وإقامتها كيهودية فى قرية عربية أن تثبت أن الخوف الذى يفصل بين الجانبين ليس حقيقيا ولا واقعيا. ولكنه خوف قام على الجهل، هذا الجهل بالأخر الذى تعمل الحكومة الإسرائيلية على تشجيعه بين مواطنيها اليهود، حتى يظلوا يعيشون منفصلين عن جيرانهم العرب.

وحدهم الضحايا
بعد تفكير طويل حول الأسباب التى تدفع اليهود الإسرائيليين الى التمسك بسياسات وعقيدة دولتهم مهما كانت، ويظلوا سجناء تلك المعتقدات مهما حدث، سواء كانت على حق أو على خطأ، وجدت ناثان أن ذلك يعود الى شعور اليهود العميق بفكرة التضحية التى شكلت تاريخهم سواء من القمع أو الاضطهاد أو الهولوكوست. هذا التاريخ جعل اليهود يرون أنهم وحدهم الضحايا فى هذا العالم، سواء كأفراد أو كمجتمع إثنى، وتفشى هذا المعتقد بين اليهود فى إسرائيل وفى أنحاء العالم، بين الفقراء والضحايا وحتى بين اكثرهم نجاحا فى الغرب. ومن خلال تلك العقيدة قام اليهود ببناء عالم "أليس فى بلاد العجائب"، ورغم أنهم بنوا دولة قوية تملك رابع اقوى جيش فى العالم، وترسانة نووية كبيرة ولكن غير معلن عنها حتى اليوم، إلا أنهم لازالوا يعيشون فى شعور جارف بانهم مهددون بالقضاء عليهم سواء من جيرانهم العرب أو من تبقى من الفلسطينيين الذين يعيشون فى الأراضى المحتلة.
ولقد استغلت الحكومات الإسرائيلية المقاومة العربية والعمليات الانتحارية التى يقوم بها الفلسطينيون لكى يغذوا دائما هذا الشعور بانهم "وحدهم الضحايا"، وهو ما منعهم من رؤية الصورة الكاملة الكبيرة لما يحدث بالفعل.
ولكن استطاعت سوزان ناثان أن تنتشل نفسها من هذا الشعور، لأنها عاشت ترفض فكرة الخوف من الأخر. وقررت أن تعيش مع العرب فى قراهم وبأسلوب حياتهم، وان كان اصدقائها اليهود قاطعوها لهذا القرار، فانها لم تجد ترحاب كبير فى البداية من جانب العرب، أو بالاصح قوبل قراراها بالشك فى نواياها من البداية. إلا إنها استطاعت بسرعة أن تزيل الشكوك وتكسب صداقة زملاءها و"عائلاتها" العربية كما يحلو أن تصفها كلما تحدثت عن العائلة التى تسكن فى منزلهم.

التمييز العنصرى ضد العرب
أدركت سوزان ناثان بعد أقامتها وسط العرب أن هناك سياسة إسرائيلية منهجية تستهدف دفع العرب الى الهروب من وطنهم الى الخارج. من بين تلك السياسات "التمييز فى التعليم". فمن خلال صديقة عربية تدعى زينب، عرفت ناثان أن الدولة تعطى المجتمعات العربية ميزانية ضئيلة للمدارس العربية، وتتكدس المدارس والفصول الدراسية بالتلاميذ، وتختصر ساعات التعليم، وتفرض المواد التى يجب تدريسها فى المدارس العربية، وتمنع بعض المواد، لا تمنع من المدارس اليهودية، ومراقبة المدرسين المعينين ومديرى المدارس مراقبة شديدة، ورفد أى مدرس أو مدير مدرسة معروف عنه اهتمامه بالقضايا العربية والتاريخ الفلسطينى.
وان كانت القوانين تفرض على كل مدرسة فى إسرائيل أن يكون لها جهاز تبريد فى الصيف، فان المدارس العربية تستثنى من هذا القانون لان الميزانية لا تسمح، كما لا تسمح الميزانية لشراء أجهزة الكمبيوتر، مثلما يحدث فى المدارس اليهودية، ويصبح على عائلة التلميذ شراء تلك الأجهزة والكتب أيضا.
لماذا يجهل اليهود كل تلك المشاكل؟ أو لماذا يتجاهلونها؟ حتى فى المنظمات الأهلية حيث تجرى لقاءات ومناقشات، تمنع الدولة مناقشة بعض الموضوعات مثل الموضوعات السياسية، لذلك فشلت تلك المؤسسات والجمعيات والمنظمات أن تستمر بعد الانتفاضة الثانية لان كل الموضوعات التى تفصل بين المجتمعين غير مسموح مناقشتها.
كما لاحظت ناثان أن اليهود المشاركين فى تلك الجمعيات غير مؤهلين لكى يقوموا بالتضحية من اجل التوصل الى حلول وسط. فقد كانوا يعيشون فى خوف من أن يؤدى دعم المساواة مع العرب الى القضاء على هوية الدولة اليهودية التى يريدونها. لذلك فان كل محاولات اليساريين من اليهود وأصحاب المنظمات التى تدعو الى السلام، لم يصلوا الى حد المطالبة بالمساواة مع العرب، وخذلوا أصدقائهم من العرب الذين تصوروا أنهم مختلفون.

سفينتا العودة والخروج
من بين أكثر الصور التى ظلت تؤرق سوزان ناثان فى حياتها الجديدة وسط العرب الإسرائيليين، تلك التى قصها عليها احد أصدقائها العرب من التاريخ، لتكشف لها إنها عاشت حياتها تسمع عن التاريخ اليهودى فى فلسطين بدون أن تعرف شيئا عن الشعب الفلسطينى ولا ثقافته، كما لو كانت بلا أهمية.
تلك الصورة تجسدت أمام ناثان عندما قرأت السيرة الذاتية للدكتور مفيد عبد الهادى الذى عاش فى القدس مع أسرته لمدة أجيال عديدة. فى السيرة جزء يصف هروب عائلة الدكتور عبد الهادى، مع عدد كبير من اللاجئين من فلسطين فى عام 1948، بعد أن أعلن عن قيام دولة إسرائيل. وفى نهاية الفصل يصف عبد الهادى السفينة "الملك فؤاد" التى حملت اللاجئين الفلسطينيين الى السويد، بعضهم خرج نهائيا تاركا وراءه أرضه وأصدقائه وأسرته. وعندما بدأت "الملك فؤاد" تبحر فى البحار الى السويد، تصادف إنها التقت مع سفينة أخرى متجهة الى الاتجاه المعارض، الى ارض فلسطين، تحمل على متنها المئات من اليهود يغنون ويرقصون فرحا بالتوجه الى "أرض الميعاد". وكتب عبد الهادى يقول: "عند مرورنا بالسفينة الأخرى، رفع الركاب فى سعادة بالغة، علم إسرائيل". إنها سفينة "اكزودوس" التى ألهمت سوزان ناثان فى طفولتها، وشجعتها على أن تتجه الى إسرائيل يوما ما لممارسة حقها فى العودة كيهودية.
وأدركت سوزان أن اليهود الإسرائيليين غير قادرين على مواجهة أو التعامل مع الجذور الحقيقية للمشاكل فى الشرق الأوسط، أو قبول دورهم فى المعاناة التى يشعر بها الفلسطينيون. ويظل اليهود يعتبرون ضحية معاداة السامية سواء فى أوروبا أو فى الدول العربية. ويعتبرون أى شخص يتهم اليهود أو الإسرائيليين باضطهاد العرب، بأنه معادى للسامية.