17 Oct 2012

كتاب "انتقام الجغرافيا" وكيف حددت الجغرافيا التاريخ

قد تكون الجغرافيا هى التى تحدد شخصية شعب ما، وتشكل المجتمع الذى يعيش فيها؛ ولكن الجغرافيا يمكنها ايضا ان تشكل التاريخ ومصائر الشعوب. بل ويمكن بدراسة الجغرافيا ان نفهم الحروب التى ستقع فى المستقبل، وكيف يمكن التصدى لها. ولكن منذ سقوط حائط برلين فى نهاية الثمانينات، والذى كان يمثل العائق من صنع البشر، وبعد سيادة عقيدة العولمة وسقوط الحدود بين الدول وتصور فوكوياما لنهاية التاريخ حيث تسود الديمقراطية فى كل مكان، نسينا العوائق الطبيعية التى لازالت تحيط بنا وتقسمنا. ونسينا ان العولمة ليست نظام يضمن السلام والامن الدولى، بل هى مجرد مرحلة اقتصادية وثقافية للتنمية. هذا ما أراد روبرت كابلان ان يثبته فى كتابه الاخير الذى صدر بعنوان "انتقام الجغرافيا" والذى قام فيه برحلة عبر التاريخ من الماضى البعيد ليعود الى الحاضر ليحاول فهم المستقبل. فمن الماضى اوضح كيف كانت الجغرافيا تتحكم فى التاريخ وفى العلاقات بين الدول والشعوب مشيرا الى محاور عديدة عبر هذا التاريخ، ويشير كيف استطاع خبراء الجغرافيا توضيح ما عجزت عن فهمه العولمة. فكان يقوم بدراسة المناطق الساخنة فى العالم من خلال دراسة مناخها والطبوجرافيا فيها وقربها للاراضى التى تشهد صراعات. وروبرت كابلان، كاتب وصحفى بجريدة ذا اتلانتك الامريكية، كما انه كبير الخبراء الجيوسياسيين فى معهد ستراتفورد للمعلومات الدولية، ونشر نحو 14 كتابا عن السياسات الخارجية الامريكية والعلاقات الدولية. جبال العراق تحد من سلطة صدام بشكل عام يرى كابلان ان الجبال تعكس قوة قديمة، تحمى بين ممراتها احيانا ثقافات محلية فى مواجهة العقائد التحديثية الشرسة التى غالبا ما كانت تغزو الاراضى المسطحة، حتى وان قامت تلك الجبال احيانا بمنح الميليشيات الماركسية والمافيا فى عصرنا الحديث المأوى من اعدائهم. وينقل كابلان كلمات جيمس سكوت، خبير علم الانسان بجامعة ييل، حول شخصية "شعوب الجبال الذين قد ينظر اليهم على انهم هاربون أو لاجئون او على انهم مجتمعات معزولة؛ فقد عاشت خلال الفين عام تحاول الهروب من رجال الدولة الذين يطبقون سياساتهم فى مناطق السهول". اما فى أفغانستان وباكستان، فكان للجبال دروس اخرى. تلك الجبال التى وصفها البريطانيون اولا بانها "الحدود الشمالية الغربية" لم تكن حدودا بالمعنى المفهوم على مدى التاريخ كما قال البروفيسور سوجاتا بوس بجامعة هارفارد، "ولكنها، كما وصفها، قلب سلسلة من الجبال الهندية الفارسية، والجبال الهندية الاسلامية، وهى السبب الذى من اجله قامت كل من افغانستان وباكستان بتشكيل كيان عضوى كامل، يساهم فى تقسيمهم الى دول من خلال جغرافيا غير متجانسة". كان للجبال قصة اخرى فى اوروبا، فقد كتب المؤرخ جولو مان كيف ان الالمان عاشوا دائما داخل سجن كبير شكلته الجغرافيا. ثم أرادوا التحرر منه من خلال احتلالهم قلب اوروبا ما بين الشمال وبحر البلطيق وجبال الألب. ولكن بالنسبة لهم الشمال كان محدد بالجبال والجنوب بالمياه، فكان المهرب الوحيد لهم هو الاتجاه الى الشرق والى الغرب حيث لا توجد عوائق جغرافية. أما فى العراق، فيرى كابلان كيف ان جبال العراق قامت دوما بالحد من سلطة صدام حسين الرئيس العراقى السابق، وقد حاول صدام ان يقاوم تلك العقبة بكل الاجراءات التعسفية التى يستطيعها. يقول كابلان ان صدام فى فترة الثمانينات غضب بسبب الحرية التى منحتها تلك الجبال للأكراد عبر التاريخ والقرون، فقام صدام بهجوم شامل على الاكراد العراقيين والتى عرفت بحملة الانفال والتى راح ضحيتها مئة الف مدنى. وبالرغم من ان صدام اسستطاع ان يثبت ان الجغرافيا لا تستطيع منع الانسان تماما من تغيير مصير البشر، الا ان تلك الجبال كانت السبب الاساسى لتلك المأساة. وبسبب تلك الجبال ابتعدت منطقة كردستان من الدولة العراقية الى حد بعيد. الربيع العربى والجغرافيا تمر حاليا منطقة الشرق الاوسط، من المغرب وحتى افغانستان فى أزمة فيما يتعلق بالعلاقة مع السلطة المركزية. فقد اصبحت النظم القديمة المستبدة غير مستقرة، فى الوقت الذى لازال الطريق نحو الديمقراطية غير مستقيم. فى المرحلة الاولى من تلك الاضطرابات العظيمة ظهر هزيمة الجغرافيا أمام قوة تكنولوجيا الاتصالات الحديثة. فقد خلقت التكنولوجيا الحديثة المتثملة فى القنوات الفضائية والشبكات الاجتماعية ومواقع الانترنت مجتمعا واحدا من المعارضين عبر العالم العربى: وهكذا وجد نوعا من التكتل الاجتماعى ضد الاوضاع السياسية بكل من مصر واليمن وتونس والبحرين، ولكن مع استمرار التمرد، اصبح من الواضح ان كل دولة قامت بوضع تصورها هى لثورتها، والذى من ناحيته تأثر بتاريخها وجغرافيتها العميقة. فكلما تعرفنا على تاريخ وجغرافية أى من دول الشرق الاوسط، كلما قلت دهشتنا من تطور الاحداث فيها. يقول كابلان انه قد يكون من الصدفة جزئيا ان الثورة بدأت فى تونس. فان الخرائط القديمة تظهر تمركز مستوطنات فى المنطقة التى توجد فيها تونس اليوم، شييدت بجوار مساحة شاسعة خالية الى حد ما والتى تمثل الجزائر وليبيا اليوم. وبسبب وجودها عند سواحل البحر المتوسط وبالقرب من صقلية، فان تونس اصبحت هى الماوى السكانى فى منطقة شمال افريقيا، ليس فقط خلال عصر قرطاجة والرومانيين، ولكن ايضا عبر عصور البيزنطيين والعرب والاتراك. وفى حين كانت كل من الجزائر غربا وليبيا شرقيا مجرد مساحة جغرافية ذات تعبيرات غامضة، فان تونس كانت دوما مركزا لحضارات قديمة. أما بالنسبة لليبيا، فقد كانت المنطقة الغربية منها والتى بها طرابلس، تتجه عبر التاريخ نحو تونس، بينما أتجهت منطقتها الشرقية، بنغازى، نحو مصر. لذلك فقد كانت المنطقة الاقرب الى قرطاجة طوال الفى عام، تتمتع بمستوى عال من التنمية، لان العمران بدأ فى تونس قبل الفى عام، بينما كانت الهوية البدوية التى قال عنها ابن خلدون انها كانت تمنع الاستقرار السياسى، تضعف التنمية فى المنطقة الشرقية. فى عام 202 قبل الميلاد، عندما انتصر سكيبيو على هانيبال بالقرب من تونس، قام بحفر خندق حدد نهاية الاراضى المتحضرة. هذا الخط لازال حتى اليوم قائما فى الشرق الاوسط، وهو لازال واضحا فى بعض المناطق فهو يمر من طبرق على الساحل شمال غربى تونس الى الجنوب ثم يتجه الى الشرق نحو صفاقس، ميناء اخر على المتوسط. أما المناطق التى تقع خلف هذا الطريق فلم تشهد فيها اثار رومانية وهى اليوم الاكثر فقرا والاقل تطورا، وفيها اعلى نسبة من البطالة. أما مدينة سيدى بوزيد التى بدأ منها التمرد فى تونس فى ديسمبر عام 2010، فهى تقع خلف خط سكيبيو مباشرة. يقول كابلان انه يحاول هنا ان يعطى للاحداث التى وقعت مؤخرا، فى المنطقة البيئة لجغرافية والتاريخية لها: فقد بدأ التمرد العربى من اجل الديمقراطية فى المجتمع الذى اعتبر تاريخيا اكثر المجتمعات العربية تقدما، واكثرها قربا من اوروبا؛ ولكن ايضا بدأ التمرد بشكل خاص فى هذا الجزء من البلاد الذى ظل منذ التاريخ القديم منسيا وعانى كثيرا من نتائج سوء التنمية. هذه المعلومات يمكنها ان تضيف عمقا على ما حدث فى المناطق الاخرى: سواء كان ذلك فى مصر، دولة أخرى شهدت على حضارات قديمة وتاريخ طويل عرفت فيه نظام الدولة؛ او اليمن التى تعتبر القلب السكانى لشبة الجزيرة العربية، والتى ظلت تحاول توحيد اراضيها، ولكنها كانت دوما تصطدم بطبوجرافية جبلية ممتدة عملت على اضعاف الحكومة المركزية وبالتالى دعمت اهمية النظام القبلى والجماعات الانفصالية؛ او سوريا التى ادى شكلها المبتور على الخريطة الى احتواء انقسامات داخلية على اساس الهوية العرقية والطائفية. ان الجغرافيا تشهد على ان تونس ومصر يتمتعان بتماسك تدعمه الطبيعة؛ بينما تشهد الجغرافيا فى كل من ليبيا واليمن وسوريا على انهم اقل تماسكا. لذلك يمكن القول ان كل من تونس ومصر احتاجا الى اشكال بسيطة نسبيا من النظام الاستبدادى حتى يبقيهما فى وحدة متماسكة، بينما تحتاج ليبيا وسوريا الى اشكال مختلفة عديدة من الاستبداد. ولكن الجغرافيا جعلت من الصعب دوما حكم اليمن. فان اليمن حسب قول الخبراء، تعتبر مجتمعا "مجزءا، تتداخل فى طبيعته الجبال والصحارى. لذا فهو مجتمع ظل يتأرجح ما بين المركزية والفوضى، وهو مجتمع حسب قول الخبراء، يحكمه بالضرورة نظام يقوم على "استنزاف الحياة منه"، ولانه يعانى من "هشاشه داخلية" فهو يفشل دائما فى اقامة مؤسسات تدوم. ان القبائل هنا قوية والحكومة المركزية ضعيفة بالمقارنة بهم. والصراع من اجل بناء نظم ليبرالية فى مثل تلك المناطق لن ينفصل عن هذا الواقع. بينما تتابع الاضطرابات ويبدو العالم وكأنه خارج السيطرة، ومع تصاعد التساؤلات حول كيفية يمكن للولايات المتحدة وحلفائها الرد على تلك الاوضاع، فان الجغرافيا تمنح وسيلة لكى على الاقل نفهم شيئا مما حدث. فعلينا ان ننظر فى الخرائط القديمة، ونقرأ تحليلات من خبراء الجغرافية وعلماءها القدماء الذين عاشوا فى العصور السابقة، يمكننا ان نرى مستقبل هذا الكون فى القرن الواحد والعشرين. فبالرغم من التطور التكنولوجى الذى لغى الحدود بين الدول، الا ان جبال الهند لازالت تمثل عائقا ضخما. لقد شهد عالمنا تغييرات جغرافية كثيرة عبر تاريخه، وشهد صعود وسقوط نظم ديكتاتورية عديدة، مما يؤكد دوما على هشاشة تلك النظم. ولكن يقول كابلان، ان الشئ الوحيد المستقر والباقى هو وضع الشعوب على الخريطة؛ لذا ففى زمن الاضطرابات الشئ الوحيد المهم هى الخرائط. فعندما تتحرك الارض السياسية بعنف من تحت اقدامنا، تظل الخريطة، حتى ولو لم تكن مؤكدة، هى نقطة البداية لتحديد منطق تاريخى حول ما يمكن ان يأتى به المستقبل.

No comments: