14 Oct 2008

الانتماء قرار وليس هبة


أدهش عندما اسمع من بعض الشباب عبارات مثل: "لم يعد عندى شعرة انتماء للبلد"؛ أو "كيف اشعر بالانتماء لوطن بينما الفساد فى كل مكان؟" أو "لماذا اشعر بالانتماء إن كنت لا أجد العمل؟".. وأدهش أكثر عندما يذهب البعض الى حد القول انه غير مستعد لان يموت من اجل الأرض ولا الوطن، لأن الوطن لا يعطيه شيئا و"المواطن الذى لا يحصل فى الوطن على لقمة عيش، فسوف يكفر حتما به".
وكأن الوطنية سلعة قابلة للمقايضة والمساومة؛ والانتماء هبة تمنحها الحكومة للمواطن أو تسلبها منه؛ إن أعطتنا العمل والسكن ولقمة العيش، شعرنا بالانتماء الى الوطن ودافعنا عنه، أما وإن مر الوطن بمحنة، تنصلنا منه وبحثنا عن آخر.
ولكنى لا أدهش عندما أرى آخرين كثيرين، بالمئات، وربما بالآلاف أو الملايين، يشعرون بالانتماء الى وطنهم لمجرد ان أجدادهم عاشوا فيه فى الماضى، واليوم هم يعملون فيه من اجل أن يعيش فيه أحفادهم وأحفاد أحفادهم فى المستقبل؛ لا أدهش عندما أرى كل هؤلاء يفكرون فى وطنهم ويعملون من اجل أبناء بلدهم؛ فنجدهم سواء أفرادا أو جماعات، يعملون فى صمت ودأب وحماس ولا يساومون على وطنيتهم وانتمائهم.
وتتوالى النماذج، فنسمع عن جمعيات أنشأها الشباب مثل "بنك الطعام" الذى يتبرع فيه شباب بوقتهم وجهدهم، ويعملون بجد ومسئولية من اجل ألا ينام أحد بدون عشاء، ونسمع عن جمعيات أخرى أسستها مجموعة من النساء المصريات مثل "أولادنا.. مستقبلنا" لدعم المدارس الفقيرة ومساعدة التلاميذ إيجاد مناخ علمى إيجابى يكبرون فيه؛ أما الجمعيات الخيرية فهى عديدة تقدم القروض الصغيرة لمساعدة الآخرين إنشاء مشاريع الصغيرة وتعمل بنشاط فى جميع المجالات؛ وعلى مستوى الأفراد، هناك أمثلة لشباب منتمى قرر أن يساهم فى رفعة وطنه، فنسمع عن شابة تدعى ياسمينا قررت أن تذهب الى أفقر الفقراء فى أفقر الأحياء فى القاهرة تدعى إسطبل عنتر، حيث أسست مدرسة الفصل الواحد، يتعلم فيها كل هؤلاء الذين رفضتهم المدارس الأخرى لسبب أو لأخر، وبذلك أعطت المحرومين الفرصة لأن ينهضوا بأنفسهم مرة أخرى.
وهناك جمعيات إسلامية وأخرى قبطية، لا تفرق فى عطائها ما بين مسلم أو مسيحى، فان الخير لا يعرف دين أو طبقة اجتماعية، تلك الجمعيات مثل "الهيئة القبطية الإنجيلية" التى حولت التحديات الى فرص فى أنحاء القطر، من الصعيد الى الإسكندرية، تقيم الحوار وتقدم المشروعات فى كل المجالات التعليم والتنمية البشرية، وطرح البرامج وإنشاء الجمعيات والقرى مثل قرية الأمل للتعامل مع المعاقين والايتام.
ولا أدهش عندما اسمع عن أبناء قرية "كفانا الأشراف"، وهى قرية "كانت" فقيرة ترتفع فيها نسبة البطالة الى معدلات عالية، وتتداعى فيها البنية التحتية، وتتآكل أرضها الزراعية، قرروا ونجحوا أن يحولوها الى واحدة من أغنى القرى من ناحية الإنتاجية الزراعية، لا يوجد فيها فقير ولا عاطل، ونشأت فيها المدارس والمعاهد وتأسست جامعة.
ولا أدهش عندما أسمع عن قرية أخرى تدعى "النخيلة"، قرية معزولة فى أقاصى الصعيد، عاش أبناؤها، الذين لا يزيد عددهم عن 40 ألف نسمة، فى عبودية بسبب سيطرة قطاع الطرق عليها وسيادة قانون القوة، فتحولت الى قرية جرداء تعيش فى خوف دائم؛ قرر أبناؤها وضع حدا لتلك العبودية. ومن خلال تأسيس جمعية أطلقوا عليها اسم "معا"، استطاع أهل القرية "معا" القضاء على قطاع الطرق، والنهوض بقريتهم لتصبح قرية واعدة يتعلم فيها الأطفال والشباب وتتوالى فيها مشاريع التنمية التى يتشارك فيها الجميع كبارا وصغارا.
وتتوالى الأمثلة عن مواطنين شعروا بالانتماء لوطنهم، وعلى استعداد للموت من اجله، لأنهم ساهموا ولو بجزء صغير فى تنميته ونهضته ولن يفكروا أبدا فى تركه ليتمتعوا بخير بلاد أخرى لم يساهموا فيه.هؤلاء يعرفون أن الوطن إن مر بأزمة فستكون عابرة وسوف تنتهى بفضلهم لأنهم يتكاتفون لإنقاذه؛ هؤلاء يمثلون ومضات براقة تنير طريقنا، ونبت أخضر متناثر، مع رعايته سيكبر يوما ما ليحقق النهضة.
أما كل الذين قرروا ألا يشعرون بالانتماء، فقد فقدوا جزء كبيرا من كينونتهم، وأصبحوا مثل فرع الشجرة الذى انخلع من جذوره فتقاذفته الرياح والأمواج بلا هدف أو معنى. هؤلاء لن يشعرون أبدا بالانتماء الى أى شئ: لا وطن ولا عائلة ولا حتى فكرة أو مبدأ.

No comments: