6 Nov 2008

عصر جديد فى امريكا


لا تتوان الولايات المتحدة فى إدهاش العالم. وفى 4 نوفمبر صنعت مرة أخرى التاريخ عندما أعطت الفوز بالرئاسة لأول امريكى من أصول افريقية، ليصل عصر من العنصرية الى نهاية الطريق، ويحقق باراك اوباما "الحلم" الذى كان يحلم به مارتن لوثر كينج وجيل كامل من السود فى الستينات.
والتساؤلات تطرح بشدة: لماذا فاز اوباما الأسود؟ ما الذى يستطيع أن يغيره من سياسات أمريكا فى الخارج؟ هل الرسالة ستبقى والذى يتغير هو حامل الرسالة؟ إن فوز اوباما يعنى أن الناخب الامريكى رفض كل ما يمثله جون ماكين، وهو أساسا شيئين مهمين: فقد رفض الناخب الامريكى الفكر الجمهورى الذى يمثله ماكين والذى بالضرورة سيكون امتدادا لسياسات جورج بوش، الذى اعتبر فى كل الاستطلاعات أسوأ رئيس فى تاريخ الولايات المتحدة. وهو الفكر الذى يمتد من الهيمنة الإمبريالية فى العالم الى اقتصاد السوق الحر بالكامل؛ والذى يمتد من العنجهية وعقاب كل من يعارض سواء كانت دولة صغيرة أو كبيرة، الى خلق مناخا من الخوف فى الداخل وفى الخارج للحصول على تفويض لتطبيق سياسات غير شعبية؛ والذى يمتد من ممارسة الأكاذيب الدائمة والمستمرة على كل المستويات لإقناع الرأى العام بشرعية سياساته، الى إعطاء العالم صورة كريهة للولايات المتحدة فى أنحاء العالم.
كما رفض الناخب الامريكى بأغلبيته الساحقة ما يمثله جون ماكين من توجه عسكرى، رافضا بذلك سياسة الحرب التى انتهجها بوش على جميع الجبهات، بعد أن شن حربه الشهيرة ضد الإرهاب. فلم يتوان جون ماكين على امتداد حملته الانتخابية فى التركيز على تاريخه العسكرى فى فيتنام وعلى فترة أسره فى سجونها وعذابه وتعذيبه، فى محاولة لان يستمد شرعيته من العسكرية. ولكن فى 4 نوفمبر كانت رسالة الناخب الامريكى رفض تلك الشرعية التى ورطت جنوده وأبناءه فى حروب غير كريمة فى أفغانستان وفى العراق بكل ما تكشف عن خبايا تلك الحروب من ممارسات دونية شوهت صورة الشرف العسكرى، سواء من جنودها المرتزقة أو قواتها النظامية.
لذلك كان توجه الناخب الامريكى الى المرشح الديمقراطى الذى قرر أن يكون ما يمثله هو العكس تماما عما يمثله غريمه الجمهورى. فان اوباما هو امتداد لتاريخ من الصراع العرقى للحصول على الحقوق المدنية وانتزاع الاحترام لأمريكيين من أصول افريقية، وان كان اوباما من أب أفريقى فهو يتمتع بميزة كبيرة، وهو انه ليس من سلالة عبيد، فان والده كان كينيا حرا جاء الى الولايات المتحدة ليدرس، وتلك نقطة مهمة فى اختياره؛ ولكن اوباما ليس الماضى، بل هو يمثل أيضا المستقبل، سواء من خلال الجيل الذى ينتمى إليه حسب عمره، 47 عاما، أو مستقبل بلاد قال عنها اوباما: "إنها ليست ولايات بيضاء أو ولايات سوداء أو ولايات زرقاء، بل هى الولايات المتحدة" التى تضم كل أنواع الجنسيات والأعراق والمذاهب، والتى صنعت من قبل وتصنع دائما ما تتميز به.
هل ستتغير أمريكا فى ظل رئاسة اوباما؟ فى الداخل ستتغير أمريكا بكل تأكيد، فان السياسة الاجتماعية والاقتصادية والمالية التى سينتهجها باراك اوباما الديمقراطى هى مختلفة عن سياسة الجمهورى؛ فإن كان الأخير يهتم بالطبقات الرأسمالية على أساس أن الخير الذى يعم فى القمة سوف ينتقل بالضرورة الى أسفل، فإن الديمقراطيين يعملون مباشرة مع الطبقات الأقل حظا فى تطبيق سياسات الضرائب أو التأمين الاجتماعى، كما أن تدخل الإدارة الفيدرالية سيأخذ حيزا اكبر مما كان عليه الوضع فى عصر رئاسة الجمهوريين، خاصة بعد أن اعترف آلان جرينسبان، وزير الخزانة الأمريكي السابق والرجل الذى تبنى سياسة السوق الحر بكل حذافيرها، بفشل تلك السياسة.
أما خارجيا، فهناك الكثير من علامات الاستفهام. خاصة فيما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين وفى سياساتها تجاه القوى الواعدة الأخرى مثل الصين وروسيا والهند، أو فى الشرق الأوسط، أكثر المناطق التهابا. أن السياسات الكبرى بالنسبة للدول، لا يمكن أن تتغير بسرعة مع تغيير القاطن فى مبنى الرئاسة، لأنها تحكمها بالضرورة التزامات دولية كبرى من الصعب تغييرها ما بين ليلة وضحاها. وذلك ينطبق أيضا على البيت الأبيض. ولكن أن كان هناك مؤسسة تضع السياسات الأمريكية وعلى الرئيس تطبيقها، فان من المتوقع أن يضع باراك اوباما بصمته وأسلوبه على تلك السياسة، من خلال اختياره لمستشاريه ومن خلال شخصيته الايجابية.
لذلك فمن المتوقع أن تبقى السياسات التى وضعها بوش من قبل، وبالذات الحرب ضد الإرهاب وملاحقة القاعدة، ولو الى حين؛ ولكن أمريكا ستحاول فى الفترة المقبلة أن تحسن من صورتها التى تشوهت تماما فى عصر بوش. لذلك فان اوباما سيغير الأسلوب الذى تتعامل به أمريكا مع الخارج، ويصبح الحوار والنقاش هو السمة الأساسية فمع حلفاءه الأوروبيين. من المتوقع أن يكون هناك حوارا أكبر ونقاشا بين الآراء مع الحق فى الاختلاف بدون الخوف من العقاب.
أما بالنسبة للشرق الأوسط والعلاقات مع إسرائيل، فان عوامل كثيرة تحكمها، وتربطها علاقات عضوية خارجية وداخلية، تزيد تعقيداتها. فلن ننسى أن أول خطاب ألقاها اوباما بعد إعلانه رسميا ترشيحه للرئاسة كان فى اكبر مركز للوبى الإسرائيلى فى الولايات المتحدة، الايباك، حيث أعلن انه سيعمل من اجل أن تكون القدس العاصمة الموحدة لإسرائيل. هل كان ذلك محاولة لجذب الاهتمام والمساندة اليهودية؟ هل هى ذلة لسان؟ أم إنها سياسة حقيقية؟ ذلك ما يجب أن تعمل الدول والحكومات العربية والفلسطينية على اكتشافه.
أن على باراك اوباما مهمة صعبة لتغيير ثمانى سنوات من السياسة الخطأ، وحملا ثقيلا لأجيال وأجيال من الصراع العرقى، ومسئولية وضعت على عاتقه يجب أن ينجح فيها وإلا سيقال انه فشل لأنه أسود وليس لأى سبب أخر.

No comments: