6 Nov 2008

الهدية المسمومة

قدم صندوق النقد الدولى عرضا سخيا الى دول العالم الثالث، فتعهد رئيسه دومينيك ستراوس- كان، باستخدام كل موارد المؤسسة المالية الدولية لمساعدة الدول النامية على تقوية اقتصادياتها وتعزيز أنظمتها المالية وحماية المتضررين من تداعيات الأزمة المالية العالمية. ولكن يأتى العرض بعد أيام قليلة من تحذيرات رئيس البنك الدولى ريتشارد زوليك، من أن العالم الثالث والدول النامية هى أكثر المتضررين من الأزمة المالية وكأن الأخير قد مهد الطريق عن طريق بث الخوف فى النفوس، حتى لا تستطيع الدول النامية رفض العرض السخى.

ولكن لماذا ترفض الدول النامية هدية صندوق النقد الدولى؟ لماذا تدير ظهرها لكل تلك الأموال الغزيرة، التى سوف تساعدها بلا شك، فى مواجهة الأزمة؟ ولماذا التشكيك فى هذا الكرم الدولى؟ لأنه فى خارجه كرما، وفى جوهره يحمل الكثير من السموم. لأن الهدية هى فى الحقيقة فصل جديد من الفصول التى كتب عنها جون بيركينز، الخبير الاقتصادي، وصاحب كتاب "اعترافات قاتل اقتصادى مأجور"، تهدف الى إعداد الظروف لكى تضع المؤسسة الدولية يدها على ثروات تلك الدولة؛ فتبدأ الفصول بإغراق الدولة التى وقع عليها الاختيار بالقروض، وبالتالى بالديون، الى أن تصبح غير قادرة على السداد. ثم يبدأ الفصل الثانى بتوجيه إنذار شديد اللهجة الى تلك الدولة، بضرورة الدفع وإلا...، ويبدأ الفصل الأخير بالتهديد بالقتل أو إثارة إضطرابات شعبية تؤدى الى إسقاط النظام الحاكم، إلا إذا وافق النظام على التنازل عن سيادته على ثرواته. ولا ننسى أيضا أن القروض المعروضة لن تذهب الى شركات وطنية، بل الى شركات كبرى تعددية متعددة الجنسيات التى ستقوم بالاستثمار فى الدولة.
أن السيناريوهات المختلفة التى تم الإعلان عنها تتطابق مع نظرية نعومى كلاين التى كتبت عنها فى كتاب "عقيدة الصدمة" ووصفت كيف تقوم الشركات الكبرى باستغلال الأزمات والإضطرابات التى تحدث فى مكان ما، أو التى تثيرها فى أحيان أخرى، من اجل أن تتدخل لتحول المكان لصالحها، أى لصالح حفنة من الأشخاص، وغالبا ما يكون الفقراء هم دائما الضحية. وتعطى كلاين أمثلة عما حدث فى دول تعرضت لكوارث طبيعية مثل التسونامى الذى دمر وأغرق مدنا كاملة فى جنوب شرق أسيا، فتدخلت الشركات الكبرى بحجة الاستثمار لإعادة بناء المدن، فقامت بالفعل بإعادة البناء ولكن ليس منازل للصيادين بل منتجعات مرفهة، ومراكز تجارية ضخمة، أما الصيادون فقد وجدوا أنفسهم بلا مأوى فى المنطقة التى كانوا يعملون فيها ويحصلون منها على رزقهم. نفس الشئ حدث فى نيو اورليانز بالولايات المتحدة التى غرقت أيضا بعد إعصار كاترينا، فكانت فرصة لإلقاء السكان الأصليين الفقراء خارج المنطقة وأعيد بناء المدينة لصالح طبقة أخرى تماما.
من جهة أخرى يتم إثارة إضطرابات مقصودة، مثلما حدث فى بعض دول أمريكا اللاتينية مثل شيلى أو كما حدث فى العراق، وتستغل تلك الإضطرابات لإزالة كل ما كان فى السابق، وإعادة البناء حسب مصلحة الإدارة الأمريكية والشركات متعددة الجنسيات، حتى ولو كان ما أزالوه حضارات عريقة.
لذلك فان الأزمة المالية التى نشهدها الآن ليست بعيدة تماما عن السيناريوهات التى وصفها بيركينز وكلاين، ويمكن توقع ما سوف يحدث فى الأيام المقبلة، خاصة بعد تحذير رئيس البنك الدولى والعرض السخى الذى تلاه مقدما من رئيس صندوق النقد الدولى.

فما العمل؟ هل نستسلم الى إغراء الأموال المتدفقة؟ أم نستسلم لعواقب الأزمة الطاحنة؟ أننا لسنا بحاجة لا للحل الأول ولا للثانى، بل يمكن تأمل حلولا أخرى كثيرة سبقتنا إليها دول أخرى فى أمريكا اللاتينية والصين وغيرها، يمكن أن نختار منها ما يناسبنا. وبداية علينا وضع الأسس التى سوف نسير عليها، والتى يمكن تلخيصها فى نقطتين: أولا الاعتماد على أنفسنا وعلى قدراتنا الذاتية مهما كانت متواضعة للتخلص من قبضة المؤسستين الدوليتين؛ وثانيا، تأمل الفكرة التى يطرحها محمد يونس الحائز على جائزة نوبل فى السلام فى العام الماضى، وصاحب بنك الفقراء فى بنجلادش. فيعترض يونس على الرأسمالية التى تضع الربح والنمو السريع فى أولوياتها الأساسية، ويرى أن ذلك هو ما أفرز الأزمة الحالية؛ ودعا الى وضع الفائدة الإنسانية والبشرية لتكون هى الهدف والحافز الأساسى للرأسمالية، بجانب الربح المعقول؛ ودعا الى استثمار الأموال فى شئ ذات معنى من اجل تحسين نوعية الحياة للمجتمع كله وليس فئة واحدة منه.
يرى محمد يونس ان الرأسمالية الحالية تدهورت لتصبح مجرد ناديا للقمار، فساد الجشع الأسواق المالية، ووصلت المضاربات الى نسب كارثية، ودعا الى وقف كل ذلك، وربط الاستثمارات بالاقتصاد الحقيقي وبأصول واقعية، وليس بقصور فى الهواء. لان الأزمة الحقيقية تظهر عندما يعيش المواطن يحلم بقصور فى الهواء، ثم يدرك فى لحظة أن تلك القصور ليس لها وجود.

No comments: